طلاسم ايليا ابي ماضي
جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيتُ
ولقد أبصرت قُدّامي طريقا فمشيتُ
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيتُ
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست ادري
أجديد أم قديم أنا في هذا الوجودْ
هل أنا حرٌ طليقٌ أم أسيرٌ في قيودْ
هل أنا قائدُ نفسي في حياتي أم مقود
أتمنّى أنني ادري ولكن
لست أدري!
وطريقي ما طريقي أطويلٌ أم قصير
وهل أنا أصعد أم أهبط فيه أم أغور
أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير
أم كلانا واقفٌ والدهر يجري
لستُ أدري!
أتراني قبلما أصبحتُ إنسانا سويا
أتراني كنت محواً أم تراني كنت شيئا
ألهذا اللغز حل أم سيبقى أبديا
لست أدري، ولماذا لست أدري؟
لست أدري!
قد سألت البحر يوما هل أنا يا بحر مِنكا
هل صحيح مارواه بعضهم عنِّي وعنكا
أم ترى ما زعموا زورا وبهتانا وإفكا
ضحِكَتْ أمواجُه مني وقالت
لست أدري!
أيها البحر أتدري كم مضت ألفٌ عليكا
وهل الشاطئ يدري أنه جاث لديكا
وهل الأنهارُ تدري أنها منك إليكا
ما الذي الأمواج قالت حين ثارت
لست أدري!
كم فتاةٍ مثل ليلى وفتىً كابن الملوّحْ
أنفقا الساعات في الشاطئ، تشكو وهو يشرحْ
كلّما حدَّث أصغتْ وإذا قالت ترنّح
أحفيف الموج سر ضيعاه؟
لست أدري!
إن في صدري يا بحرُ لأسراراً عجابا
نزل السِّتر عليها وأنا كُنت الحِجابا
ولِذا أزدادُ بُعداً كلّما ازددتُ اقترابا
وأُراني كلمّا أوشكت أدري
لست أدري!
فيك مثلي أيها الجبّارُ أصداف ورملُ
إنّما أنت بلا ظلِّ ولي في الأرض ظلُ
إنما أنت بلا عقل ولي يا بحرُ عقلُ
فلماذا يا ترى أمضي وتبقى؟
لست أدري
كم ملوكٍ ضربوا حولَكَ في الليلِ القبابا
طلعَ الصبحُ ولكنْ لم تجدْ إلا الضبابا
ألهم يا بحرُ يوماً رجعةٌ أم لا مآبا؟
أهمُ في الرملِ قال الرملُ : إنِّي
لست أدري
يرقصُ الموجُ وفي قاعِكَ حربٌ لن تزولا
تخلقُ الأسماكَ لكنْ تخلقُ الحوتَ الأكولا
قد جمعتَ الموتَ في صدركَ والعيشَ الجميلا
ليتَ شعري أنتَ مهدٌ أم ضريحٌ؟
لست أدري
قيل لي في الدير قومٌ أدركوا سرَّ الحياةْ
غيرَ أني لم أجدْ غيرَ عقولٍ آسناتْ
وقلوبٍ بليتْ فيها المنى فهْيَ رفاتْ
ما أنا أعمى فهل غيريَ أعمى؟
لست أدري
قيلَ أدرى الناسِ بالأسرارِ سُكّانُ الصوامعْ
قلتُ إن صحَّ الذي قالوا فإنَّ السرَّ شائعْ
عجباً كيف ترى الشمسَ عيونٌ في براقعْ
والتي لم تتبرقعْ لا تراها
لست أدري
إن تكُ العزلةُ نُسكاً وتقىً فالذئبُ راهبْ
وعرينُ الليثِ دَيرٌ حُبُّه فرضٌ وواجبْ
ليت شعري أيميتُ النسكُ أم يُحيي المواهبْ؟
كيفَ يمحو النسكُ إثماً وهْوَ إثمُ ؟
لست أدري
قد دخلتُ الديرَ أستنطقُ فيه الناسكينا
فإذا القومُ من الحيرةِ مثلي باهتونا
غلبَ اليأسُ عليهم فهُمُ مستسلمونا
وإذا بالبابِ مكتوبٌ عليه
لست أدري
ان يك الموت قصاصا ً اي ذنب للطهارة
واذا كان ثوابا ً ، اي فضل ٍ للدعارة
واذا كان وما فيه جزاءٌ او خسارة
فلمَ الاسماء اثم ٌ وصلاح ٌ
لست ادري
ايها القبر تكلم واخبريني يا رمام
هل طوى احلامك الموت وهل مات الغرام
من هو المائت من عام ومن مليون عام
ايصير الوقت في الارماس محوا ً
لست ادري
ان يك الموت رقاداً بعده صحوٌ جميل
فلماذا ليس يبقى صحونا هذا الجميل
ولماذا المرء لا يدري متى وقت الرحيل
ومتى ينكشف الستر فندري
لست ادري
ان يك الموت هجوعا يملأُ النفس سلاما
وانعتاقا لا اعتقالا وابتداءً لا ختاما
فلماذا اعشق النوم ولا اهوى الحمام
ولماذا تجزع الارواح منه
لست ادري
أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور
فحياة فخلود ام فناءٌ فدثور
أكلام الناس صدقٌ ام كلام الناس زور
أصحيح ٌ ان بعض الناس يدري
لست ادري
ان اكن ابعث بعد الموت جثمانا وعقلا
اترى ابعث بعضا ام ترى ابعث كلا
اترى ابعث طفلا ام ترى ابعث كهلا
ثم هل اعرف بعد البعث ذاتي
لست ادري
يا صديقي لا تعللني بتمزيق الستور
بعدما اقضي فعقلي لا يبالي بالقشور
ان اكن في حالة الادراك لا ادري مصيري
كيف ادري بعدما افقد رشدي
لست ادري
انني جئتُ وامضي وانا لا اعلم ُ
أنا لغزٌ، وذهابي كمجيئي طلسمُ
والذي اوجد هذا اللغز لغزٌ مبهمُ
لا تجادل ..ذو الحجى من قال اني
لست ادري ......
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عندما قرأت هذه القصيدة حسبت ان قائلها
من الموحدين والعرفاء، وأن ما قالت عنه الناس أنها طلاسم هي لم تكن أبدا بطلاسم وأنه
قد قال ضمنا وأجاب في تلك الأبيات عن الأسئلة الخالدة الثلاث
من اين؟ وفي اين؟ والى اين؟
فهو قد كنّى في تلك الابيات عن المصدر بالبحر،
فالمصدر كل شيئ يصدر منه ويعود إليه في
قوس صعود ونزول
تماما كما أن الأنهار والأمطار وكل شيئ
حي هو من البحر في قوس صعود ونزول
فالإنسان هو أيضا أصله من البحر، فتسعون بالمائة منه هي من الماء
وكان قد قال قبلها أنك يا بحر أقدم من الجميع
وجودا وكانه يقول وكان عرشه على الماء، فالماء قديم قدم العرش
وشبه الأمواج البحرية برسائل المصدر لمن
هم في وسط البحر ولمن يجلس على شاطئه من العشاق والوالهين المتفكرين بالمصدر ووصف كيف
أنهم يحاولون كشف أسرار ورموز رسائل البحر لهم والتي هي الأمواج
ثم يقول إن صدري حوى من أسرارك التي أوصلتها
لي يا بحر اسرارا كثيرة لا أستطيع أن أكشف عنها للناس وإلا لقالوا إني أعبد الصنما،
وزاد أن العارف الحقيقي هو الذي يقر أنه
لا يستطيع أحد بمفاهيم مخلوقة أن يقول أنه قد فهم وأحاط بحقيقة خالق تلك المفاهيم،
فكيف للمخلوق أن يحيط بالخالق، وأكّد على
أن العارف الحقيقي هو من يجيب على سؤال هل دريت خالقك بأنني برغم طول تفكري وتدبري
كلما حسبت أنني صرت أدري اكتشفت بعد برهة أنني بعد لم أدري.
ثم قال مخاطبا البحر: فيك مثلي أيها الجبّارُ
أصداف ورملُ،، وكأنه يريد أن يقول فيّ انطوى العالم الأكبر، فأنا من البحر والبحر مني
ثم قال للبحر: أيها البحر، إنك شيء ليس
كالأشياء، وانه ليس مثلك شيئ، فجميعها لها ظلال وأنت ليس لك ظل
ثم قال للبحر ويقصد المصدر: يا مصدر ليس
لك عقل فأنت هو خالق العقل فكيف يمكن لك أن تكون محتاج لما أنت تخلقه، فبالتأكيد أنت
لا عقل لك بينما أنا لي عقل خلقته أنت لي لأفهم وأشاء به
ثم قال فلماذا يا ترى أمضي أنا وتبقى أنت؟
وكأنه يرجعنا لقوله السابق كل شيئ هو منك يصدر ويعود إليك،
وكأنه يريد أن يقول أنني سأعود لأفنى بك
((الفناء بالله)) في نهاية قوس صعودي
أو كأنه يشير لقوله تعالى إنا لله وانا
إليه راجعون، وحين قال لا أدري فوحده الذي سيعود سيستطيع أن يفهم معنى ومغزى الرجوع
فجميع أبيات القصيدة تريد أن تقول: من النور
وفي النوره وإلى النور
وكأنه يريد أن يقول بوحدة النور
وحيث أن اكثر الناس للحق كارهون ويرون نفسهم
بالكثرات متكثّرة ومتكثرتة ومُكثرتة فلا يمكنها أن تتصور الوحدة في النور بأي شكل من
الأشكال فلذلك قالت عن هذه الكلمات أنها طلاسم مطلسمة
والحق ما قاله في أهل الدير من أنّ عقولهم
آسنات، فجلهم غارق في الكثرات وفي حب الذات
فالحكمة تُدرك بقليل من التفكر، فما لهم
قلوبهم عمياء لم يدركوها؟
وتسائل هل على قلوبهم من أقفال؟ وأجاب بنفسه
على تساؤله هذا فقال لست أدري، وهو محق بهذا الجواب، فمن يدري أنهم سيبقون على هذا
الحال، فقد يهتدون بالمستقبل لما اهتدى هو إليه الآن
وهو عندما وصل للنسّاك وتقصّى حالهم وجدهم
في نفس حيرته لا يدرون، ومن يستطيع أصلا أن يدري
وعندما وصل للموت قال إن الموت ولكونه يطال
المؤمن والكافر أيضا، فهو ليس جزاء وثواب، ولكنه باب للمعرفة، لمعرفة أسماء الله، أسماء
الرحمة وأسماء النقمة
واستمر بإشاراته العرفانية أو التوحيدية
التي لن يفهمها إلا الذي يدرك أنه لا يدري، ولن يدري أبدا
أمّا الذي يعتقد أنه يدري فهذا جاهل جهله
مركب
ثم يختم بنفس قوله الذي بدء به من أنه جاء
وسيذهب بدون أن يدري ما سر البحر، ما سر المصدر
وجميع العرفاء يقولون دائما وأبدا أن غاية المعرفة
هي أن تقول:
لا أدري
ولن أدري
ولن أستطيع أبدا أبدا أن أدري
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.
وصلّى
الله على خير خلقه أجمعين محمّد وآله الطّيبين الطّاهرين
.
..
...
....
.....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق