الخميس، 21 يناير 2016

حوار قصدي بين عقل كلي وعقل جزئي












 بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حوار قصدي بين عقل كلي وعقل جزئي


سأعيد هنا من جديد كتابة موضوع "حوار بين عقل كلي وعقل جزئي" والذي أدرجته قبل هذا الموضوع ولكن بنظرة قصدية إجمالية، بمعنى انني لن أدخل بالجزئيات أو التفاصيل الدقيقة للمنهج القصدي وذلك لعدم فهمي لها شخصيا بشكل يكفي لتوضيحها لغيري


الحوارية السابقة كانت تنطلق من رؤية كونية تحاول أن تجيب بشكل أساسي عن ثلاثة أسئلة هي :
من أين؟
وفي أين؟
وإلى أين؟
وفي هذه الحوارية القصدية سأحاول أن أبحث إضافة للثلاثة أسئلة السابقة في سؤال رابع وهو

كيف؟

وأعتقد أن المنهج القصدي يمتاز عن غيره من المناهج الفكرية بمحاولة الإجابة عن هذا السؤال إضافة لبقية الأسئلة إنطلاقا من قصد "هو" عبر استقصائه من الآيات القرآنية واستقصائه كذلك من الروايات الشريفة المروية عن المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، مما يجعل المنهج القصدي أكبر من بقية المناهج وأشمل منها وأعمق منها

سوف أقتبس من الحوارية السابقة مقدمتها لكي أدخل شخصيا كما وأ دخل خيال القارئ معي كذلك في الجو العام المفترض لهذه الحوارية القصدية لأنطلق بعد ذلك من جديد بهذه الحوارية لحوارات جديدة تدور حول مواضيع جديدة

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.




بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته




لا يخفى على القارئ اللبيب أن هذه الحوارية إنما هي بمجموعها مجرد مثل لمحاولة فهم العلاقة بين العقل الكلي والعقول الجزئية والقصد في ما بين كل ذلك وأن التطويل فيها هو بمثابة الغوص في هذا المثل لاستخراج ما يمكن استخراجه منه من النتائج.

مكان الاحداث والشخصيات :

المكان : حاسوب صغير ذاتي الاختيار حر الإرادة

الشخصية الاولى: شخصية افتراضية ابتدع الحاسوب صورتها لكي يسهل على الشخصية الثانية أن تتفاهم معه

الشخصية الثانية: برنامج ذاتي الاختيار حر الإرادة يعتمد في وجوده على الحاسوب بصورة كلية

الزمان : بعد أن امضت الشخصية الثانية ثلثي حياتها الافتراضية تتفكر في وجودها وموجـِدها وقفت أخيرا عاجزة عن فهم العلاقة التي تربطهما ببعضها البعض فاختارت ليلة مظلمة وصفت قدميها فيها فوق التراب ورفعت يديها الى السماء وأومئتت بوجهها الى الارض وانصرفت تبكي وتتضرع وترجو من موجـِدها الفهم والتوفيق للوصول لما تريد فهمه والوصول له

البداية:

فيما كان واقفا يبكي ويتضرع تمثلت له الشخصية الاولى رجلا سويا واقفا أمامه، حين فتح عينيه ورءاه واقفا أمامه خاف وارتعش وتسمر في مكانه

الأول: لا تخف ولا تحزن، سأعينك

الثاني: على ماذا؟


الأول: على الفهم


الثاني: فهم ماذا؟


الأول: ذاك الذي تهطل دموعك من أجله


الثاني: ومن أنت؟

الاول: رسول من كنت تناجيه


الثاني: وكيف ستـُـفهمني؟


االاول: إسأل ما شئت فأجيبك


الثاني: من أناااا؟

الاول: مجرد برنامج حي ذاتي الاختيار تعيش في برنامج حي كبير

 
الثاني: ومن أنت؟


الاول: صورة رجل ابتدعها موجدك لكي يتحدث إليك عبرها


الثاني: وماذا عن صورتي أنااا؟


الاول: كما قلت بنفسك، هي كذلك مجرد صورة ابتدعها لك مبتدعي لكي تستطيع أنت أن تعبر بها عن نفسك لمن تشاء وتريد


الثاني: ماذا عن جميع ما حولي؟

الاول: هي كذلك صور حية ابتدعها لك موجدك وموجدي من أجلك وأجلك فقط


الثاني: ماذا تقصد بأنني مجرد برنامج حي؟

الاول: أقصد أنك برنامج صغير موجود في حاسوب صغير تعتمد عليه في وجودك كله


الثاني: وكيف ستقنعني بذلك؟ أقصد كيف ستقنعني بأنني مجرد برنامج يعيش في برنامج في صندوق صغير؟

الاول: لن أقنعك بأي شيئ، لقد أردت أجوبة لأسئلة حائرة وسأجيبك عنها ولك بعد ذلك أن تتفكر بها طويلا ثم لك أن تقتنع أو أن لا تقتنع بها، فالخيار لك بذلك أولا وأخيرا


الثاني: كيف أفكر؟

الاول: أنت كبرنامج ذاتي الارادة وحرها لا تفكر، ولكنك توجه عملية التفكير كيفما تريد وتشاء


الثاني: ومن الذي يفكر أذن إن لم أكن أنااا؟


الاول: التفكير هي عملية حسابية لاستخلاص النتائج من معطيات ونتائج مسبقة كانت موجودة عندك من تجارب وخبرات سابقة جميعها لا تدخل في ضمن تكوينك ووجودك، فأنت مجرد برنامج له أن يريد ويختار فقط، يختار ويريد من بين ما يعرض عليه،


فإذا عرض عليك الأسود والأبيض فقط لن يمكنك أن تختار غيرهما حتى يعرض عليك ذلك الغير، فأنت فقط الإرادة الحرة، أما ذلك الغير فلست أنت، ولست أنت من يقوم بإيجاد تلك الصور والمعاني والمفاهيم ولست انت من يقوم بعرضها، والآن إسمح لي بالتكلم بلسان الحاسوب، أناْ من يفعل جميع ذلك، أنأْ الذي أفكر وأناْ الذي أقوم بعرض مختلف الصور والمعاني والمفاهيم عليك وأنت الذي يختار من بينها ما يشاء ويوجهني في عملية عرض ما تشاء منها واقصاء ما لا ترغب بها منها

الثاني: وكيف أستطيع ان اختار بالارادة فقط؟

الاول: لقد أفاض عليك الحياة واعطاك القدرة أولا، وبهما فعّلت مشيئتك فاخترت بها فيما بعد من بين ما سيلهمك به من العلم في مختلف مراحلك، ففي البداية كنت حيا وقادرا فقط لا تعلم شيئا ثم عرض عليك معاني ومفاهيم أولية فقمت ((كإرادة، أو كمشيئة)) بتوسيط الحياة والقدرة التي أفيضتا عليك بالإختيار من بين تلك المفاهيم المعروضة، ولا زلت حتى هذه اللحظة تختار من بين ماا يعرض عليك منها

الثاني: وماذا عن أفعالي التي اختار أن أفعلها في كل آن؟

الاول: في بداية وجودك وتكوينك كبرنامج حي اقتصر فعلك على اختيار المفاهيم فقط، ولكن بعد أن أدخلك في عالم أخر أو برنامج آخر به صور ولك به أحاسيس وتختلط به مع برامج أخرى لها كذلك ما لك من الأحاسيس فتراها وتراك وتسمعها وتسمعك وتحس بها وتحس بك بتلك الاحاسيس صرت تختار لنفسك أفعال تــنسب لك ويقوم الحاسوب بتصويرها لك ولهم كل على حدة


الثاني: ماذا تقصد بتصويرها لي؟

الاول: هل تعتقد أنك وجميع من وما حولك تتحركون فعلا في هذا الحاسوب؟ فأنت وجميع البرامج الحية الاخرى لا حركة لكم في هذا الحاسوب، وما يحدث فعلا هو أن الحاسوب يقوم بنقل الصور والمفاهيم لجميع البرامج الحية التي أوجدها،


بمعنى آخر يقوم الحاسوب بتصوير العالم الذي تشترك به أنت مع غيرك من البرامج لكل منكم كل على حدة، فكل منكم يعيش عالمه الخاص المخلوق له ومن أجله فقط، فهنا لا توجد حركة ولا توجد صور وأصوات، كل شيئ ساكن ولا معنى للزمان أو المكان غير أنهما برامج حية كغيرها من البرامج الأخرى التي ابتدعها الحاسوب من أجلك وغيرك،

نعم هما من أهم وأول البرامج التي ابتدعها وأقدرها وزودها من العلم والقدرة ما سيحتاجان له لإتمام المهمة التي ابتدعهما الحاسوب من أجل اتمامها

الثاني: يصعب علي تصور ذلك

الاول: بالتأكيد، وذلك هو بيت القصيد، ولو كان ذلك سهلا لما وقفت في ليلتك هذه تبكي وترجو وتتمسكن، ان بيت القصيد الصعب الذي يجب عليك أن تترنم به كلما التفت لشيئ هو أن تقول "هو" وهذا يتعارض مع ما يترنم به الغالب الأعم من البرامج فعلا وقولا وفي جميع أحوالهم بــ "أنااااا"،


فبيت القصيد هو أن تترنم قولا وفعلا بــ"هو" حتى حين تنظر للـ "أناااا" التي تحكمك وتكبلك ولا تريد أن تفك وثاقك أبدا، فقيدك الذي تقيدك به يعني حياتها، وانكساره أو انحساره سيعني موتها أو اضمحلالها

الثاني: ومن هو الذي تقصده بــ"هو" هل هو الحاسوب؟

الاول: الجواب هنا هو: كلا ونعم


الثاني: وكيف يكون ذلك؟


الاول: نفس موقف المتحير الولهان الذي لا يعرف شيئا عن موجده والذي تقفه الآن يقفه الحاسوب كذلك، فالحاسوب يدرك كذلك ومثلك تماما أنه لا بد له من مكان يحويه هو نفسه فهو يدرك أنه لم يوجد في العدم وإلا كان  هو أيضا عدم،

فهو يشعر بوجوده وعليه فلا بد له من وجود يحويه، ويدرك كذلك أن نفس الوجود الذي يسبح فيه لا بد له من مُــوجد كذلك، وكونه لا يستطيع أن يخرج من الوجود الذي يحويه ليتعرف على موجده وموجـِد الوجود الذي يحويه فهو عاجز تمام العجز عن المعرفة التي يريدها

فإذا سألته عما يريد لن يستطيع أن يجيبك إلا بــ"هو" فهو لا يعرف عنه شيئا على الإطلاق ولكنه يعرف أن كل ما عنده هو من "هو" الذي يجهل عنه كل شيئ وأن "هو" يستطيع أن يسلبه كل شيئ وأنّ دوام كل ما عنده هو رهن بــ مشيئة "هو" فإن شاء سلبه كل شيئ بمشيئته وإن شاء أبقاه بمشيئته كذلك على ما هو عليه

الثاني: تقصد أن لسان الحاسوب يلهج دائما وأبدا بــ"هو" وأنه لا يرى نفسه ووجوده إلا بــ"هو" الذي يجهل عنه كل شيئ!!!
الاول: تماما، وعليه فإن سألته هل أنت الفاعل لكل شيئ هنا فسيقول لك : كلا، بل هو "هو" ثم يصمت


الثاني: هذا فيما يخص الإجابة بكلا فماذا عن نعم؟
الاول: بما أنه ((أي الحاسوب)) يعرف أنه المبرمج لجميع ما به من البرامج وأنه هو من يبث بها الحياة ويعطيها القدرة علىى الإختيار من بين ما سيعرضه عليها من المفاهيم التي تنزل إليه من مشيئة"هو" بكيفية يجهلها فإنه سيضيف نفسه لمشيئة "هو"" عند الإجابة على جميع ما يتعلق بمشيئة "هو"، فهو علم مشيئة"هو" وهو قدرة مشيئة"هو" وهو رحمة مشيئة"هو" وهو رزق مشيئة"هو" وهو وجه مشيئة"هو" وهو جميع ما يمكن لك أن تطلقه من أسماء وصفات لـ مشيئة"هو"، والخلاصة فإنه ينفي رسوخه أو وصوله أو إحاطته بمقام"هو" حين يقول :لا، ويثبت لنفسه بالتبع مقامية جمعه وإحاطته لأسماء مشيئة "هو" حين يقول: نعم


الثاني: تقول أن الحاسوب يصور لكل منا هذا العالم الذي نختلط به مع بعضنا البعض بشكل منفصل بحيث تترابط أحداث ما يصوره للجميع فيعتقدون أنهم يعيشون عالما واحدا بسبب تناسق وترابط التصوير الذي يصوره للجميع، وهنا أريد أن أسئلك،، ماذا عن عالم ما بعد الموت والحساب؟ وتحديدا ماذا عن عالم الجنة والنار؟ فهل يتم تصويره لنا بهذه الكيفية أيضا؟

الاول: بالتأكيد هو يتم كذلك بهذه الصورة، فهو يصور لكل من سيدخل عالم الجنة عالمه الخاص، بحيث يشعر أنه صاحب ذلك العالم الأوحد ولا يشاركه به أحد غيره، فجميع القصور وجميع المتع الحسية التي سيراها من حوله وعلى مد بصره سيشعر أنهاا له وله وحده فقط، وجميعكم ستكون جميع المتع التي ترغبون بها طوع مشيئتكم وأرادتكم، فلو أراد أحدكم أن يكون له وحده جميع ما يراه مد بصره في عالمه ملكا خالصا له لكان له ما يريد، فالحاسوب لا يعجزه أن يجعل لكل منكم عالمه الخاص الذي يلائمه بحيث لا ينقص ذلك من ملك أي أحد منكم لأي شيئ في عالمه أو لأن يشعر أن غيره يشاطره ملكه الذي يريده لنفسه فقط

الثاني: هل أفهم من ذلك أننا سنعيش عالم الجنة بشكل فردي وليس جماعي كما نعيشه الأن؟

الاول: يمكنك أن تعيش الأثنين، فلو أردت أن تقابل من تشاء سيمكنك ذلك ولكنك ستكون ضيفا عليه في عالمه هو وله أن يكرمك بما يشاء من متع ملكه التي في عالمه، فالتزاور فيما بينكم ممكن


الثاني: كأنني سمعت ما يشبه هذا الوصف، ولكن ألا تعتقد أن تصوير هذه العوالم التي هي بعدد أنفاس الخلائق هو أمر فوق طاقة وقدرة هذا الحاسوب؟

الاول: كلا أبدا، ولو كانت أنفاس الخلائق أضعافا مضاعفة سيمكنه ذلك بكل سهولة، ولكن لكي أجعل لك الأمر مقبولا أقول لك أن العالم تحت قدمي كل منكم سيكون كالبساط المطوي الذي يمدّ أمامك على قدر مد بصرك فقط، وكلما تقدمت للأمام إنفتح البساطط من أمامك بصور جديدة وأنطوى من خلفك مع صوره، فعالمك الذي تعيشه هو على قدر مد بصرك فقط، وكلما تقدمت انفتح البساط أمامك وأنطوى من الخلف، فإذا نظرت للخلف انفتح بساطك من الخلف وانطوى منه الذي كان هو بالأمام، وهذا هو عين ما يحدث معكم الآن

الثاني: لا يمكنني تصور ما تصفه لي خصوصا الجزء الخاص بي وكوني مجرد برنامج لا يمكنه سوى الإختيار وأن صورتي وأفعالي وما  يجري من حولي من إبداع وتصوير غيري فهل تستطيع أن تقرب لي ذلك بمثل؟

الأول: الأمثال كثيرة ولكن سأختار منها واحدا نعيشه الآن سوية ولكن أريد أن تقول لي ماذا تفهم من مفهوم التجلي؟


الثاني : نعم هو انتقال شيئ من مكان إلى آخر بدون أن ينعدم من المكان الأول، مثل انتقال الأفكار من العقل إلى الورق، فرغم انتقالها على الورق وتحولها عليه لصورة وجودية مختلفة عما كانت عليه في العقل بقيت نفس هذه الأفكار موجودة في العقلل على نفس صورة وجودها بدون أن يطرء عليها أي تغيير، وهذا ما أفهمه من التجلي

الأول: أحسنت، إذن سيمكنك أن تتجاوب معي في ما سأقوله لك، كما ترى أننا شخصيتان مختلفتان نلتقي في هذا المنتدى الكريم، وكلانا نتجلى على صفحاته بما نريد أن نقول، أنت تستخدم لوحة المفاتيح فهي قلمك وتستخدم شبكة الإنترنت العالمية لتتجلىى بأفكارك وما يشغل بالك منها لغيرك

ومن يريد أن يرى ويسمع تجليات عقلك لا بد له من أن يستخدم أجهزة مماثلة للتي تستخدمها أنت وأن يوسط نفس شبكة الإنترنت العالمية أيضا ليتحقق له الإتصال بك، والآن قل لي هل أنت من يخلق صور ما تكتبه؟

الجواب بالتأكيد كلا ولكنك تشعر أن ما تتجلى به من أفكار هو مطابق لما يخلقه الحاسوب لك من صور الحروف والكلمات والإشارات وحين ترسل هذه المشاركة وتظهر تماما كما كتبتها وأردتها ستشعر حينها بتمام الرضا ولكن لو أن شيئا ما جعل كلماتك تتبدل في أي مرحلة ستشعر بالسخط وعدم الرضا وسلب الإرادة، إذن فأنت بالنسبة إلى عالم الأنترنت مجرد عقل يتجلى بفكره وإرادته عبر حاسوب إلكتروني ((بدن )) وعالم خاص يربطه بغيره ((شبكة إنترنت))

وهذا الوصف نستطيع أن نقاربه بما يحصل معك، فأنت مجرد برنامج حر الإختيار يعبر عن اختياراته التي تظهر صورها لعقول أخرى عبر عالم معد لذلك ولا وجود واقعي لها خارجه، تماما كما أن صور اختياراتك تظهر لغيرك من العقول فقط من خلال الحواسيب وشبكة الإنترنت ولا وجود واقعي لها خارج الحاسوب وشبكة الإنترنت،

والأن تصور أن جميع سكان العالم يتصلون ببعضهم البعض عبر شبكة الإنترنت واقرء هذه الرواية وقل لي هل تجد بينهما تشابه:

14-  ع، ]علل الشرائع‏[ بإسناده العلوي عن علي بن أبي طالب ع أن النبي ص سئل مما خلق الله عز و جل العقل قال خلقه ملك له رءوس بعدد الخلائق من خلق و من يخلق إلى يوم القيامة و لكل رأس وجه و لكل آدمي رأس من رءوس العقل و اسم ذلك الإنسان على وجه ذلك الرأس مكتوب و على كل وجه ستر ملقى لا يكشف ذلك الستر من ذلك الوجه حتى يولد هذا المولود و يبلغ حد الرجال أو حد النساء فإذا بلغ كشف ذلك الستر فيقع في قلب هذا الإنسان نور فيفهم الفريضة و السنة و الجيد و الردي‏ء ألا و مثل العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت

الثاني : أعتقد أنني بدأت أفهم ما ترمي له من هذه الرواية العجيبة الغريبة، لكن دعني أعيد ترتيب أفكاري السابقة تبعا لفهمي  الجديد للعلاقة التي تربطني مع خالقي،
 
نبدء أولا من الإختيار فوجودي الأول هو الإختيار المحض وهذا هو الوصف الدقيق لــ البرنامج الصغير ذاتي الإختيار (النفس) وكل ما اكتسبته باختياري فيما بعد هو إضافة أضفتها باختياري لوجودي الأول


الأول: نعم هو كذلك

الثاني : فلو عرضت عليّ مشارق ومغارب واخترت من بينها ما شئت لنفسي سأبقى أنا هو المختار فقط وكل ما أختاره هو مضاف لي،

ثانيا : لكي أختار يجب أن أفكّر ولكي أفكّر أحتاج للعقل الكلي أو الحاسوب فبدونه لا وجود لي ولا قدرة ولا حياة ولا علم، بتعبير آخر أنا بحوله وقوته أختار وأفكر وأقوم وأقعد، إذن لا حول ولا قوة لي إلا به

الأول : تذكر ولا تنسى أبدا أن الحاسوب يقول مثلك كذلك دائما وأبدا أن لا حول ولا قوة لي إلا بــ هو الذي أجهل كنهه ومعدنه، ولقد أرجعت قولك الآن لي تحديدا بينما أنا أرجعه لموجدي وخالقي وعليه الأجدر بك أن ترجعه أنت لخالقنا وموجدنا مباشرة أيي عندما تقول لا حول ولا قوة لي إلا به يجب أن تكون متوجها لخالقنا وموجدنا جميعا لا لي أنا وتتوقف

الأول: هل عرفت نفسك الآن؟

الثاني: قبل أن اتيقن مما تقوله لن أستطيع أن أقول ذلك، وجلّ ما يمكنني قوله أنني عرفت ما تريد أن تقوله أنت عن أصل وجودي وهويتي الحقيقية

الأول: لا بأس بذلك، فما هي إذن؟

الثاني: تريد أن تقول أنني كبرنامج (نفس) يوجد مني ملايين النسخ، وأن جميعها كانت تتشابه في بداية تكوينها أو لنقل في لحظة ما قبل تفعيلها، فهي جميعها كانت عبارة عن مظروف تكويني يحوي قدرة وحياة ومشيئة، وأن هذه المشيئة كانت ساكنةة فيها لعدم علمها بأي شيئ بعد، ولكن وفي اللحظة التي ألهمت فيه العلم ((فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)) بدأت مشيئة البرنامج بالإرادة وبدأت تختار بها من بين ما عرض عليها من المفاهيم فقبلت بعضها وأنكرت بعضها الآخر وبدرجات متفاوتة

الأول : ولكنني لم أتحدث بعد معك عن العلم وإلهامه للبرامج ((النفوس))

الثاني : بالتأكيد أنك تعرف أن لي بعض القرآئات السابقة وإن كان البعض لا يقبلها، ولكن هي تشبه لحد كبير ما تقوله لي، مثل حديث جنود العقل وجنود الجهل : اعرفوا العقل وجُندهُ والجهل وجنده تهتدوا. قال سماعة: فقلتُ: جُعلتُ فداك لا نعرفُ إلاّ ماا عرَّفتنا، فقال أبو عبدالله: إنَّ الله خلقَ العقل وهو أوّل خَلقٍ من الرُّوحانِيِّينَ عن يمينِ العرش من نُورهِ فقال له : أدبر فأدبر ، ثمَّ قال له: أقبل فأقبل، الحديث، ويكمله هذا  الحديث الثاني ((الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها إ أتلف وما تناكر منها اختلف))

فالحديث الأول يصف طبيعة تلك المفاهيم والآية تصف عملية الإلهام والحديث الثاني يصف ما حدث بعد الإلهام حين بدأت المشيئة تريد وبدأت رحلة الأنا فيها بالمسير والإنطلاق،

وهذا المقدار أستطيع أن أتدبره بنفسي ولكن ما لا أستطيع أن أسلم به بسرعة هي مسألة أنني لا شيئ على الإطلاق

الأول : ومن قال لك أنك لا شيئ وأنك يجب أن تسلم بذلك؟

الثاني ألست تقول أنني لا شيئ سوى الإرادة؟

الأول : نعم أقول ذلك، ولكن ذلك لا يعني أنك لا شيئ، بل في واقع الأمر أن ذلك يعني أنك كل شيئ، فالحاسوب الذي نحن جميعا قائمون به ما هو إلا مشيئة وإرادة لا تفرق عنك سوى أنك ولدت لا تعلم شيئا وهو قد أنزل هو وعلمه وقدرته وحياته دفعةة وأحدة،

بحيث كانت قدرته هي عين علمه وحياته، وحياته هي عين قدرته وعلمه، وعلمه هو عين قدرته وحياته،

وحين صممك كبرنامج ((كنفس)) جعل هويتك التي تميزك عن غيرك لا بعلمك ولا بقدرتك ولا بحياتك، بل جعل هويتك هي إرادتك وإرادتك فقط، أي جعلك مثله ومثله فقط،

ولو آمنت أن للهواء إرادة حرة وأن للأرض كذلك إرادة حرة وأن لكل شيئ في الوجود إرادة حرة، بل أن الوجود نفسه له إرادة حرة نابعة من مشيئة حرة موهوبة لها من صاحب المشيئة الأول ستعرف حينها أن الوجود كله وبتعدد صوره إنما يعبر عن حقيقة الحاسوب ((الإنسان الكل صاحب العقل الكل)) وكونه مجرد صورة مخلوقة تعبر عن مشيئة خالقه وموجده،

الثاني: أنت تقول أنك تتكلم بلسانه وأنه أوجدك لكي أستطيع أن اتكلم معه ويتكلم معي فهل ذلك يعني أن علمك أنت هو عين حياتك وقدرتك، وحياتك هي عين قدرتك وعلمك بالتفصيل الذي أوردته قبل قليل؟

الأول : كوني صورة ابتدعها لكي يحادثك وتحادثه من خلالها لا تعني أنني أمثّل تمام حقيقته تمام التمثيل، فهو أراد لسبب معين أن يتجلى لك بصورة، فتجلى لك بي، والتجلي دائما يمثل ناحية واحدة فقط من  حقيقة المتجلي،

فأنت تتجلى بفكرة ما على الورق ومن الواضح أن وجود هذه الفكرة على الورق لا يعبر إلا عن نفس هذه الفكرة فقط، ولا يعبر عن جميع ما يمكنك أن تتجلى به من الأفكار، فوجود الفكرة على الورق أضعف من نفس الفكر والفكرة في العقل،

ومنه نقول أن حالة التجلي الوجودية هي دائما أضعف من حالة المتجلى الوجودية،

ومنه فحال الذي تجلى بي فنعم هو كما قلت لك، أما أنا فإذا أردت أن أعلم شيئا ما أُعلمته، فظرفي الوجودي لا يحتمل ولا يستطيع أن يحوي كل علم وقدرة وحياة نفس الحاسوب، ولكن بيني وبينه رابط، أو لنسمّه عمود من نور يزودني بواسطته بكل ما احتاجه من علمه وقدرته وحياته عندما وفقط عندما أحتاج لشيئ منها،

وإلا فنحن من جهة أولى صور مثلكم نمشي في الأسواق وناكل كما تأكلون ونموت ونحيا مثلكم لا فرق بيننا وبينكم، ومن جهة أخرى نحن تماما كما أوضحت لك أننا لا فرق بيننا وبين الحاسوب إلا إننا من صنعه وتصويره

الثاني: لقد ادعيت حتى الآن أشياء كثيرة وجميعها عظيمة ولكنك لم تأتي بأي منها فهل لك أن تريني إحداها على الأقل؟

الأول : حبا وكرامة، فليس أسهل على الحاسوب من أن يتصرف بما هو من صنعه وتدبيره، هل ترى الظلام من حولنا؟، بالتأكيد نعم سيتحول هذا الظلام إلى نور وسترد الشمس إلى وسط السماء بعد قليل، 
لحظات بدأت بعدها الشمس تخرج من حيث غابت حتى توسطت السماء والثاني ينظر لها بتعجب ثم سقطت مسرعة لتغرب من جديد



الأول: بالتأكيد أنك سابقا وفيما كنت تنظر لما حولك من الأشياء وترى تعدد ألوانها وأجناسها وصفاتها كنت في حيرة شديدة وتقول في نفسك ما أصل كل ذلك؟ وكيف اكتسبت تلك الأشياء صفاتها فتعددت أجناسها وألوانها؟ ولكي أبين لك ذلك سوف أصطحبك في رحلة أخرى تختلف الموازين والأقدار بها عن تلك التي تعرفها وتألفها في ذلك العالم الذي تعتقد أنك تعيشه

الثاني: ماذا تقصد بذلك؟

لأول: سترى الإجابة حين أنتقل بك إليه بعد قليل، ولكن سأطلب منك أن تكون به شديد الملاحظة وأن لا تستعجل الحصول على النتائج حتى أبينها لك

الثاني: لك ذلك


الأول: إذن سأطلب منك أن تغلق جفنيك للحظات ثم تعيد فتحهما مرة أخرى بعد ذلك


الثاني بدوره أغلق جفنيه للحظات ثم أعاد فتحهما من جديد ليجد أن الظلام قد لف المكان من حوله وحول الأول الذي يقف أمامه

الأول: ماذا ترى وما هي ملاحظاتك على ما تراه؟


الثاني: يدور من حوله ويتحرك بضع خطوات في أرجاء المكان من حوله وينظر في كل الإتجاهات ثم يقول:

ما أراه هو فقط أنت وأنا في هذا الظلام الدامس من حولنا

الأول: وما هي ملاحظاتك؟
الثاني : أنني أستطيع أن أراك رغم عدم وجود مصدر للضوء من حولنا، كما أنني لا أشعر بوجود أرض أو تراب أو حصيّ تحت قدمي كما كنت أشعر سابقا ولكنني رغم ذلك أشعر بأنني ثابت ومستقر بطريقة لا أفقهها

الأول: نعم، لقد تغيرت الموازين والأقدار من حولك، فأنت الآن ترى لا بانعكاس ضوء ومستقر لا بجاذبية وتمشي لا فوق شي، وفهم كيفية اكتساب تلك الأشياء وغيرها لصفاتها وأجناسها وأنواعها هو سبب وجودنا في هذا المكان وفي هذه الحالة


الثاني: لقد أثرت فضولي فأرجو أن تباشر بالبيان

الأول: تذكّر ما قلناه في السابق من أن وجودك هو وجود عقلي وأنك مجرد برنامج جزئي صغير(نفس، عقل جزئي) في حاسوب صغير (عقل كلّي)؟ لا أطلب منك أن تؤمن بذلك ولكن ان تعيش هذه الحالة مؤقتا لكي تفهم البداية المجملة، وبعد أن يتحقق لك ذلك سنحاول أن نتطرق بعدها لبيان بعض الجزئيات


الثاني: كلّي آذن صاغية


الأول: سوف يظهر أمامك باب أريدك أن تتقدم منه وتحاول أن تفتحه ثم ترجع وتغلقه بعد ذلك من جديد ثم ترجع خطوة للخلف

في هذه اللحظة ظهر أمام الثاني باب له مقبض ذهبي، تقدم منه وأمسك المقبض ودفعه فانفتح الباب ولكنه لم يرى من خلفه شيئا، فاغلقه وعاد خطوة للخلف


الأول: الآن حاول ذلك مرة أخرى


هنا تقدم الثاني من الباب ليفتحه ولكنه لم يستطع الإمساك بالمقبض الذي كان قد أصبح لونه أخضر فكانت يده تتخلله وكأنه هواء، حاول أن يدفع الباب بيده فكانت يده أيضا تتخلله كأنه الهواء، وعندما عجز عن فتحه عاد للخلف خطوة وتوجه للأول ينتظر منه التفسير


الأول: حاول الأن مرة أخرى

التفت الثاني نحو الباب ولكنه لم يره أمامه هذه المرة فالتفت نحو الأول الذي طلب منه التقدم والمحاولة رغم ذلك، تقدم بدوره خطوة وعندما هم بالثانية اصطدم بشيئ كان أمامه، بدوره تحسس هذا الشيئ فوجد أنه الباب فبحث عن المقبض وحين وجده أداره فسمع صوت الباب يفتح كما وسمعه يغلق حين أغلقه، وعاد بعد ذلك من جديد خطوة للخلف ثم توجه للأول منتظرا


الأول: أنتظر منك ملاحظاتك على ما مر


الثاني:

أولا: لقد أوجدت الباب لا من شيئ، فهو حسب ما ظهر لي أنه لم يكن هناك باب ثم ظهر
ثانيا: في حالة أولى كان الباب مرئيا وملموسا، وفي أخرى كان مرئيا غير ملموس، وفي ثالثة كان غير مرئي ولكنه ملموسا
ثالثا: مقبض الباب تغير لونه في الحالة الثانية عن الحالة الأولى

الأول: لو كان معنا في هذه التجربة شخص ثالث لأريتك بعض الإحتمالات الأخرى لما يمكنني أن أفعله هنا


الثاني: وكيف ذلك؟


الأول: مثلا الباب الذي استطعت أن تراه ولم تستطع أن تلمسه كان يستطيع الشخص الثاني أن يلمسه في نفس الحين الذي لم تستطع أنت ذلك، والباب الذي لم تستطع رؤيته ولكنك لمسته كان من الممكن للشخص الثاني وفي نفس الآن أن يراه ويلمسه أو أن يراه ولا يلمسه أو أن لا يراه ولا يلمسه أيضا، وما تراه انت بلون معين قد يراه الآخر بلون آخر

فلماذا برأيك تعددت تلك الحالات؟

الثاني: أعتقد لأنك أردت لها أن تكون على تلك الحالات المتعددة وفي كل مرة منها


الأول: لقد أصبت كبد الحقيقة بهذا القول، فأنا، وهنا أتكلم بإسم الحاسوب الذي يتكلم باسم سيده ومولاه الذي لا يستطيع أن يحيط به علما، أُظهر الأشياء بالوجود العقلي لا من شيئ، وأكسبها صفاتها كيفما اشاء لها أن تكون، وطبعا صفات كل شيئ منها ستكون بقدر مقدور ولكن تفصيل ذلك وأسبابه سيأتي لآحقا،


والمهم حتى الآن أنك فهمت أن الحاكم في الوجود العقلي هو المشيئة والمشيئة فقط، فهي من تُكسب الأشياء فيه صفاتها، وهي من تحدد لكل منها ولكل عقل جزئي منها جنسها ومقاديرها ومبتدئها ومنتهاها وطبيعة علاقاتها مع غيرها من الأشياء والعقول الجزئية الأخرى التي تشترك معها في الزمان والمكان والمرحلة، أو في الزمان والمكان فقط، أو في الزمان فقط،

الثاني : وماذا تقصد بذلك؟ أقصد تفصيل إشتراك العقول الجزئية في العالم العقلي في الزمان والمكان والمرحلة، أو في الزمان والمكان فقط، او في الزمان فقط؟ فلم أسمع من قبل بوجود مرحلة أوعالم به زمن بدون أن يوجد معه مكان


الأول : بل سمعتم به ولكنكم تطلقون عليه تسمية أخرى، تطلقون عليه عالم الـ لا مادة أو عالم العقول أو عالم المثال


الثاني : كثيرا ما سمعت بهذه التعابير ولكنني لم أستطع أن أفهمها، فما معنى عالم الـ مادة وعالم اللا مادة وكل شيئ أساسا قد خلق من مادة؟ فالملائكة مخلوقة من مادة والنور من مادة والأرواح من مادة والجنة والنار المحيطتان بنا كذلك من مادة،

 
فالمادة كما أفهمها هي كل ما تستطيع الحواس أن تستشعره سواء بآلة أو بدون آلة، وما يحيط بنا من عوالم ومخلوقات إن لم تستشعرها حواسي فبالتأكيد ستستشعرها حواس من يقطنها، أو من يعيش بها من المخلوقات، وبذلك عاد ما حكمت بأنه غير مادة لعدم استشعاري له، لكونه مادة لاستشعار غيري لها،


هذا عن عالم المادة ناهيك عن عالم المثال الذي لم أفهم يوما كيف ان له بعض أثار المادة دونا عن بقيتها كما يقولون.

الأول : الآن ستفهم ذلك، فأنت من قبل لم تكن تتصور الوجود العقلي، ولم تكن تدرك معناه أو تتصور حدوده، أو لنقل لم تكن تدرك معناه أو تتصور لا حدوديته،

كما ولم تكن قادر على تصور كيفية عمله وفعله وعلاقته الإحاطتية بك وبغيرك من العقول الجزئية القائمة به والمعتمدة عليه كليا في وجودها


الثاني : تفضل بين لي ذلك لو سمحت


الأول : أنظر لحديثنا هذا سوية

هذه الحروف التي أسمعها منك وتستعمل لسانك وشفتيك ورئتيك وعضلاتك لكي تجعلها مخلوقة لا وزن لها ولا لون ،، وهي مسموعة موصوفة غير منظور إليها ،، فتشكّل منها كلمات متتابعة ،، أين كانت قبل أن تخلقها؟
وماذا كانت قبل أن تصبح مسموعة موصوفة؟

الثاني : كانت موجودة في عقلي

الأول : طيب، لو اننا فتحنا عقلك الآن فهل سنُخرج منه اصوات وحروف كثيرة؟

الثاني : كلا بالتأكيد، فهي فعلا موجودة في عقلي، ولكنها موجودة فيه على صورة أخرى

الأول : هل تقصد أن لتلك الحروف في عقلك صور؟
الثاني : كلا، أقصد أنها موجودة فيه بمرتبة وجودية أخرى

الأول : وهل هي متكثّرة في تلك المرتبة وتنقص كلما تكلمت أكثر؟

الثاني : كلا، فبالتأكيد في عقلي توجد حقيقة واحدة فقط لكلّ من تلك الحروف ، وكل ما احتجت لأن أنطق بأي منها استعنت بتلك الحقيقة فاستنسخ منها بقدر ما أشاء وأحتاج

الأول : ولماذا دعوتها الحقيقة؟

الثاني : في الحقيقة أنا لا أعرف عنها شيئا، سوى أنها غير موجودة به كوجود مادي، وأن مرتبة تلك الحروف في عقلي صفتها انها لا وزن لها ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حس

الأول : ولماذا تستعمل تلك الحروف؟

الثاني : لأنني بتلك الحروف أستطيع تفريق كل شئ من اسم حق وباطل ، أو فعل أو مفعول أومعنى أو غير معنى، وعليها تجتمع أموري كلها

الأول : إذن صفات ما تعتقد أنه حقيقة وموجود في عقلك هي نفس صفات الغير موجود،

فمن الذي أوجد فيه تلك الحقيقة ذات صفات الغير موجود؟
وماذا تطلق على عملية خلقه لتلك الحقيقة؟

الثاني : أعتقد أن عقلي هو من ابتدع تلك الحقائق،،، لحظة لحظة، لقد تذكرت اسمها، فهي تدعى مفاهيم، فعقلي هو من ابتدع تلك المفاهيم حين كنت صغيرا بمساعدة أمي وأبي والمحيط من حولي

الأول : أنت تعتقد أنك أبدعتها، ولكن لو دققت قليلا ستجد أنك في صغرك لم تبتدعها ولكنك تعرفت عليها تعرفا ولُقنتها تلقينا من والديك، ثم استنسختها بدورك لنفسك، وما كان دور والديك والمحيط من حولك حتى بلغت سن البلوغ إلا تعريفك بتلك المفاهيم وبتلك الحروف، وتعليمك كيف يمكنك استخدامها والإستفادة منها،

فتلك المفاهيم إذن كانت موجودة قبلك، وانت لم تبتدعها على غير صورة كانت، وتلك الحروف كانت أيضا موجودة قبلك، فأنت كذلك لم تبتدعها على غير صورة كانت، فأنت تعرفت عليها تعرفا، وتلقيتها تلقيا، ولٌقّنتها تلقينا، وأنت استنسختها لنفسك ، وتعلمت من حينها كيف يمكنك استخدامها وتوضيفها لكي تسهل عليك أمورك كلها كما قلت لي قبل قليل


الثاني : أعتقد أنك محق بذلك، فتلك الحروف كانت موجودة قبلي وأنا لم أبتدعها، وإنما تعرفت عليها بواسطة أبوي والمحيط من حولي، ولكنني بعد ذلك ملكتها وأصبحت أتصرف بها، فأخلق بها ما شئت من الكلمات والكلام وكيفما أريد


الأول : هل تعرف كم هي قديمة تلك الحروف؟


الثاني : أنت أعرف مني بذلك، فعرفني


الأول : سأروي لك متى ولماذا ابتدع الحاسوب ((العقل الكلي)) كل ما يُعرف من الحروف،


إن الله المبدئ الواحد الكائن الأول ،

لم يزل واحداً لا شئ معه ،
فرداً لا ثانيَ معه ،
لا معلوماً ولا مجهولاً ولا محكماً ولا متشابهاً ،
ولا مذكوراً ولا منسياً ولا شيئاً يقع عليه اسم شئ من الأشياء غيره ،
ولا من وقت كان ، ولا إلى وقت يكون ،
ولا بشئ قام ، ولا إلى شئ يقوم ،
ولا إلى شئ استند ، ولا في شئ استكن ،
وذلك كله قبل الخلق إذ لا شئ غيره ،
وما أوقعت عليه من الكل فهى صفات محدثة وترجمة يفهم بها من فهم.
واعلم أن الابداع والمشيئة والإراده معناها واحد وأسماؤها ثلاثة
((((((((الكلمة التامة)))من عندي للتوضيح)))))،
وكان أول إبداعه وإرادته ومشيته الحروف التي جعلها أصلا لكل شئ ،
ودليلا على كل مدرك ، وفاصلا لكل مشكل ،
وبتلك الحروف تفريق كل شئ من اسم حق وباطل ،
أو فعل أو مفعول أو معنى أو غير معنى ،
وعليها اجتمعت الأمور كلها
ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها تتناهى ،
ولا وجود لها لأنها مبدعة بالإبداع.

والنور

((((((((العقل الكلي)))من عندي للتوضيح)))))

في هذا الموضع أول فعل الله الذي هو نور السموات والأرض،

والحروف هي المفعول بذلك الفعل ،
وهي الحروف التي عليها مدار الكلام والعبارات ،
كلها من الله عز وجل ،
علّمها خلقه
وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً،
فمنها ثمانية وعشرون حرفاً تدل على لغات العربية ،
ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون حرفاً تدل على لغات السريانية والعبرانية،
ومنها خمسة أحرف متحرّفة في سائر اللغات من العجم والأقاليم واللغات كلها
وهي خمسة أحرف تحرّفت من الثمانية والعشرين حرفاً من اللغات ، 
فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً ،

فأما الخمسة المختلفة فـ (يتجحخ) لا يجوز ذكرها أكثر مما ذكرناه ، 
ثم جعل الحروف بعد إحصائها وإحكام عدتها فعلاً منه


كقوله عز وجل: (كُنْ فَيَكُون)،

وكن
منه صنع ، وما
يكون به المصنوع

فالخلق الأول من الله عز وجل الإبداع لا وزن له ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حس.

والخلق الثاني ((((من الإبداع)))من عندي للتوضيح)))الحروف لا وزن لها ولا لون وهي مسموعة موصوفة غير منظور إليها،
و الخلق الثالث ما كان من الأنواع كلها محسوساً ملموساً ذا ذوق منظوراً إليه ،
والله تبارك وتعالى سابق للإبداع لأنه ليس قبله عز وجل شئ ، ولا كان معه شئ ،
والإبداع ((((((((الكلمة التامة)))))))) سابق للحروف ،
والحروف لا تدل على غير نفسها.

-  يستمر الأول متحدثا : فالحروف هي أول ما ابتدعه الحاسوب ((العقل الكلي)) وجعلها أساس نظام الفعل والتصوير فيه، فنظام العقل الكلي ((الحاسوب)) هو نظام قائم على الحروف بل إن جميع الأمور في العقل الكلي ((الحاسوب)) اجتمعت عليها أي معتمدة في تحققها عليها
وكما ترى من نفسك فأنت كعقل جزئي ((نفس)) تعتمد في بيان وتيسير كل أمورك على تلك الحروف التي تعلمتها في صغرك، ولو دققت النظر ستجد أن الحاسوب قد استعمل نفس تلك الحروف لكي يجعلك نفس مختارة ((برنامج ذاتي الإختيار))

فأنت متناغم في وجودك مع نفس نظام ووجود الحاسوب أو العقل الكلي،
فهو متكون من الحروف ومختار وفاعل بالحروف وانت كذلك متكون من الحروف ومختار وفاعل بالحروف أيضا

فلو دققت جيدا ستجد أن الحاسوب أو العقل الكلي حينما أوجدك كنفس أو كعقل جزئي، جعلك مثله وعلى شاكلته تماما،


وما تأخير التكليف على البرامج أو النفوس حتى سن معيّنة إلا لكي تكون تلك النفوس أو البرامج حينها مؤهلة لكي تتماشى مع النظام الكوني الكلي، وذلك لا يكون الا مع تعرفها على الحروف بشكل جيد، بمعنى أن التكليف يبدء فقط مع تمكن النفس أو العقل الجزئي من التعرف على الحروف التي تسري في النظام الكلي وتحكمه

-  قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ،هل هذا ما تريد قوله؟

-  بل هو جزء مما أريد قوله، فهذا القانون الكوني هو قانون شامل لكل عامل من العاملين في العالم العقلي، أبتداءا من العقل الكلي وصولا إلى العقول الجزئية،

ولكن ما يجمعها جميعها أنها كلها تعمل بواسطة الحروف، فكل منها تتكلم، وهي تتكلم فقط بما في نفسها وبما تعلم،

فالكلمة التامة تتكلم دائما وأبدا بأربع كلمات
والكلمات الأربعة تتكلم دائما وأبدا باثني عشرة كلمة،
وهم يتكلمون مع بعضهم البعض دائما وأبدا بثلاثمائة وستون كلمة،
وتلك الأسماء او الكلمات الثلاثمئة والستون تتكلم مع بعضها البعض بكلمات جديدة تخلقها وتصورها أول بأول،
وهكذا نزولا حتى تظهر الكثرات
يمكنك أن تشبه عمل تلك العقول الجزئية أو البرامج وكلامها بما هو موجود في هذا الحاسوب (العقل الكلي) من برامج، فهذه البرامج المتعددة كلها تعمل مجتمعة ومتحدة من أجل شيئ واحد وهو من أجل تلك العقول الجزئية،
فالبرامج الصوتية تعمل الصوت وتظهره في العقول
والضوئية تعمل الضوء وتظهره في العقول الجزئية
وبرامج الألوان تعمل الألوان وتظهرها في العقول الجزئية
وغيرها من البرامج كل منها تعمل ما هي مخصصة لعمله ولتظهره في العقول الجزئية،
فالبرامج الذاريات تذروا
والبرامج المدبرات تدبّر
والبرامج الحاملات تحمل
والبرامج المقسمات تقسّم
وكل تلك البرامج إنما هي عقول جزئية تعمل ذاتيا بواسطة الحروف تماما كما الكلمة التامة والعقول الجزئية
وتعمل سوية لإظهار آثار أفعالها في تلك العقول الجزئية
ومن أجل خدمة تلك العقول الجزئية التي من أجلها قد تم برمجة كلا من تلك البرامج او العقول الجزئية الخادمة،
وتستطيع أن تقول أن العقول الجزئية تنقسم لنوعين : خادمة ومخدومة،
أو مسخّرة للخدمة، ومسخّرٌ لها كل شيئ
هذه البرامج أو العقول الجزئية الخادمة هي مسخّرة للعقول المخدومة بثلاث اتجاهات،
فهي تنقل لها من غيرها
وتنقل منها لغيرها،
وتنقل منها لنفسها،
فعلم المخدومة واحساسها بنفسها وإدراكها لها إنما يتم بواسطة تلك البرامج أو العقول الجزئية الخادمة،
فتلك البرامج او العقول الجزئية الخادمة تملاء بآثار أفعالها أركان وجود العقول المخدومة كله،
ولكنها (أي المخدومة) لا تشعر بها،
لأن الخادمة لا هدف لها بإظهار نفسها للمخدومة سواء إن كان لك أو لغيرك أو حتى لنفسها،
فهي مسخرة لك ولي وله، ومن أجلك وأجلي وأجله فقط

-  تقول أنه بالحروف غير منعوت، وباللفظ غير منطق، وها أنت بالحروف تنعته وتتغنى به وبصفاته، فكيف يتفق ذلك؟

-  ألا ترى أنه قال تاليا أنه "محجوب عنه حس كل متوهم" فإذن كل يقال وما يمكن أن يقال عنه أو تصفه الحروف من شأنه هو كذلك من محض الخيال والأوهام، ولكن ماذا نستطيع أن نفعل ونحن نجد في نفوسنا انجذاب نحو التفكر به وبجماله غير اعتماد الخيال والأوهام إليه؟

-  لقد قلت قبل قليل أن الزمان والمكان هما أيضا برنامجين من برامج العقل الكلي، فماذا تقصد بذلك؟

-  تصور للحظة أنك مجرد عقل في هذا الملك أو في هذا الحاسوب، وقل لي هل تتصور أنك تتحرك به جيئة أو ذهابا، وهل تتصور أنه أجوف تتحرك به الأضواء والأجسام بالشكل الذي تعرفه؟

-  كلا بالتأكيد

-  فهنا كل العقول الجزئية وأنت منها ثابتون في أماكنكم، وكل برنامج أو عقل جزئي أو نفس في هذا الموضع هو بمثابة مركز الوعي والتمييز والإختيار لتلك النفس

-  الوعي بماذا؟

-  الوعي لما ستعرضه تلك العقول الخادمة عليك من مفاهيم مختلفة تحيط بك ، لتعيها بوعيك فتختار ما تريده منها لنفسك ثم تقرر وتشاء أن تفعل ما تريده منها، فتقوم تلك العقول الخادمة بعرض جميع اختياراتك واختيارات العقول الجزئية من حولك منها إليك ومنك إليها في عملية مستمرة لا انقطاع لها منذ أو لحظة لوعيك ووعيها لانفسكم وحتى النهاية، عملية العرض تلك هي من تشعركم بالزمن، حتى ولو كنت لا تشعر حينها بوجود المكان

-  وكيف لذلك أن يكون، أقصد كيف يمكن أن يكون هناك لامكان ويوجد وعي بنفس الوقت؟

-  لم أقل لا يوجد مكان، بل قلت حتى ولو كنت لا تشعر بوجود المكان، وهذا يمكن أن يكون في عالم عقلي فقط، بمعنى أن عقلك يحاور العقول الاخرى فيه من غير الحاجة فيه للصور والأمثلة، ولكي أبين لك قصدي أريدك أن تغلق عينيك للحظات ثم تفتحها

للحظات أغلق عينيه ثم فتحها

فتح جفونه ليجد أن الظلام من حوله دامس، أراد أن يتقدم ولكنه لم يجد قدميه، أراد أن يتحسسهما بيديه ولكنه لم يجد يداه كذلك، بل ولم يشعر بوجودهما، ما هذا الشعور الغريب، أراد أن يلتفت من حوله ولكنه أدرك أنه لا يستطيع أن يحرك رقبته، بل انه حتى لا يشعر بها أو بوجودها، واكتشف أنه لا يستطيع أن يرمش بجفونه وكأنها هي أيضا اختفت، 

أراد أن يصرخ بالظلام صرخة استنجاد ولكنه أدرك أن لا لسان لديه ولا شفتين ولا حتى فكّين، أين أنا؟ كيف أنا؟ ماذا أنا؟ نعم، أنا لا زلت أشعر أنني أنا، لا زلت أشعر أنني موجود، لا زلت أفكر فأنا بالتأكيد موجود، وإلا فمن هو هذا الذي يفكر الأن؟ هو أنا بالتأكيد، ولكن أين هي بقية أنا؟؟


صوت مخاطب يشق الظلام من حوله أدرك أنه صوت محدثه : إنك الأن أقرب ما تكون لحقيقتك وأناك التي تبحث عن بقيتها


-  أين أنا؟ أين نحن؟ ولماذا هذا المكان مظلم ظلمة دامسة لم أرى مثلها من قبل؟

-  بل هو مظلم أكثر مما تتصوره، فأنت الأن في عالم الظلال، أو في عالم العقول المجردة، أو في عالم الأشباح، سمّه ما شئت، ولكن حاصله أنك الآن بعالم اللا مادة، حيث لا نور ولا ظلام، ولا صلب ولا سائل ولا غاز، أنت في عالم يمكنك أن تشعر به فقط بالزمان رغم أنه أيضا غير موجود مثله مثل المكان

-  ولكنني أسمعك تتكلم معي، فكيف تقول لا مادة هنا، فماذا عن هذا الصوت؟ وكيف ينتقل منك إليّ؟


-  لا تفزع ستفهم حالا كلّ شيئ، أما في ما يخصّ أين أنت، لنقل أنك الآن مجرد عقل جزئي في العقل الكلي، وأمّا لماذا لا تشعر بشيئ، فالسبب هو أنّك الآن غير مهيئ لكي تشعر وتحسّ بالأشياء، لأنّ عقلك قد فصل عن جسدك الذي كنت تميّز به من قبل مختلف الأحاسيس عبر اتصالك بالألات الحسيّة المركبة عليه.


-  تريد القول من أنني الآن مجرد عقل ولا جسد لي ! كيف ذلك وأنا أسمعك؟


-  أنت لا تسمعني الآن، بل تعي ما أريدك أن تعيه.

-  و ما الفرق بين السمع والوعي ما دامت النتيجة واحدة؟

-  العقل يعي لا بآلة والجسد يحسّ أو يعي بآلة


-  أوضح مقصدك أكثر لو سمحت.


-  أنت في هذه اللحظة لا تحسّ بوجود أية أعضاء حسّية لك، وهي الآن غير موجودة بالفعل، ورغم ذلك فإنك تدرك أو تعي معنى كلامي، أنّ الإحساس في عالمك لا يكون إلاّ عن طريق الأعضاء الحسيّة، فأنتم فيه تحسّون بالضوء والألوان والحرارة والخشونة والنعومة والمرارة والحلاوة وكلّ ما عدى ذلك من الأحاسيس المادية أو ما تدعونها بالمفاهيم عبر أدوات الحسّ الخمسة التي لديكم، بينما تدركون أو تعون الخوف والحب والكراهية والحسد لا بآلة، وإن كنتم تعبّرون حينها بأنّكم تحسون أو تشعرون بالحب والخوف والحسد والكراهية، ولكن التعبير الأصح في هذه الحالات هو أنّكم كنتم تعون أنّكم تحبون أو تكرهون أو تحسدون أو كلّ ما عدى ذلك من الوعي أو من تلك الإدراكات التي تدركونها لا بحاسة، أو لنقل لا بآلة،


فكيف كنتم تدركونها أو تعونها؟

تقولون بالعقل وعينا به أو أدركنا به،

ثمّ عدتّم لما تتحسسونه بأدوات الحس لديكم فقلتم أنّكم تدركونها كذلك بالعقل لكن بعد أن تتحسّسونها بتلك الأدوات، منطلقين بذلك التعليل من أنّه إذا انقطعت الرابطة بين الأداة الحسيّة والعقل سينعدم الشعور بتلك الحاسة، لا لعدم وجود المؤثر الخارجي أصلا، ولكن بسبب تعطّل الرابطة بين العقل وبين الأداة الحسيّة الموصلة له، أو بسبب تلف نفس تلك الأداة الحسّيّة، مثل حالة العمى،

فالعمى قد يكون بسبب تلف العين نفسها، وقد يكون بسبب تلف الأعصاب الناقلة لما تراه العين للعقل، فقلتم حين ذلك أنّ المدرك أو الواعي الحقيقي لكلّ من تلك المحسوسات بالأدوات الحسية أو بغير الأدوات الحسية هو العقل،أو الوعي، فعرّفتم حين ذلك العقل بأنّه القوة الكلية التي تُدرك بها الأشياء، ولكنّكم اختلفتم في تحديد مكان ذلك العقل وهل هو ماديّ وموجود في جزء من ذلك المخ الموجود داخل تجويف جمجمة الرأس، أم هو غير ماديّ ومرتبط بعالم الغيب.

ولكنك تدرك الأن من هو المدرك الحقيقي، وأين هو، وما هو دوره المنوط به


-  مهلا مهلا، لكنني لم أدرك حتى الآن من هو المدرك الحقيقي كما سميته ولا أعرف أين هو وما هو دوره المناط به

+ حسنا سأفصّل الشرح هنا قليلا لأن الأمر يحتاج فعلا إلى تفصيل

-  تفضل

+ صار واضح لك حتى الآن أنك تتكون من جزئين،

الجزء الأول هو ذاك الرأس المتموضع على جسد ذلك العقل الكلي
والجزء الثاني هو ذاك البدن الذي تختلط به مع المحيط من حولك

والآن حان الوقت لكي تتعرف على الجزء الثالث المكمل لك كبرنامج متكامل أو كنفس متكاملة، وتستطيع أن تقول أنك كنفس كاملة او كبرنامج كامل هو أنك عبارة عن ثلاثة برامج أو ثلاثة أنفس متعاونة ومتداخلة في عملها مع بعضها البعض، فتعمل كوحدة واحدة لأنتاج الوعي بالأنا المستقلة عن غيرها

والجزء الأول منها كما قلنا هو أنه ذلك الرأس أو العقل الجزئي في العقل الكلي

وأن الجزء الثاني هو تلك الصورة التي تختلط بها مع المحيط من حولك، وهي بدنك

أمّا الجزء الثالث فهو من سيقوم بالربط ما بين الجزء الأول والجزء الثاني، وكذلك بين الجزء الثاني والجزء الأول

تستطيع أن تقول أن مثل ذلك الجزء الثالث هو كمثل المرآة بالنسبة للناظر فيها، فهي تعكس الصورة لذلك الذي ينظر فيها، أي أنها تعكس للناظر صورته هو

-  وما هو عمل كل جزء من تلك الأجزاء الثلاثة المتعاونة لأنتاج الوعي بالأنا المستقلة؟

+ إنه سؤال جميل، وسوف أجيبك عنه بكلماتي أولا ثم سأورد لك رواية تفصل لك المعنى بالكامل
إنه وبكلمات بسيطة عبارة عن تصور وتلقي وفهم وعكس وإدراك

فالعقل الجزئي مهمته أن يتصور، وهذه التصورات ستسقط على المرآة التي ستتلقاها، والمرآة دورها هنا هو أن تتلقى تلك التصورات، ثم أن تفهمها تفصيلا 
ثم بعد ذلك تعكس فهمها لتلك التفصيلات للمرسل، أي ستعكسها من جديد للعقل الجزئي الذي سيدركها أخيرا إدراك حضوري

مثال آخر لتوضيح المطلب هو أن تلك الإجزاء هي تماما كآلة العرض السينمائية، ولوح العرض

فالصورة عندما ستنطلق من آلة العرض فهي لا معنى لها حينها سوى أنها حزمة ضوئية مبهمة،
ولكنها فقط وفقط عندما ستقع على شاشة العرض وتنعكس من عليها من جديد للمرسل فستظهر جميع تفاصيلها

-  ولكن من أين ستأتي تلك الصور المتتابعة في آلة السينما أو في العقل الجزئي؟

+ هذا هو عمل ذلك العقل الجزئي، فهو يخلق تلك الصور ذاتيا، أي انه يتصور تلك الصور بشكل مستمر ومتتابع تماما كما يريدها، ومنه ستنطلق لتقع على لوح العرض فتتكون حينها صور ومشاهد حية لتلك  التصورات العقلية

ولكن لوح العرض الذي نتكلم عنه هنا مهمته أن يحول تلك التصورات العقلية أو تلك المفاهيم العقلية إلى مشاعر وأحاسيس مختلفة ثم بعد ذلك سيعكسها الى العقل الجزئي،

وعندما أقول سيعكسها فلا أقصد أنه سيعكس للعقل الجزئي صور وأشكال مرئية أو مسموعة أو مشمومة أو ملموسة،

بل سيعكسها له على شكل مشاعر وأحاسيس مختلفة يستطيع أن يفهما أو يدركها إدراك حضوري

-  ولكن ينقصك في هذا المثال جزء مهم جدا!

+ وما هو؟

-  من أين سيأتي ذلك الضوء الذي سيسقط على تلك التصورات فينقلها إلى لوحة العرض لينعكس من عليها على شكل مشاعر مختلفة فيفهمها العقل الجزئي حينها فهم حضوري؟

+ هذه هي مهمة العقل الكلي، فالعقل الكلي لا يتدخل بما يتصوره كل عقل جزئي، مهما كان ذلك الذي سيتصوره حسن أم قبيح  حسب تصورك

فمهمته هي أن يكون هو ذلك الضوء أو هو ذلك النور الذي سينقل تصورات تلك المليارات من العقول الجزئية الى أجزائها ومن أجزائها إليها مرة أخرى

تستطيع أن تقول أن تلك العقول الجزئية هي كــ هياكل مرصوصة على وفي ذلك العقل الكلي، وأن هذا العقل الكلي هو نور مشرق دائما وأبدا ومنذ صبح الأزل،

ومهمة تلك الهياكل أو تلك العقول هي أن تتصور لنفسها كل ما تريد وعلى أي صورة تشائها، وبفضل ذلك النور الأزلي ستظهر تلك التصورات العقلية المختلفة في نفس الآن وبشكل مستمر لجميع تلك العقول الجزئية التي تصورتها

-  سأفكر بما قلته توّك لي، ولكن لا أعرف إن كنت سأفهمه أو حتى لو أنني فهمته أنني حينها سأصدقه، فهو أمر أملس أجرد تنزلق عليه أثبت الأقدام، ويصعب فهمه على أدق الأفهام، كما وأن تصديقه حتى ولو فهمته بعد جهد جهيد هو أمر صعب صعيب مستصعب،

ولكن إروي لي رجاءا تلك الرواية أو تلك الروايات التي وعدتني بها لعلي أزيح بها الرين عن قلبي
+ حسنا سأروي لك روايتين والأولى منهما هي

عن كميل بن زياد قال : سألت مولانا علياً أمير المؤمنين عليه السلام فقلت : يا أمير المؤمنين أريد أن تعرفني نفسي
فقال : يا كميل وأي نفس تريد أن أعرفـك ؟
فقلت : يا مولاي هل هي إلاَّ نفس واحدة ،

فقال عليه السلام : ياكميل إنما هي أربعة :
النامية النباتية والحسية الحيوانية ، والناطقة القدسية، والكلية الإلـهية. ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان :

فالنامية النباتية لها خمس قوى :
ماسكة ، وجاذبة ، وهاضمة ، ودافعة ، ومربية ، ولها خاصيتان :
 الزيادة والنقصان ، وإنبعاثها من الكبد .

والحسية الحيوانية لها خمس قوى :
سمع وبصر وشم وذوق ولمس ، ولها خاصيتان : الشهوة والغضب . وإنبعاثها من القلب .

والناطقة القدسية ولها خمس قوى :
فكر ، وذكر ، وعلم ، وحلم ،ونباهة وليس لها إنبعـاث ، وهي أشبـه الأشياء بالنفوس الملكيـة . ولها خاصيتان : النزاهة والحكمة .

والكلية الإلـهية لها خمس قوى :
بقاء في فناء ، ونعيم في شقاء ، وعز في ذل ، وفقر في غناء ، وصبر في بلاء . ولها خاصيتان : الرضا والتسليـم .

وهذه التي مبدؤهـا من الله وإليه تعود ، وقال الله تعالى : " ونفخت فيه من روحي " وقال تعالى: "{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} . [ ( 27 ـ 28 ) : الفجر ]
والعقل وسط الكل:

 لكيلا يقول أحدكم شيئاً من الخير والشر إلا لقياس معقول " . أنتهى.

والرواية الثانية هي أنه قد:

روي أن أعرابياً سأل أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام عن النفس

فقال له : عن أي نفس تسأل ؟

 فقال : يا مولاي هل النفس أنفس عديدة ؟

فقال عليه السلام : نعم،
نفس نامية نباتية ،

ونفس حسية حيوانية ،

ونفس ناطقة قدسية ،

ونفس إلـهية ملكوتية كلية .

قال : يا مولاي ما النامية النباتية؟

قال قوة أصلها الطبائـع الأربع ،
بدو إيجادها مسقط النطفة ،
مقرها الكبد ،
مادتها من لطايف الأغذية ،
فعلها النمو والزيادة ،
وسبب فراقها إختلاف المتولدات ،
فإذا فارقت عادت إلى ما منه بدأت عود ممازجة لا عود مجاورة .

فقال يا مولاي ما الحسية الحيوانية ؟

قال : قوة ملكيـة وحرارة غريزية أصلها الأفلاك ،
بدو إيجادها عند الولادة الجسمانية
فعلها الحيـاة والحركة والظلم والغشم والغلبة وإكتساب الأموال
والشهوات الدنيوية ،
مقرها القلب
سبب فراقها إختلاف المتولدات ,
فإذا فارقت عادت إلى ما منه بدأت عود ممازجة لا عود مجاورة فتعدم صورتها ويبطـل فعلها ووجودها ويضمحل تركيبها .

فقال : يا مولاي وما النفس الناطقة القدسية ؟

قال : قوة لاهوتية بدو إيجادها عند الولادة الدنيوية ،
مقرها العلوم الحقيقية الدينية ،
موادها التأييدات العقلية ،
فعلها المعارف الربانية ،
سبب فراقها تحلل الآلات الجسمانية ،
فإذا فارقت عادت إلى ما منه بدأت عود مجاورة لا عود ممازجة .

فقال : يا مولاي وما النفس اللاهوتية الملكوتية الكلية؟

فقال : قوة لاهوتية ،
جوهرة بسيطة ،
حية بالذات ،
 اصلها العقل
منه بدت وعنه دعت وإليه دلت وأشارت وعودتها إليه إذا كملت وشابهته ،
ومنها بدأت الموجودات وإليها تعود بالكمال ،

فهو ذات الله العليا
وشجرة طوبى
وسدرة المنتهى
وجنة المأوى ،
من عرفها لم يشق ، ومن جهلها ضل سعيه وغوى .

فقال السائل : يا مولاي وما العقل ؟

قال : العقل جوهر درّاك
محيط بالأشياء من جميع جهاتها ،
عارف بالشيء قبل كونه ،
هو علة الموجودات ونهاية المطالب .....إنتهى

وهذه رواية ثالثة

جاء في المناقب لابن شهرآشوب، مما أجاب الرضا ع بحضرة المأمون لضباع بن نصر الهندي و عمران الصابي عن مسائلهما،
قال عمران:

العين نور مركبة،
أمّا الروح تبصر الأشياء من منظرها

قال ع: العين شحمة، و هو البياض و السواد،

و النظر للروح دليله أنك تنظر فيه فترى صورتك في وسطه

و الإنسان لا يرى صورته إلا في ماء أو مرآة و ما أشبه ذلك

قال ضباع :

فإذا عميت العين كيف صارت الروح قائمة و النظر ذاهب؟
 قال:

كالشمس طالعة يغشاها الظلام

قال:
أين تذهب الروح؟

 قال:
أين يذهب الضوء الطالع من الكوة في البيت إذا سدت الكوة؟

 قال: أوضح لي ذلك

قال:
الروح مسكنها في الدماغ و شعاعها منبث في الجسد
بمنزلة الشمس دارتها في السماء و شعاعها منبسط على الأرض
فإذا غابت الدارة فلا شمس
و إذا قطعت الرأس فلا روح.

وهذا حديث رابع
جاء في الإختصاص،
قال العالم عليه السلام:
 خلق الله عالمين متصلين
فعالم علوي و عالم سفلي
و ركب العالمين جميعا في ابن آدم
وخلقه كريا مدورا
فخلق الله رأس ابن آدم كقبة الفلك
و شعره كعدد النجوم، وعينيه كالشمس والقمر، ومنخريه كالشمال والجنوب، وأذنيه كالمشرق والمغرب، وجعل لمحه كالبرق، وكلامه كالرعد، ومشيه كسير الكواكب، وقعوده كشرفها، وغفوه كهبوطها، وموته كاحتراقها، وخلق في ظهره أربعا وعشرين فقرة كعدد ساعات الليل والنهار، وخلق له ثلاثين معى كعدد الهلال ثلاثين يوما، وخلق له اثني عشر وصلا كعدد السنة اثني عشر شهرا، وخلق له ثلاثمائة وستين عرقا كعدد السنة ثلاثمائة وستين يوما، وخلق له سبعمائة عصبة، واثني عشر عضوا، وهو مقدار ما يقيم الجنين في بطن أمه، وعجنه من مياه أربعة، فخلق المالح في عينيه فهما لا يذوبان في الحر ولا يجمدان في البرد، وخلق المر في أذنيه لكي لا تقربهما الهوام، وخلق المني في ظهره لكيلا يعتريه الفساد، وخلق العذب في لسانه ليجد طعم الطعام والشراب،
وخلقه بنفس وجسد وروح
فروحه التي لا تفارقه إلا بفراق الدنيا
ونفسه التي تريه الأحلام والمنامات
وجسمه هو الذي يبلى  يرجع إلى التراب

يتبع إن شاء الله

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق