الخميس، 21 يناير 2016

حوار بين عقل كلي وعقل جزئي




بسم الله الرحمن الرحيم
الهم صلي على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حوار بين عقل كلي وعقل جزئي


هو قصة خيالية تدور أحداثها في صندوق إلكتروني صغير والذي ستدور فيه غالبية المحاورة بين شخصيتين اثنين وبعض الشخصيات الجانبية الشخصية الأولى ستمثل الصندوق الالكتروني وأرمز بها للعقل الكل والثانية ستمثل برنامج صغير كل صفته أنه حر في الاختيار فيما بين ما سيعرضه عليه الصندوق الالكتروني من المفاهيم وسأدعوه عقل جزئي وأرمز به إلى النفس الإنسانية.
بعض الشخصيات الإضافية: كانت تتداخل بالحوار لمرة واحدة وهي كذلك برامج جزئية صغيرة

مكان الأحداث والشخصيات :
المكان : حاسوب صغير ذاتي الاختيار حر الإرادة.
الشخصية الأولى: شخصية افتراضية ابتدع الحاسوب صورتها لكي يسهل على الشخصية الثانية أن تتفاهم معه.

الشخصية الثانية: برنامج صغير ذاتي الاختيار حر الإرادة أوجده الحاسوب، ويرتبط هذا البرنامج بصورة إنسان محددة وتميزه عن غيره من البرامج فيعبر بها عن مشيئته وإرادته، ويعتمد هذا البرنامج الصغير في وجوده العقلي والصوري على الحاسوب بصورة كلية.

الزمان : بعد أن أمضت الشخصية الثانية ثلثي حياتها الافتراضية تتفكر في وجودها وموجـِدها وقفت أخيرا عاجزة عن فهم العلاقة التي تربطهما ببعض، فاختارت ليلة مظلمة صفت بها قدميها فيها فوق التراب، ورفعت يديها إلى السماء وأومأت بوجهها إلى الأرض وانصرفت تبكي وتتضرع وترجو من موجـِدها الفهم والتوفيق للوصول لما تريد فهمه والوصول له.


البداية:
فيما كان واقفا يبكي ويتضرع تمثلت له الشخصية الأولى رجلا سويا واقفا أمامه، حين فتح عينيه وراءاه واقفا أمامه خاف وارتعش وتسمر في مكانه.

** الأول:  لا تخف ولا تحزن سأعينك.

// الثاني:  على ماذا؟

** الأول:  على الفهم

// الثاني:  فهم ماذا؟

** الأول:  ذاك الذي تهطل دموعك من أجله.

// الثاني:  ومن أنت؟

** الأول:  رسول من كنت تناجيه.

// الثاني:  وكيف ستـُـفهمُني؟

** الأول:  أسأل ما شئت فأجيبك

// الثاني:  من أنا؟

** الأول:  مجرد برنامج حي ذاتي الاختيار تعيش في برنامج حي كبير

// الثاني:  ومن أنت؟

** الأول:  صورة رجل ابتدعها موجدك لكي يتحدث إليك عبرها.

// الثاني:  وماذا عن صورتي أنا؟

** الأول:  كما قلت بنفسك هي كذلك مجرد صورة ابتدعها لك مبتدعي لكي تستطيع أنت أن تعبر بها عن نفسك لمن تشاء وتريد.

// الثاني:  ماذا عن جميع ما حولي؟

** الأول:  هي كذلك صور حية ابتدعها لك موجدك وموجدي من أجلك وأجلك فقط

// الثاني:  ماذا تقصد بأنني مجرد برنامج حي؟

** الأول:  أقصد أنك برنامج صغير موجود في حاسوب صغير تعتمد عليه في وجودك كله.

// الثاني:  وكيف ستقنعني بذلك؟ أقصد كيف ستقنعني بأنني مجرد برنامج صغير يعيش في برنامج كبير في صندوق صغير؟

** الأول:  لن أقنعك بأي شيء، لقد أردت أجوبة لأسئلة حائرة وسأجيبك عنها وبعد ذلك لك أن تتفكر بها طويلا ثم لك أن تقتنع أو أن لا تقتنع بها، فالخيار لك بذلك أولا وأخيرا.

// الثاني:  كيف أفكر؟

** الأول:  أنت كبرنامج ذاتي حر الإرادة لا تفكر، ولكنك توجه عملية التفكير كيفما تريد وتشاء.

// الثاني:  ومن الذي يفكر أذن إن لم أكن أنا؟

** الأول:  التفكير هي عملية حسابية لاستخلاص النتائج من معطيات ونتائج مسبقة كانت موجود عندك من تجارب وخبرات سابقة جميعها لا تدخل في ضمن تكوينك ووجودك، فأنت مجرد برنامج له أن يريد ويختار فقط، يختار ويريد من بين ما سيعرض عليه، فإذا عرض عليك الأسود والأبيض فقط لن يمكنك أن تختار غيرهما حتى يعرض عليك ذلك الغير، أنت فقط الإرادة الحرة، أما ذلك الغير فلست أنت، ولست أنت من يقوم بإيجاد تلك الصور والمعاني والمفاهيم، ولست أنت من يقوم بعرضها، وأسمح لي الآن بالتكلم بلسان الحاسوب، أناْ من يفعل جميع ذلك، أنأْ الذي أفكر، وأناْ الذي أقوم بعرض مختلف الصور والمعاني والمفاهيم عليك، وأنت الذي يختار من بينها ما تشاء، وتوجهني في عملية عرض ما تشاء منها وإقصاء ما لا ترغب منها.

// الثاني:  وكيف أستطيع أن اختار بالإرادة فقط؟

** الأول:  لقد أفاض عليك الحاسوب الحياة وأعطاك القدرة أولا، وبهما فعّلت مشيئتك فاخترت بها فيما بعد من بين ما سيلهمك به الحاسوب من العلم في مختلف مراحلك، ففي البداية كنت حيا وقادرا فقط لا تعلم شيئا، ثم عرض عليك معاني ومفاهيم أولية، فقمت كإرادة أو كمشيئة أُفيضت عليها الحياة والقدرة بالاختيار من بين تلك المفاهيم المعروضة، ولا زلت حتى هذه اللحظة تختار من بين ما يُعرض عليك منها.

وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا () فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا () قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا () وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا

// الثاني:  وماذا عن أفعالي التي اختار أن أفعلها في كل آن؟

** الأول:  في بداية وجودك وتكوينك كبرنامج حي اقتصر فعلك على اختيار المفاهيم فقط، ولكن بعد أن أدخلك في عالم آخر، أو برنامج آخر به صور وأحاسيس وتختلط به مع برامج أخرى لها كذلك ما لك من الأحاسيس، فتراها بها وتراك وتسمعها بها وتسمعك وتحس بها وتحس بك صرت تختار لنفسك أفعال تُــنسب لك ويقوم الحاسوب بتصويرها لك ولهم كل على حدة.

// الثاني:  ماذا تقصد بتصويرها لي؟

** الأول:  هل تعتقد أنك وجميع من وما حولك تتحركون فعلا في هذا الحاسوب؟ فأنت وجميع البرامج الحية الأخرى لا حركة لكم في هذا الحاسوب، وما يحدث فعلا أن الحاسوب يقوم بنقل الصور والمفاهيم لجميع البرامج الحية التي أوجدها، بمعنى آخر يقوم الحاسوب بتصوير العالم الذي تشترك به أنت مع غيرك من البرامج لكل منكم كل على حدة، فكل منكم يعيش عالمه الخاص والمخلوق له ومن أجله فقط، فهنا لا توجد حركة ولا توجد صور وأصوات، كل شيئ ساكن، ولا معنى للزمان أو للمكان غير أنهما برامج حية أخرى كغيرها من البرامج التي ابتدعها الحاسوب من أجلك وأجلها، نعم هما من أهم وأول البرامج التي ابتدعها وأقدرها وزودها من العلم والقدرة ما سيحتاجان له لإتمام المهمة التي ابتدعهما الحاسوب من أجل إتمامها.

// الثاني:  يصعب علي تصور ذلك.

** الأول:  بالتأكيد هو صعب، فلو كان ذلك سهلا لما وقفت في ليلتك هذه تبكي وترجوا وتتمسكن وتطلب الفهم، وأصعب الصعب هو أن تنفي نفسك ووجودك وتقول "هو"، وهذا يتعارض مع ما يترنم به الغالب الأعم من البرامج فعلا وقولا وفي جميع أحوالهم، فالمطلوب هو أن تترنم قولا وفعلا بـ"هو" حتى حين تنظر للـ" الأنا " التي تحكمك وتكبلك ولا تريد أن تفك وثاقك أبدا، فقيدك الذي تقيدك به يعني حياتها، وانكساره أو انحساره سيعني موتها أو اضمحلالها.

// الثاني:  ومن هو الذي تقصده بـ"هو"؟ هل هو الحاسوب الذي تقول انني مجرد برنامج به؟

** الأول:  الجواب هنا هو: كلا ونعم.

// الثاني:  وكيف يكون ذلك؟

** الأول:  إنّ نفس موقف المتحير الولهان الذي لا يعرف شيئا عن موجده والذي تقفه الآن يقفه الحاسوب كذلك، فالحاسوب يدرك كذلك ومثلك تماما أنه لا بد له من مكان يحويه هو نفسه، فهو يدرك أنه لم يوجد في العدم وإلا لكان هو أيضا عدم، فهو يشعر بوجوده، وعليه فلا بد له من وجود يحويه، ويدرك كذلك أن نفس الوجود الذي يسبح فيه لا بد له من مُــوجد كذلك، وكونه لا يستطيع أن يخرج من الوجود الذي يحويه ليتعرف على موجده وموجـِد الوجود الذي يحويه فهو عاجز تمام العجز عن المعرفة التي يريدها، فإذا سألته عما يريد لن يستطيع أن يجيبك إلا بـ"هو"، فهو لا يعرف عنه شيئا على الإطلاق، ولكنه يعرف أن كل ما عنده هو من "هو" الذي يجهل عنه كل شيئ، وأن "هو" يستطيع أن يسلبه كل شيئ، وأنّ دوام كل ما عنده هو رهن بمشيئة "هو"، فإن شاء سلبه كل شيئ بمشيئته ، وإن شاء أبقاه بمشيئته على ما هو عليه.

// الثاني:  تقصد أن لسان الحاسوب يلهج دائما وأبدا بــ "هو" وأنه لا يرى نفسه ووجوده إلا بــ "هو" الذي يجهل عنه كل شيئ !

** الأول:  تماما، وعليه فإن سألته هل أنت الفاعل لكل شيئ هنا فسيقول : كلا، بل "هو" الفاعل ثم يصمت

// الثاني:  هذا فيما يخص الإجابة بكلا فماذا عن نعم؟

** الأول:  بما أنه (أي الحاسوب) يعرف أنه المبرمج لجميع ما به من البرامج، وأنه هو من يبث بها الحياة ويعطيها القدرة على الاختيار من بين ما سيعرضه عليها من المفاهيم التي تتنزل إليه من مشيئة "هو" بكيفية يجهلها فإنه سيضيف نفسه لمشيئة "هو" عند الإجابة على جميع ما يتعلق بمشيئة "هو"، فهو علم مشيئة "هو"، وهو قدرة مشيئة "هو"، وهو رحمة مشيئة "هو"، وهو رزق مشيئة "هو"، وهو وجه مشيئة "هو"، وهو جميع ما يمكن لك أن تطلقه من أسماء وصفات لمشيئة "هو"، والخلاصة فإنه ينفي رسوخه أو وصوله أو إحاطته بمقام "هو" حين يقول لا، ويثبت لنفسه بالتبع مقاميه جمعه وإحاطته لأسماء مشيئة "هو" حين يقول: نعم.

// الثاني:  تقول أن الحاسوب يصور لكل منا هذا العالم الذي نختلط به مع بعضنا البعض بشكل منفصل بحيث تترابط أحداث ما يصوره للجميع فيعتقدون بذلك أنهم يعيشون عالما واحدا بسبب تناسق وترابط التصوير الذي يصوره للجميع، وهنا أريد أن أسائلك ماذا عن عالم ما بعد الموت والحساب؟ وتحديدا ماذا عن عالم الجنة والنار؟ فهل يتم تصويره لنا بهذه الكيفية أيضا؟

** الأول:  بالتأكيد هو يتم كذلك بهذه الصورة، فهو يصور لكل من سيدخل عالم الجنة عالمه الخاص به بحيث يشعر أنه صاحب ذلك العالم الأوحد ولا يشاركه به أحد غيره، فجميع القصور وجميع المتع الحسية التي سيراها من حوله وعلى مد بصره سيشعر أنها له وله وحده فقط، وجميعكم ستكون جميع المتع التي ترغبون بها طوع مشيئتكم وأرادتكم، فلو أراد أحدكم أن يكون له وحده جميع ما يراه مد بصره في عالمه ملكا خالصا له لكان له ما يريد، فالحاسوب لا يعجزه أن يجعل لكل منكم عالمه الخاص الذي يلائمه بحيث لا ينقص ذلك من ملك أي أحد منكم لأي شيئ في عالمه، أو لأن يشعر أن غيره يشاطره ملكه الذي يريده لنفسه فقط.

// الثاني:  هل أفهم من ذلك أننا سنعيش عالم الجنة بشكل فردي وليس جماعي كما نعيشه الأن؟

** الأول:  يمكنك أن تعيش الاثنين فلو أردت أن تقابل من تشاء سيمكنك ذلك ولكنك ستكون ضيفا عليه في عالمه هو، وله أن يكرمك بما يشاء من متع ملكه التي في عالمه، فالتزاور فيما بينكم ممكن.

// الثاني:  كأنني سمعت ما يشبه هذا الوصف ولكن ألا تعتقد أن تصوير هذه العوالم التي هي بعدد أنفاس الخلائق هو أمر فوق طاقة وقدرة هذا الحاسوب؟

** الأول:  كلا أبدا، ولو كانت أنفاس الخلائق أضعافا مضاعفة سيمكنه ذلك بكل سهولة، ولكن لكي أجعل لك الأمر مقبولا سأقول لك أن العالم تحت قدمي كل منكم سيكون كالبساط المطوي الذي يمدّ أمامك على قدر مد بصرك فقط، وكلما تقدمت للأمام أنفتح البساط من أمامك بصور جديدة وانطوى من خلفك مع صوره، فعالمك الذي تعيشه هو على قدر مد بصرك فقط، وكلما تقدمت انفتح البساط أمامك وانطوى من الخلف، فإذا نظرت للخلف انفتح بساطك من الخلف وانطوى منه الذي كان هو بالأمام، وهذا هو عين ما يحدث معكم الآن، والفرق أنكم تعيشون صورة عالم واحد مترابط بينما هناك ستعيشون صور عوالم مختلفة

// الثاني:  لا يمكنني تصور ما تصفه لي، خصوصا الجزء الخاص بي وكوني مجرد برنامج لا يمكنه سوى الاختيار وأن صورتي وأفعالي وكل ما يجري من حولي هو من إبداع وتصوير غيري، فهل تستطيع أن تقرب لي ذلك بمثل؟

** الأول:  الأمثال كثيرة ولكن سأختار منها واحدا نعيشه الآن سوية، ولكن أريد أن تقول لي ماذا تفهم من مفهوم التجلي؟

// الثاني:  نعم هو انتقال شيئ من مكان إلى آخر بدون أن ينعدم من المكان الأول، مثل انتقال الأفكار من العقل إلى الورق، فرغم انتقالها على الورق وتحولها عليه لصورة وجودية مختلفة عما كانت عليه في العقل بقيت نفس هذه الأفكار موجودة في العقل على نفس صورة وجودها الأول وبدون أن يطرأ عليها أي تغيير، وهذا ما أفهمه من التجلي.

** الأول:  أحسنت، إذن سيمكنك أن تتجاوب معي في ما سأقوله لك، كما ترى أننا شخصيتان مختلفتان وكلانا نتجلى على صفحات هذا الحاسوب ونقول به ما نريد أن نقول، أنت تستخدم لوحة المفاتيح فهي قلمك، وتستخدم شبكة الإنترنت العالمية لتتجلى بواسطتها بأفكارك وما يشغل بالك منها لغيرك،

ومن يريد أن يرى ويسمع تجليات عقلك لا بد له من أن يستخدم أجهزة مماثلة للتي تستخدمها أنت، وأن يوسط نفس شبكة الإنترنت العالمية أيضا لكي يتحقق له الاتصال بك، والآن قل لي هل أنت من يخلق صور ما تكتبه، الجواب بالتأكيد هو كلا، ولكنك تشعر مع ذلك أن ما تتجلى به من أفكار هو مطابق لما يخلقه الحاسوب لك من صور الحروف والكلمات والإشارات،

وحين ترسل هذه الرسالة أو تلك وتظهر تماما كما كتبتها وأردتها ستشعر حينها فقط بتمام الرضا، ولكن لو أن شيئا ما جعل كلماتك تتبدل في أي مرحلة في ما بين اطلاق الرسالة وظهورها للمقابل فإنك حينها ستشعر بالسخط وعدم الرضا وسلب الإرادة، فأنت إذن بالنسبة إلى عالم الانترنت مجرد عقل جزئي مثلك كمثل الملايين من العقول على شبكة الانترنت يتجلى بفكره وإرادته عبر حاسوب إلكتروني (بدن) وعالم خاص يرتبط به ومن خلاله بغيره من العقول (شبكة إنترنت)

وهذا الوصف نستطيع أن نقاربه بما يحصل معك، فأنت مجرد برنامج حر الاختيار يعبر عن اختياراته التي تظهر صورها لعقول أخرى عبر عالم معد لذلك ولا وجود واقعي لها خارجه، تماما كما أن صور اختياراتك تظهر لغيرك من العقول فقط من خلال الحواسيب وشبكة الإنترنت ولا وجود واقعي لها خارج الحاسوب وشبكة الإنترنت، الأن تصور أن جميع سكان العالم يتصلون ببعضهم البعض عبر شبكة الإنترنت واقرأ هذه الرواية وقل لي هل تجد بينهما تشابه؟

14- (علل الشرائع‏ ) بإسناده العلوي عن علي بن أبي طالب (ع ) أن النبي (ص ) سئل مما خلق الله عز و جل العقل قال خلقه ملك له رءوس بعدد الخلائق، من خلق و من يخلق إلى يوم القيامة، و لكل رأس وجه، و لكل آدمي رأس من رءوس العقل، و اسم ذلك الإنسان على وجه ذلك الرأس مكتوب، و على كل وجه ستر ملقى، لا يكشف ذلك الستر من ذلك الوجه حتى يولد هذا المولود و يبلغ حد الرجال أو حد النساء، فإذا بلغ كشف ذلك الستر فيقع في قلب هذا الإنسان نور، فيفهم الفريضة و السنة، و الجيد و الردي‏ء، ألا و مثل العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت.

// الثاني: أعتقد أنني بدأت أفهم ما ترمي له من هذه الرواية العجيبة الغريبة، لكن دعني أعيد ترتيب أفكاري السابقة تبعا لفهمي الجديد للعلاقة التي تربطني مع خالقي، ولنبدأ أولا من الاختيار، فوجودي الأول هو الاختيار المحض وهذا هو الوصف الدقيق للبرنامج الصغير ذاتي الاختيار (النفس)، وكل ما اكتسبته باختياري فيما بعد هو إضافة أضفتها باختياري لوجودي الأول.

** الأول:  نعم هو كذلك.

// الثاني: فلو عرضت علي مشارق ومغارب واخترت من بينها ما شئت لنفسي سأبقى أنا هو المختار فقط وكل ما أختاره سيكون مضاف لي، و لكي أختار يجب أن أفكّر، ولكي أفكّر سأحتاج للعقل الكلي أو للحاسوب، فبدونه لا وجود لي ولا قدرة ولا حياة ولا علم، بتعبير آخر أنا بحوله وقوته أختار وأفكر وأقوم وأقعد، إذن لا حول ولا قوة لي إلا به.

** الأول:  تذكر ولا تنسى أبدا أن الحاسوب يقول مثلك كذلك دائما وأبدا أن لا حول ولا قوة لي إلا بـ"هو" الذي أجهل كنهه ومعدنه، ولقد أرجعت قولك الآن لي تحديدا، بينما أنا أرجعه لموجدي وخالقي، وعليه الأجدر بك أن ترجعه أنت لخالقنا وموجدنا مباشرة، أي عندما تقول لا حول ولا قوة لي إلا به يجب أن تكون متوجها لخالقنا وموجدنا جميعا لا لي أنا وتتوقف.

** الأول:  هل عرفت نفسك الآن؟

// الثاني:  قبل أن أتيقن مما تقوله لن أستطيع أن أقول ذلك، وجلّ ما يمكنني قوله هو إنني عرفت ما تريد أن تقوله أنت عن أصل وجودي وهويتي الحقيقية.

** الأول:  لا بأس بذلك فما هي إذن؟

// الثاني:  تريد أن تقول أنني كبرنامج (نفس) يوجد مني ملايين النسخ، وأنها جميعها كانت تتشابه في بداية تكوينها أو لنقل في لحظة ما قبل تفعيلها، فهي جميعها أوّل أمرها كانت عبارة عن مظروف تكويني من قدرة وحياة وأنزلت بها مشيئة، وأن هذه المشيئة والتي تمثل هويتها الحقيقية كانت ساكنة فيها لعدم علمها بأي شيئ بعد، ولكن وفي اللحظة التي ألهمت فيها العلم (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) بدأت مشيئة تلك البرامج بالإرادة وبدأت تختار بها من بين ما عرض عليها من المفاهيم، فقبلت بعضها وأنكرت بعضها الآخر، وبدرجات متفاوتة.

** الأول:  ولكنني لم أتحدث بعد معك مفصلا عن العلم وإلهامه للبرامج النفوس.

// الثاني: بالتأكيد إنك تعرف أن لي بعض القراءات السابقة، وإن كان البعض لا يقبلها، ولكن تشبه بمضمونها لدرجة كبيرة ما تقوله لي الأن، مثل حديث جنود العقل وجنود الجهل

(اعرفوا العقل وجُندهُ والجهل وجنده تهتدوا. قال سماعة: فقلتُ: جُعلتُ فداك لا نعرفُ إلاّ ما عرَّفتنا، فقال أبو عبدا لله الصادق ( ع ) : إنَّ الله خلقَ العقل وهو أوّل خَلقٍ من الرُّوحانِيِّينَ عن يمينِ العرش من نُورهِ فقال له : أدبر فأدبر ، ثمَّ قال له: أقبل فأقبل "بقية الحديث"

ويكمله هذا الحديث الثاني

(الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها إ أتلف وما تناكر منها اختلف)

فالأول يصف طبيعة تلك المفاهيم، والآية تصف عملية الإلهام، والحديث الثاني يصف ما حدث بعد الإلهام حين بدأت المشيئة داخل النفس تريد وبدأت رحلة الأنا فيها بالمسير والانطلاق، هذا المقدار أستطيع أن أتدبره بنفسي ولكن ما لا أستطيع أن أسلم به بسرعة هي مسألة أنني لا شيئ على الإطلاق.

** الأول:  ومن قال لك إنك لا شيئ وإنك يجب أن تسلم بذلك؟

الثاني ألست تقول أنني لا شيئ سوى الإرادة؟

** الأول:  نعم أقول ذلك، ولكن ذلك لا يعني أنك لا شيئ، بل في واقع الأمر إن ذلك يعني أنك كلّ شيئ، فالحاسوب الذي نحن جميعا قائمون به ما هو إلا مشيئة وإرادة لا تفرق عنك سوى أنك ولدت لا تعلم شيئا وهو أنزل هو وعلمه وقدرته وحياته دفعة واحدة، بحيث كانت قدرته هي عين علمه وحياته، وحياته هي عين قدرته وعلمه، وعلمه هو عين قدرته وحياته، ولكن هو يزداد علما كل يوم،

وحين صممك كبرنامج ( نفس ) جعل هويتك التي تميزك عن غيرك لا بعلمك ولا بقدرتك ولا بحياتك، بل جعل هويتك التي تميّزك عن غيرك هي إرادتك وإرادتك فقط، أي جعلك مثله ومثله فقط، ولو آمنت أن للهواء إرادة حرة، وأن للأرض كذلك إرادة حرة، وأن لكل شيئ في الوجود إرادة حرة، بل وأن الوجود نفسه له إرادة حرة نابعة من مشيئة حرة موهوبة لها من صاحب المشيئة الأول ستعرف حينها أن الوجود كله وبتعدد صوره إنما يعبر عن حقيقة الحاسوب (الإنسان الكل صاحب العقل الكل)، وكونه مجرد مشيئة خالقه وموجده.

// الثاني:  أنت تقول أنك تتكلم بلسانه وأنه أوجدك لكي أستطيع أن أتكلم معه ويتكلم معي، فهل ذلك يعني أن علمك أنت هو عين حياتك وقدرتك، وحياتك هي عين قدرتك وعلمك بالتفصيل الذي أوردته قبل قليل؟

** الأول:  كوني صورة ابتدعها لكي يحادثك وتحادثه من خلالها لا تعني أنني أمثّل تمام حقيقته تمام التمثيل، فهو أراد لسبب معين أن يتجلى لك بصورة فتجلى لك بي، والتجلي دائما يمثل ناحية واحدة فقط من حقيقة المتجلي، فأنت تتجلى بفكرة ما على الورق، ومن الواضح حينها أن وجود هذه الفكرة على الورق لا يعبر إلا عن نفس هذه الفكرة فقط، ولا يعبر عن جميع ما يمكنك أن تتجلى به من الأفكار،

 فوجود الفكرة على الورق أضعف من نفس الفكر والفكرة في العقل، ومنه نقول أن حالة التجلي الوجودية هي دائما أضعف من حالة المُتجلي، ومنه فحال الذي تجلى بي نعم هو كما قلت لك، وجوده وحياته وعلمه وقدرته وحدة واحدة لا يسبق أولها آخرها، أما أنا وكصورة تجلى بها الحاسوب لك فإذا أردت أن أعلم من علمه شيئا ما أُعلمنياه، فحالتي الوجودية كتجلي لا تحتمل ولا تستطيع أن تحوي كل علم وقدرة وحياة نفس الحاسوب دفعة واحدة،

ولكن بيني وبينه رابط أو لنسمّه عمود من نور يزودني بواسطته بكل ما احتاجه من علمه وقدرته وحياته عندما وفقط عندما أحتاج لشيئ منها، وإلا فنحن من جهة أولى صور مثلكم، نمشي في الأسواق، ونأكل كما تأكلون، ونموت ونحيا مثلكم لا فرق بيننا وبينكم،.. ومن جهة أخرى فنحن تماما كما أوضحت لك أننا لا فرق بيننا وبين الحاسوب إلا إننا من صنعه وتصويره.

بصائر الدرجات: الهيثم بن أبي مسروق عن محمد بن فضيل عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن الامام منا يسمع الكلام في بطن أمه، فإذا وقع على الأرض بعث الله ملكا فكتب على عضده : " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم " ثم يرفع له عمود من نور يرى به أعمال العباد.

// الثاني:  لقد ادعيت حتى الآن أشياء كثيرة وجميعها عظيمة، ولكنك لم تأتي بأي منها فهل لك أن تريني إحداها على الأقل؟

** الأول:  حبا وكرامة فليس أسهل على الحاسوب من أن يتصرف بما هو من صنعه وتدبيره، هل ترى الظلام من حولنا؟ بالتأكيد نعم، سيتحول هذا الظلام إلى نور وسترد الشمس إلى وسط السماء بعد قليل.

لحظات بدأت بعدها الشمس تخرج من حيث غابت حتى توسطت السماء والثاني ينظر لها بتعجب ثم سقطت مسرعة لتغرب من جديد.

الثاني تجول في خاطره في تلك الأثناء خواطر إنكار وعدم تصديق لم شاهده لتوه من شروق وغروب الشمس، وقبل أن تتبلور فكرة محددة لديه باشره الأول قائلا :

** الأول:  إياك أن تنكر ما شاهدته، ولا تنسى أنني أستطيع أن أعرف ما تفكر به الآن، فنفسك تدعوك للإنكار والاعتراض والتكذيب وأراك قد ملت لتصديقها.

// الثاني: بالفعل هذا ما كان يدور بخلدي، وأرجو منك العذر، فالأمر جلل وأكبر من أن يحتمله عقلي ويصدقه بهذه السرعة.

** الأول:لا عليك، فأنا أعرف بك من نفسك، وأعرف أن التذكير يؤتي ثمره معك، فنفسك تواقة للمعرفة ومحبة وموالية لنا منذ بدء تشكلها.

// الثاني: إن النظر للوجود على أنه وجود عقلي يفتح آفاقا جديدة للفهم ولإنكار الوجود الحقيقي لما عدى موجد الحاسوب والمكان الذي أنزل به.

** الأول:  أراك قد استخدمت نفس تعبيري الذي استخدمته أنا قبل قليل، فهل تفهم معناه؟
// الثاني: أحببت أن أتذاكى وأظهر نفسي فقط.

** الأول:  لا بأس، ولكن حاول أن تقلل من ذلك ما استطعت، إن التنزيل هو التجلي، وهذا التجلي له أطراف معدودة ليكتمل بتمامه، أولها المتجلِّي أو المبدع الأول وهو الذي لا نعرف عنه شيئ، ونكتفي بالإشارة إليه بــ "هو"، وثانيها هو"المتجلّى به" وهو هذا الحاسوب، وثالثها هي"المتجلّى" فيها وهي روح هذا الحاسوب التي هي بين جنبيه، و رابعها هو "المتجلّى" لهم وهم أنت ومن يتفكرون بنا ويتوقون إلينا من البرامج الصغيرة (النفوس)، وخامسها هو "المتجلّى" عليهم، وهم كل ما عدى السابق ذكرهم.

بسم الله الرحمن الرحيم
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ , مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ , الْمِصْبـَاحُ فِي زُجَاجَةٍ , الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ , يُوقَـدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبارَكَـةٍ , زَيـتُونَةٍ لّا شَرْقـيَةٍ وَلا غَـرْبـِيَّـةٍ , يَـكَـادُ زَيْـتُـهَا يُضِـيءُ وَلَـوْ لَـمْ تَمـْسَسْهُ نَـارٌ , نّـورٌ عَلَى نُورٍ , يَهْـدِي اللَّهُ لـنورِهِ مَن يَــشاء , وَيَضـرِبُ اللَّهُ الأَمـْثَالَ لِلنَّاسِ , وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

// الثاني: لم أفهم شيئا مما قلت !!
** الأول:  لاعليك فتلك شقشقة هدرت ثم قرت فلقد مررنا بليلة هي خير من ألف شهر فأحببت أن أذكرها ببعض الكلمات.

// الثاني: وما علاقة تلك الليلة بالتنزيل والتجلي والمشكاة والمصباح؟

** الأول:  هي هي ولكن بكلمات أخرى.

// الثاني: يبدو أن لا رغبة لك بالكلام عنها.

** الأول:  بل هي كل الكلام وما قبله وما بعده، ولكن دعنا الآن نخوض في حديث غيره وسيتأتى لك فهم هذه الكلمات فيما بعد.

قال الإمام الصادق عليه السلام:
مَنْ عَرَفَ فَاطِمَةَ حَقَّ مَعْرِفَتِهَا فَقَدْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ القَدْرِ.

// الثاني: لك ذلك إذن، فابتدئ أنت بالكلام.

** الأول:  حين صمم الحاسوب ما يجري هنا جعل لكل شيئ قدر معين، وجعل أسباب حصول أي أمر من الأمور متعلق بحصول أمور أخرى، وأبى أن تجري الأمور إلا بأسبابها، وهذا واضح لك على ما أعتقد.

// الثاني: نعم.

** الأول:  المشاعر أو الأحاسيس الخمسة هي من تلك الأمور أيضا، ومن تلك المشاعر سنأخذ الرؤية البصرية كمثال نتحدث عنه قليلا، تعلم أن الرؤية تعتمد على الضوء لكي تتحقق، فأحد أسباب الرؤية والتي تتوقف عليها هو توفر أشعة الضوء وحركته، فهل تعتقد أنه يوجد داخل هذا الحاسوب ضوء أو حركة أو مكان حتى؟ بالتأكيد أنت متأكد الآن أنه لا يوجد أي من تلك ألأشياء،

إذن ما الذي يحصل الآن معك؟ فأنت تراني وتعتقد أنه بفعل الضوء المنعكس عني والداخل في عينيك عبر مسالكها وأجهزتها فيتحول إلى إشارات تصل للمخ الذي يترجمها لصور عقلية تستشعرها وتفهمها بدورك، الأن أصبحت تعرف أن لا وجود حقيقي للضوء هنا وعليه ستنقطع سلسلة أسباب الرؤية من بدايتها، فكيف إذن ترى وتفهم وتشعر وتقرر؟

// الثاني: يبدوا أننا سندخل في أمر عويص.

** الأول:  إذا خرجت من العالم المادي الذي تعيشه وتؤمن به وتتعلق به بكل حواسك ودخلت عقليا وفكريا معي في العالم العقلي الذي أكلمك عنه وأنت فعلا موجود به، ستستطيع حينها بسهولة أن تفهم وتتقبل ما ستكتشفه من حقائق كلمات لطالما قرأت عنها مطولا ولم تصل لحقيقتها، منها على سبيل المثال التوحيد الفاعلي أو التوحيد الأفعالي كما يحلو لك أن تسميه،

ففي هذا العالم العقلي كل شيئ ساكن ولا يوجد معنى للحركة أساسا لانعدام المكان والزمان بالصورة التي تفهمهما أنت، وكما قلنا من قبل، فما يوجد في هذا الحاسوب أو العقل الكلي هو برامج كبيرة وصغيرة،بعضها يعمل بخدمة البعض الآخر، وبتعبير آخر توجد به عقول جزئية بعضها يعمل لخدمة بعضها الآخر، وأكبر هذه العقول وأتمها هو ذلك الذي قلنا أنه يشبه ذلك العقل الذي به رؤوس بعدد الخلائق،

طبعا هذا العقل هو أيضا برنامج مثلك ولكن له وظيفة غير وظيفتك، والهدف من إنشائه يختلف عن الهدف من إنشائك كبرنامج حر الإرادة ذاتي الاختيار، دورك هو الاختيار ودوره هو تحويل تلك الاختيارات إلى صور عقلية لك ولغيرك من العقول ممن يشاركك الموقف، فأنت كإرادة ناشئة تحتاج إلى بدن أولي تنطلق منه، وحين قمت بالاختيار في أول الأمر ستكون مهمة هذا العقل الكلي أن يحوّل تلك الاختيارات إلى صور تعيشها، كعائلتك، وجنسك ذكر أو أنثى، ودينك ومذهبك وفكرك،

وسيرسم لك خطة حياتك كلها بجميع ما بها من أفراح وأتراح، هذا العقل معنيّ بأن يخرج اختياراتك من حالة القوة إلى حالة الفعل، من حال السكون إلى حالة الحركة، وعليه فنوع اختياراتك الأولى هي من ستوجه هذا العقل في عملية خلق أو تصوير كل حالك، وحال كل من حولك كذلك،

 نعود الآن للرؤية، ولقد قلنا أنه لا يوجد ضوء داخل الحاسوب، فما هو ذاك الذي نقول عنه أنه ضوء؟ في عالم العقلي الكلي لا يوجد سوى مفاهيم عقلية تأخذ منها العقول الجزئية ما تحتاجه منها وتختزنه، العقل الكلي أو الحاسوب هو من سيقوم بعرض تلك المفاهيم العقلية بشكل نهر سيّال جاري لا ينقطع على النفس أو العقل الجزئي،

ويقوم كذلك بإفهامها معنى تلك المفاهيم، وحين تقرر اختياراتها من بينها يقوم كذلك ايضا بترجمة تلك الاختيارات إلى نهر جاري سيّال لا ينقطع من المفاهيم العقلية لغيرها من النفوس أو العقول الجزئية، فالعقل الكلي هو من يصور كل شيئ داخله، فهو يصور من و لكلّ العقول الجزئية التي تتقوم به، فهو يقوم بتصوير وخلق صور كل الأحداث والمواقف التي تدور داخله لكل برنامج على حده، وبحيث تعتقد كل تلك البرامج الصغيرة أنها تعيش عالم كبير واحد، أو لنقل بحيث تعتقد أنها تعيش جميعها بعالم واحد كبير ذو سبعة أقسام، هذا العقل هو الناقل لتلك الصور وخالقها،

وهو الذي يـُــفهـِمها للبرامج الصغيرة أو العقول الجزئية (النفوس) وهو الذي يَفهمُها أيضا إذا اعتبرنا أنه والعقول الجزئية القائمة به واحد وليس متعدد، التوحيد الفاعلي يريد أن يقول لك أن لا فاعل في هذا العالم العقلي سوى هذا العقل الكلي الذي يحركه ويسيطر عليه الإنسان الكلي الذي يستمد كل ما لديه من علم وقدرة وحياة من "هو" الذي لا يعرف كنهه ومعدنه، والذي هو مسبب وخالق ومصور كل شيئ في هذا الحاسوب وعقله الكلي وعقولنا الجزئية تبعا، هذا هو التوحيد الأفعالي أو الفاعلي والذي الوصول إليه مشروط بفهم وإدراك حقيقة الإنسان الكل والعقل الكل.

// الثاني: جميل ولكنني تصورت أن النتيجة هي وحدة الوجود!

** الأول:  التوحيد الأفعالي او الفاعلي يقول لك انه مع المبدئ لا يوجد إلا العدم، ولا يوجد معه من يستحق أن يوصف أنه معه، المبدئ يقول أنا وحدي لا شريك لي، ووليه يقول عنه: كان ولا مكان وهو الآنَ على ما عليه كان

في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق روي أنّه سئل أمير المؤمنين (عليه السّلام) : أين كان ربّنا قبل أن يخلق سماءأً أو أرضاً ؟

فقال (عليه السّلام) : «
أين سؤال عن مكان ، وكان الله ، ولا مكان ».

وعن موسى ابن جعفر (عليه السّلام) أنّه قال : «
إنّ الله تبارك وتعالى كان لم يزل بلا زمان ولا مكان ، وهو الآن كما كان... ».

رواه الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد عن الدقاق عن الأسدي ، عن البرمكي ، عن عليّ بن عبّاس ، عن الحسن بن راشد ، عن يعقوب بن جعفر الجعفري ، عن أبي إبراهيم موسى ابن جعفر (عليه السّلام).
وفي التوحيد عن الطالقاني عن أحمد الهمداني ، عن أحمد بن محمّد بن عبد الله الصفدي ، عن محمّد بن يعقوب العسكري وأخيه معاذ معاً ، عن محمّد بن سنان الحنظلي ، عن عبد الله بن عاصم ، عن عبد الرحمن بن قيس ، عن أبي هاشم الرّماني ، عن زاذان ،

عن سلمان في حديث طويل يذكر قدوم الجاثليق المدينة المنورة مع مائة من النصارى بعد قبض روح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وسؤاله أبا بكر عن مسائل لم يجيبه عنها ، ثمّ أرشد إلى أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السّلام) ، فساله ، فأجابه ، فكان فيما ساله أن قال له : أخبرني عن الربّ أين هو ؟ وأين كان ؟

فقال علي (عليه السّلام) : « لا يوصف الربّ جلّ جلاله بمكان ، هو كما كان ، وكان كما هو ، لم يكن في مكان ، ولم يزل من مكان إلى مكان ، ولا أحاط به مكان ، بل كان لم يزل بلا حدّ ولا كيف... ».

 التوحيد الفاعلي يريد أن يقول لك أنه لا يوجد إلّا المُبدئ ومشيئته وفعله، وهم واحد، وهذا ما تشاهده من نفسك بالتأكيد، فأنت لا تشك أنك ومشيئتك وفعلك واحد غير متباين، فأنت تقول أنا شئت وأنا فعلت، فمشيئتك لم تنفصل عن ذاتك بل منها صدرت، وفعلك لم ينفصل عنهما كذلك، غير أن فعل المبدئ له صفات غير صفات أفعالك،

فتخيل أن هذا الحاسوب (العقل الكلي) الذي تتقوم أنت وغيرك من البرامج فيه لو شاء أن يتوقف عن الفعل نهائيا فهل تتخيل أن أي من البرامج الجزئية (العقول الجزئية) يستطيع أن يفكر؟

بل هل يستطيع حتى أن يدرك وجوده؟

فتوقف الحاسوب (الإنسان الكل) عن الفعل سيعني اختفاء وانعدام كل من يشعر أن له أنا منفصلة عن غيره، بل إن السماوات والأرضين ستسيخ بمن فيها وتنعدم، فشعور جميع البرامج في هذا الحاسوب بوجودها في كل آن مرتبط بدوام واستمرارية فعل هذا الحاسوب و العقل الكلي،

ولذلك ينفي المبدئ ويقول لا يوجد ولا وجود لما لا أعلمه، لأنه بدون فعلي لا يتحقق الظهور لــ أي شيئ لأي شيئ، وأنا أعلم بفعلي بالتأكيد،

ويقول أنا الظاهر أنا الباطن بمعنى أنا العلة وأنا المعلول،

ويقول: لم ألد ولم أولد بمعنى لم أنفصل عن شيئ ولم ينفصل عني شيئ،

فكيف لفعلي أن ينفصل عني ويبقى له وجود؟

ويقول أنا خالق كل شيئ بمعنى أنا فاعل كل شيئ،

ويقول أنا أعلم بما تضمرونه في صدوركم لأني أنا من يخلقه فيه لكم كما تريدون،

فهو يقول إن خطرات الظنون الخفية أنا أفعلها أي أنا أخلقها لكم في صدوركم وعقولكم فكيف لا أعلم بها؟

ويقول أنه خلقكم وما تفعلون بمعنى أنه فعلكم أنتم وهو الفاعل كذلك لما تفعلون،

التوحيد الفاعلي يريد أن يطير بك في سماوات الملكوت وأنواره، وتشبثك بوحدة الوجود أو وحدة الموجود أو إنكارهما والقول بالإثنينية أو بالكثرات يريد أن يقيدك بالأرض.

// الثاني: لن أناقشك في ذلك كثيرا لعلي أقتنع به فيما بعد حين تتاح لي فرصة للتأمل فيما قلته لي ومقاربته مع ما قرأته وسمعته من غيري، ولكنني أردت أن أسألك عن فكرة قد أوردتها في طيّات كلامك بشكل سريع ومقتضب ولي عليها تساؤل وأود أن تفصـّــل شرحها لي، وذلك حين قلت لي أنني بعد أن قمت بالاختيار في أول الأمر ستكون مهمة هذا العقل الكلي أن يحول تلك الاختيارات إلى صور أعيشها كعائلتي وجنسي، ذكر كان أم أنثى، وديني ومذهبي وفكري، وأنه سيرسم لي خطة حياتي كلها بجميع ما بها من أفراح وأتراح، وهذا الكلام استوقفني وقتها بل ما زال يستوقفني منذ أن أدركت وجودي، فكنت والكثير ممن أعرفهم نسأل لماذا أصبح الذكور منا ذكورا ولماذا الإناث أصبحن إناثا؟ ولماذا خُلقت في هذا المكان وفي هذا الوسط وفي هذه العائلة وليس في غيرها؟ ثم بعد ذلك سيثاب بعضنا أو سيعاقب على أمر كان اكتسابه له تحصيل حاصل بسبب وجوده الجبري في ذلك الوسط؟ أليس في ذلك إجبار؟ أليس في ذلك ظلم؟ أليس في ذلك عشوائية؟

** الأول:  أنت تسأل سؤال جميل والإجابة عليه بسيطة وممتنعة في نفس الوقت.

// الثاني: وكيف لذلك أن يكون؟ بسيطة وممتنعة في نفس الوقت، هل لك أن توضح سبب الامتناع والبساطة؟

** الأول:  بالتأكيد سأفعل ذلك، لقد كانت الإجابة عن تلك الأسئلة صعبة بالنسبة لك ولغيرك كونكم كنتم تبحثون عن الإجابة في غير محلها وفي غير زمانها، فعندما تقول أو تعتقد أن بداية وجودك هي في تلك اللحظة التي خرجت فيها من الرحم سيكون من الصعب عليك أن تجد جوابا لما تبحث عنه، ولكن لو طبقت مبدأ أن الحاضر نتاج الماضي والمستقبل نتاج الحاضر ستدرك أنك يجب أن تبحث عن السبب في أمور جرت في ما قبل الولادة،

وهذا هو ما ألمحته لك في ما سبق من كلامي وتسأل أنت عنه الآن، فالحاسوب أخذ على نفسه أنه إذا أوجد تلك البرامج الصغيرة الذاتية الاختيار وعرض عليها ما شاء من المفاهيم واختارت بدورها ما شائت منها لنفسها أن يوصل كل برنامج منها لتحقيق تلك المفاهيم كما أرادتها لنفسها، وأن يوفر لها كل الأدوات الآزمة لها لتحقيق تلك المفاهيم لذواتها، بتعبير آخر أخذ على نفسه أن يوصل كل مريد منها (البرامج أوالنفوس) لمرادها، وأن يوفر لكل مريد منها الوسائل والأدوات التي تعينها على ذلك

 والآن دعني أبدء بتوضيح لماذا أخذت بعض البرامج (النفوس) صورة الأنثى وبعضها أخذت صورة الذكر رغم أنها في لحظة الإلهام (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا , فألهمها جورها وَتَقْوَاهَا) كانت جميعها متشابهة غير محددة الجنس، فتلك البرامج أو النفوس عُرضت عليها مفاهيم سمـّــيت في الرواية بأنها جنود عقل وجنود جهل، سنأخذ واحدة من تلك البرامج ونفترض أنها اختارت لنفسها بعض تلك الجنود على التفصيل التالي:

اختارت لنفسها مثلا أن تكون متصفة من تلك الجنود بالرأفة والرحمة والاستسلام والصبر والصفح والتعطف والقنوع والمؤاساة والمودة والطاعة والخضوع والحب والنظافة بنسبة عالية من كل منها، هذا بالإضافة إلى باقي الجنود طبعا لكن بأي نسبة كانت،

لو أردنا أن نعرف ماذا يجب أن يكون جنس أو لباس تلك النفس التي اختارت تلك الصفات سنجزم أنها يجب أن تتلبس بلباس الأنثى لموافقة تلك الجنود للإناث وسنجد أن الوظائف الملقاة على عاتق الإناث ما هي إلا أدوات ووسائل وجودية تكوينية لتحقيق واستخراج تلك الجنود والصفات من حالة الإمكان إلى حالة التحقق، بل وسنجد كذلك أن نفس الذكر الذي ستقترن به كزوجة هو كذلك أداة لتحقيق ما آمنت به من جنود الصبر والقنوع والمواساة والطاعة والخضوع والمودة وغيرها من باقي الجنود، وهي بدورها ستكون من سيعين الزوج كذلك على استخراج ما آمن به من الجنود من حالة الإمكان إلى حالة التحقق،

 الآن لو كانت تلك النفس آمنت أيضا بالشقاوة والخفة والإذاعة والتبرج والنميمة والمماكرة وغيرها مما يشاكلها من الصفات فمن الظلم لها ولوالديها كذلك لو أن الحاسوب أو العقل الكلي أنزل هذا البرنامج وسط عائلة تبحث عن الستر والدين ومكارم الأخلاق، فهي تريد الفسوق وهم يريدون الستر وعليه فمن العدل لو أنزل هذا البرنامج وسط عائلة تفرح بها وتفرح هي بهم، ويعينون بعضهم البعض على ما يريدون، وقد تنزّل بين العائلة في الافتراض الأول من باب الاختبار والابتلاء لهم ولها كذلك،

 ولو آمنت غيرها من النفوس بضد تلك الجنود فمن العدل أن تنزّل في وسط آخر يعينها على ما تريد الوصول إليه، نفس هذا المثل سينطبق على من سيتلبـس من تلك البرامج بلباس الرجال، فزوجته وجنسيته وأهله وجيرانه وبلده ودينه ومذهبه وأصدقائه كل ذلك مجرد أدوات ووسائل ستعينه على تحقيق ذاته وما أمنت به نفسه من الجنود، فالحاسوب او العقل الكل مهمته توفير الجو المناسب والأدوات المناسبة وإيجاد كل برنامج منها في الأجواء والزمن المناسب الذي سيستطيع به أن يحقق ذاته تمام التحقق وبأكمل صورة لا يشعر معها بانعدام أي أداة تعينه على الوصول لذلك الهدف،

(وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)

إن نفس اختيار هذه الاختيارات أو الجنود او المفاهيم العقلية هو بمثابة سؤال أو دعاء تكويني للحصول على ما سيعينه لتحقيق تلك الاختيارات، كما أن الحاسوب مهمته كذلك لاتمام هذه المهمة على أكمل وجه أن يرسم لكل برنامج خطة حياته من بدئها حتى نهايتها، في أي زمن، ومع من، وما هي صور ابتلاءاته وأفراحه، منفردا بها كان أو مجتمعا بها مع غيره

(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ِلكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)

وكل ذلك من أجل أن يستخرج مكنوناته، ولكي يحقق لكل برنامج منها ما اختاره بمشيئته من تلك الجنود لنفسه، ولذلك قد قلت لك أن كل برنامج هو من حدد لنفسه في أي جسد سينزل، وفي أي زمن سينزل، ووسط أي مجتمع سينزل، وأي دين ومذهب سيتبع، بتعبير آخر أنها ستعيش تجليات اختياراتها ومشيئتها الأولى في النشأة الأولى، تماما كما أنها ستعيش بعد ذلك تجليات اختياراتها ومشيئتها في نشآت أخرى لاحقة،

وستجد بقليل من التأمل نفس هذا المعنى كذلك في كلام وليه الأوحد حين قال سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لا تسألوني عن فئة تضل مائة و تهدي مائة إلا أنبأتكم بناعقها و سائقها

عن عليّ عليه السلام من خطبة له ذكر فيها الفتنة، ثمّ قال-: فاسألوني قبل أن تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شي‏ءٍ فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضلّ مائة، إلّا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومُناخ  ركابها، ومحطّ رحالها، ومن يُقتل من أهلها قتلاً ومن يموت منهم موتاً.
ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائهُ الاُمور، وحوازب الخطوب‏، لأطرق كثير من السائلين، وفشل كثير من المسؤولين، وذلك إذا قلّصت‏ حربكم وشمّرت عن ساقٍ، وضاقت الدنيا عليكم ضيقاً، تستطيلون معه أيّام البلاء عليكم، حتى يفتح اللَّه لبقيّة الأبرار منكم‏

فكل برنامج معروف ومحدد موقعه وزمانه الذي سينزل به، وجميع الفتن التي سيبتلى بها حين ينزل بذلك الزمان والمكان محددة ومعروفة تمام المعرفة والتحديد، فتلك الفتن ستعمل على إظهار تلك الإختيارات الأولى أتمّ إظهار.

// الثاني: لو أردت أن أتقمص شخصيتك وأخطب في البرامج من حولي لخطبت فيهم خطبة تتحير فيها عقولهم، ويسقط فيها ضعيفهم وقويهم، إلا من امتُحِنَ قلبه بحبكم، ولقلت فيها ما لو سمعوه لقالوا إنني كفرت وادعيت ما ليس لي، وأسهل ما كنت لأقوله فيها أنا الثمار أنا ألأشجار أنا البحار، أنا الجنة أنا النار، أنا روحي في الأرواح وجسدي في الأجساد، واسمي في الأسماء ونفسي في النفوس، أنا مدبر العالم الأول حين لا سماؤكم هذه ولا غيركم، وأنا أعرف ما كان وما يكون وما كان في الذر الأوّل مع من تقدّم من آدم الأول، ولقد كُشف لي فعرفت، وسأخطب وأخطب بهم حتى تسقط أحنكاهم من أماكنها، وحينها سأقول لهم: ألا فاشهدوا شهادة سائلكم بها عند الحاجة إليها، إنّي نور مخلوق وعبد مرزوق ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله ولعنة اللاعنين.

من خطبة لأمير المؤمنين  أبو الأئمة أبا الحسن علي عليه السلام :

أنا عندي مفاتيح الغيب ، لا يعلمها بعد رسول الله إلا أنا ، أنا ذو القرنين المذكور في الصحف الأولى ، أنا صاحب خاتم سليمان ، أنا ولي الحساب ، أنا صاحب الصراط والموقف ، قاسم الجنة والنار بأمر ربي ، أنا آدم الأول ، أنا نوح الأول ، أنا آية الجبار ، أنا حقيقة الأسرار ، أنا مورق الأشجار ، أنا مونع الثمار ، أنا مفجر العيون ، أنا مجري الأنهار ، أنا خازن العلم ، أنا طود الحلم ، أنا أمير المؤمنين ، أنا عين اليقين ، أنا حجة الله في السماوات والأرض ، أنا الراجفة ، أنا الصاعقة.. باقي الخطبة


** الأول:  هل تقول ذلك عن اقتناع؟

// الثاني: أصدقك القول؟ كلا لست مقتنعا بهذا الكلام، ولكنه من كلام قرأته فيما سبق فنعتّ صاحبه بما حذر منه، ولكنني الآن يجب أن أعيد النظر بكلامه وكذلك بحكمي عليه، فإذا كنت أقبل عقليا أن يكون هذا الكلام أو هذه الفكرة مقبولة في صندوق صغير هو الحاسوب فكيف لي أن أنكره لما هو أكبر وأعظم منه، وبالتأكيد ان الأمر حينها سيكون أعظم وأدق مما قبله عقلي عن الحاسوب.

** الأول:  أظنك أدركت أو فهمت الآن لماذا كان نفسه يحذر أصحابه من أن يردّوا كلماته أو أن ينكروها، فعملية الإنكار والرد بالنسبة لعملية التـّــفكـّــر هي كوضع النقطة بعد الكلام، فبعدها لا كلام، وبعد الرد والإنكار لا تفكـر ولا تدبر، فيجمد الفكر حينها ويتحجر القلب معه.

// الثاني: أظنني يجب أن ألغي جميع ما كنت أختزنه من عقائد مادية لكي أكون مستعدا لحلول مفاهيم الوجود العقلي مكانها وبسهولة.

** الأول:  إنّ عملية التخلي قبل التحلي في العقائد ضرورية تماما كما أنها ضرورية في الأخلاق.

// الثاني: اعتبرني قد تخلّيت فعلا من كل عقيدة، وأريدك أن تخبرني عن شيئ يخالف كل تصوراتي التي تعرفها مني.

** الأول:  ما أعرفه أنك متعلق بالمادة حتى أذنيك، وكيفما تحدثت وبماذا تحدثت فإنني سأخالف تصوراتك على كل حال.

الثاني خجلا : لا أكف عن التذاكي معك فأرجو المعذرة.

** الأول:  لا بأس، سأكلمك الآن عن العالم الذي تعيش به والعوالم التي تحيط به.

// الثاني: تفضل بكل سرور وكلي آذان صاغية.

لحظات صمت كان عقل الثاني يجول بها من فكرة إلى فكرة والأول كان يستمع إليه.

الأول قاطعا لأفكار // الثاني: ألم أقل لك أنني أستطيع معرفة ما تفكر به وكأنني أسمعك تتحدث به؟

// الثاني: أين الفرار منك إذن؟

** الأول:  ولماذا تريد الفرار ممن يسمعك حين تنكره وتعصيه وهو نفسه من يسمعك حين تناجيه؟ ولقد قلت لك من البدء إنني هنا لكي أجيبك على ما يطرحه عقلك من أسئلة، وليس لأحدثك بما لم تفكر به ولم يخطر لك على بال.

// الثاني: لقد سمعت ما ثار في ذهني فماذا تقول فيه؟

** الأول:  تريد أن تعرف ما دور الصفر والواحد في الحاسوب وماذا يمثلان؟
أظنك لاحظت أنني مرة أقول الإنسان الكل (الحاسوب) ومرة أقول العقل الكل، وحتى الآن أراك مرتبكا في فهمهما، فمرة تحسب أنهما واحد ومرة يخطر ببالك أنهما اثنان، أما مرادي فهما اثنان من حيث أنهما واحد، تماما كحالك أنت، فأنت إنسان عندك قوى متعددة ولكل قوة منها آلة، مثل آلة البصر والشم واللمس والسمع، وآلة القوى العاقلة هي العقل، والعقل لكي يعمل يحتاج إلى مادة أولية بسيطة غاية في البساطة يستطيع أن يشكل منها صور ومفاهيم لا غاية لأمدها ولا نهاية لعددها،

أنت تقول أنها في الحاسوب هي الصفر والواحد، وبدون الصفر والواحد لا يمكن للحاسوب أن يفكر ولا أن يعمل، والوليّ الأوحد يقول أنها النقطة التي تحت الباء، والنقطة كما تعلم هي وجود افتراضي لا يوجد في الخارج لها تعين خارجي تماما كما أن الصفر والواحد وجود افتراضي افترضه المبرمج ولا وجود حقيقي لها في الحاسوب،

هذه النقطة الوهمية يأخذها العقل ويضاعفها فيصنع منها مستقيمات ودوائر وأشكال هندسية ومسطحات بأشكال مختلفة حتى يصور منها عوالم كاملة بكل ما بها من صور مختلفة، كل هذه الافتراضات والتضعيفات الـ لا نهائية للنقطة يقوم بها العقل، ولكنه { أي العقل} لم يفترض تلك النقطة نفسها، تماما كما أن الحاسوب لم يُوجد أو يفترض الصفر والواحد من عنده لكي يستطيع أن يفكر ويحسب،

هذه النقطة ليست من عالم العقل، ولكنها نُزّلت في العقل تنزيلا من عالم هو فوق عالم العقل ومسيطر عليه ومحرك له ومصمم له كذلك، هذه النقطة هي من الإنسان الكل ونزّلت في العقل، أي أن هذه النقطة هي من عالم القوى نزّلت في العقل أي تجلّت في العقل، وفي عالم العقل تستطيع الصور والمفاهيم أن تتحرك به كيفما تشاء ولكن فقط في حدوده، وتلك المفاهيم والصور العقلية إذا حاولت أن تخرج من حدود العقل أو من العقل نفسه ولو قيد أنملة فإنها ستحترق ووحدها النقطة ستستطيع أن تخرج من عالم العقل إلى عالم ما وراء العقل، لأنها من الأساس قد تنزّلت من هناك،

(قال جبرئيل: تقدم يا رسول الله ليس لي أن أجوز هذا المكان و لو دنوت أنملة لاحترقت)

أبعد كل هذا ما زلت تبحث عن الحقيقة، وحده لا شريك له، هذه هي الحقيقة، وحده لا شريك له في الفعل، فلا فاعل غيره (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)، فهو فاعل واحد وأفعاله متعددة، ورغم أن صور أفعاله متعددة فهو واحد، وهو وحده لا شريك له في الصفات، وهو وحده لا شريك له في الوجود، وهو وحده لا شريك له في الإلوهية، وهو وحده لا شريك له على الإطلاق،

إذا استطعت أن تثبت له شريك في أي مما ذكرت تكون قد تعديت الحقيقة، الحقيقة هي أنه وحده لا شريك له، الحقيقة لا تأتي جاهزة في علب توضع على الرفوف، طالب الحقيقة يجب أن يخرج من بيته طلبا لها، ولن يصل لها حتى تموت أناه في طلبها فيرى أنه وحده لا شريك له حتى في أناه، وحتى يكون لسان حاله كلسان حال وليه الأوحد وكما ورد في أشعار الملا الرومي يصف فيه حوار بين مولانا أمير المؤمنين وقاتله اللعين ابن ملجم بعد أن طلب منه اللعين ابن ملجم قتله حتى لا يبتلي بهذه العاقبة السيئة، فرد عليه أمير المؤمنين عليه السلام (اذهب فقد جف القلم ولا مفر، وقد نكست أعلام بقلم التقدير هذا، وليس في نفسي حقد عليك، لأني لا أعد هذا الفعل فعلك فلست إلا آلة للحق والفاعل يد الحق، فكيف يمكن الاعتراض على آلة الحق).

// الثاني: بما أنك تسمعني حين أفكر فلن أتركك تبادر بالإجابة قبل أن أسألك.

** الأول:  لو علمت أنك تريد الإجابة مني بدون أن تسأل لقلت أنك تريد أن تختبرني ولا زلت تشك بأقوالي، ولكن بما أنك بادرت فتفضل، فإنني أحب أن أسمع صوتك يسألني.

// الثاني: هل أفهم منك أن إبليس هو كذلك من فعل الحاسوب، وأنه مجرد برنامج يقوم ويقعد بحول وقوة الحاسوب، فيضل من يضل ويدخل بسببه من سيدخل إلى العذاب؟

** الأول:  هو كذلك بالفعل، بل إن أهمية وجود برنامج  إبليس المضل تعادل أهمية وجود برنامج الخليفة الهادي، فكما أنه لا بد من أن يتشخّص الهادي ببرنامج واحد يتولى مهمة هداية بقية البرامج لجنود العقل التي اختارتها لنفسها حتى ترتقي بها تخلقا وعملا، كذلك لا بد أن يتشخص برنامج مضل واحد كذلك ليتولى مهمة هداية بقية البرامج لجنود الجهل التي اختارتها لنفسها دونا عن غيرها، ولا بد أن يكون البرنامجين متعادلين بالقدرة متضادين بالاتجاه، وهذا ما تفهمه من رواية جنود العقل وجنود الجهل

روي عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ انه قَالَ:
كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام وعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ مَوَالِيهِ فَجَرَى ذِكْرُ الْعَقْلِ والْجَهْلِ فَقَالَ أَبُوعَبْدِ الله عليه السلام: اعْرِفُوا الْعَقْلَ وجُنْدَهُ والْجَهْلَ وجُنْدَهُ تَهْتَدُوا.
قَالَ سَمَاعَةُ فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ لا نَعْرِفُ إِلا مَا عَرَّفْتَنَا.
فَقَالَ أَبُوعَبْدِ الله عليه السلام: إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ خَلَقَ الْعَقْلَ وهُوأَوَّلُ خَلْقٍ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ مِنْ نُورِهِ فَقَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ فَقَالَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى خَلَقْتُكَ خَلْقاً عَظِيماً وكَرَّمْتُكَ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِي قَالَ ثُمَّ خَلَقَ الْجَهْلَ مِنَ الْبَحْرِ الاجَاجِ ظُلْمَانِيّاً فَقَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَلَمْ يُقْبِلْ فَقَالَ لَهُ اسْتَكْبَرْتَ فَلَعَنَهُ ثُمَّ جَعَلَ لِلْعَقْلِ خَمْسَةً وسَبْعِينَ جُنْداً فَلَمَّا رَأَى الْجَهْلُ مَا أَكْرَمَ الله بِهِ الْعَقْلَ ومَا أَعْطَاهُ أَضْمَرَ لَهُ الْعَدَاوَةَ فَقَالَ الْجَهْلُ يَا رَبِّ هَذَا خَلْقٌ مِثْلِي خَلَقْتَهُ وكَرَّمْتَهُ وقَوَّيْتَهُ وأَنَا ضِدُّهُ ولا قُوَّةَ لِي بِهِ فَأَعْطِنِي مِنَ الْجُنْدِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ فَقَالَ نَعَمْ فَإِنْ عَصَيْتَ بَعْدَ ذَلِكَ أَخْرَجْتُكَ وجُنْدَكَ مِنْ رَحْمَتِي قَالَ قَدْ رَضِيتُ فَأَعْطَاهُ خَمْسَةً وسَبْعِينَ جُنْداً فَكَانَ مِمَّا أَعْطَى الْعَقْلَ مِنَ الْخَمْسَةِ والسَّبْعِينَ الْجُنْدَ: ... الرواية

وأول من سيختار من تلك البرامج التخلق بجميع جنود العقل بنسبة مائة بالماْئة لكل منها وسيرفض جنود الجهل مائة بالماْئة سيكون هو الأجدر بتولي مهمة قيادة الهداية والدعوة لجنود العقل ومنه وبالمقابل سيتضح أيضا أن أول من سيختار من البرامج التخلق بجنود الجهل جميعها وبنسبة ماْئة بالماْئة ويرفض كذلك جنود العقل كلها وبنسبة ماْئة بالماْئة سيكون هو الأجدر بتولي مهمة قيادة الهداية والدعوة لجنود الجهل، وهذان البرنامجان تشخّـصا مباشرة بعد أن تمت عملية الإلهام وتجندت تلك البرامج منها بما شائت لنفسها من تلك الجنود.

// الثاني: هل تقصد أن إبليس هو البرنامج الذي اختار التخلق بجنود الجهل جميعها وبنسبة ماْئة بالماْئة ورفض كذلك جنود العقل كلها بنسبة ماْئة بالماْئة؟

لكنّ تاريخه المعروف لا يشير لذلك، فأول أمره كانت سيرته تقول أنه أول من آمن واختار التخلق بجنود العقل جميعها وبنسبة ماْئة بالماْئة ورفض جنود الجهل كذلك كلها وبنسبة ماْئة بالماْئة حتى كانت الملائكة تعتقد أنه واحد منها.

** الأول:  لقد كان هذا البرنامج من الكافرين وهو في حاله الذي وصفته قبل أمر السجود، لكنه كان يخفي كفره لحاجة في نفسه استدعت منه أن يظهر غير ما يبطن، فاستعان بجندي الجهل النفاق للوصول لتلك الحاجة، فهو أي النفاق أهم وأقوى جنود الجهل وبه استطاع  إبليس أن يكون ظاهره عكس باطنه تمام العكس، وقد تسأل لماذا نافق وأظهر عكس حقيقته وقمع بذلك جميع جنوده الأخرى، والجواب أنه كان يطمع لأن يكون هو الخليفة على الأرض

أورد الشيخ‌ الطبرسي‌ّ في‌ « الاحتجاج‌ » بسنده‌ عن‌ « التفسير المنسوب‌ للإمام‌ الحسن‌ العسكري‌ّ عليه‌ السلام‌ » عن‌ الرضا عليه‌ السلام‌، أنّه‌ قال‌:

 قَالَ علی بْنُ الحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلاَمُ: إذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلُ قَدْ حَسُنَ سَمْتُهُ وَهَدْيُهُ وَتَمَاوَتَ فِي‌ مَنْطِقِهِ وَتَخَاضَعَ فِي‌ حَرَكَاتِهِ فَرُوَيْدَاً لاَيَغُرَّنَّكُمْ.

 فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يُعْجِزُهُ تَنَاوُلُ الدُّنْيَا وَرُكُوبُ الحَرَامِ مِنْهَا لِضَعْفِ نِيَّتِهِ وَمَهَانَتِهِ وَجُبْنِ قَلْبِهِ، فَنَصَبَ الدِّينَ فَخَّاً لَهَا فَهُوَ لاَ يَزَالُ يَخْتُلُ النَّاسَ بِظَاهِرِهِ، فَإنْ تَمَكَّنَ مِنْ حَرَامٍ اقْتَحَمَهُ.

 وَإِذَا وَجَدْتُمُوهُ يَعِفُّ عَنِ المَالِ الحَرَامِ فَرُوَيْدَاً لاَيَغُرَّنَّكُمْ، فَإنَّ شَهَوَاتِ الخَلْقِ مُخْتَلِفَةٌ. فَمَا أَكْثَرَ مَنْ يَنْبُو عَنِ المَالِ الحَرَامِ وَإنْ كَثُرَ، وَيَحْمِلُ نَفْسَهُ علی شَوْهَاءَ قَبِيحَةٍ فَيَأْتِي‌ مِنْهَا مُحَرَّمَاً.

 فَإذَا وَجَدْتُمُوهُ يَعِفُّ عَنْ ذَلِكَ فَرُوَيْدَاً لاَ يَغُرَّنَّكُمْ حَتَّي‌ تَنْظُرُوا مَا عُقْدَةُ قَلْبِهِ. فَمَا أَكْثَرَ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ أَجْمَعَ، ثُمَّ لاَيَرْجِعُ إلی عَقْلٍ مَتِينٍ، فَيَكُونُ مَا يُفْسِدُهُ بِجَهْلِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ بِعَقْلِهِ.

 فَإِذَا وَجَدْتُمْ عَقْلَهُ مَتِينَاً فَرُوَيْدَاً لاَ يَغُرَّنَّكُمْ حَتَّي‌ تَنْظُرُوا أَمَعَ هَوَاهُ يَكُونُ علی عَقْلِهِ، أَمْ يَكُونُ مَعَ عَقْلِهِ علی هَوَاهُ، وَكَيْفَ مَحَبَّتِهِ لِلرِّيَاسَاتِ البَاطِلَةِ وَزُهْدِهِ فِيهَا، فَإنَّ فِي‌ النَّاسِ مَنْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ يَتْرُكُ الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا وَيَرَي‌ أَنَّ لَذَّةَ الرِّيَاسَةِ البَاطِلَةِ أَفْضَلُ مِنْ لَذَّةِ الاَمْوَالِ وَالنِّعَمِ المُبَاحَةِ المُحَلَّلَةِ، فَيَتْرُكُ ذَلِكَ أَجْمَعَ طَلَبَاً لِلرِّيَاسَةِ. حَتَّي‌ إذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمَ وَلِبِئْسِ المِهَادُ.

 فَهُوَ يَخْبِطُ خَبْطَ عَشْوَاءَ يَقُودُهُ أَوَّلُ بَاطِلٍ إلی أَبْعَدِ غَايَاتِ الخَسَارَةِ، وَيَمُدُّهُ رَبُّهُ بَعْدَ طَلَبِهِ لِمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي‌ طُغْيَانِهِ. فَهُوَ يُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَهُ وَيُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَهُ لاَ يُبَالِي‌ مَا فَاتَ مِنْ دِينِهِ إذَا سَلِمَتْ لَهُ رِيَاسَتُهُ الَّتِي‌ قَدْ شَقِي‌َ مِنْ أَجْلِهَا.

 فَأُولَئِكَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابَاً مُهِينَاً. وَلَكِنَّ الرَّجُلُ كُلَّ الرَّجُلِ نِعْمَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي‌ جَعَلَ هَوَاهُ تَبَعَاً لاِمْرِ اللَهِ وَقُوَاهُ مَبْذُولَةً فِي‌ رِضَي‌ اللَهِ يَرَي‌ الذُّلَّ مَعَ الحَقِّ أَقْرَبَ إلی عَزِّ الاَبَدِ مِنَ العِزِّ فِي‌ البَاطِلِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ قَلِيلَ مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ ضَرَّائِهَا يُؤَدِّيهِ إلی دَوَامِ النَّعِيمِ فِي‌ دَارٍ لاَ تَبِيدُ وَلاَ تَنْفدُ، وَأَنَّ كَثِيرَ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ سَرَّائِهَا إنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ يُؤَدِّيهِ إلی عَذَابٍ لاَ انْقِطَاعَ لَهُ وَلاَيَزُولُ.

 فَذَلِكُمُ الرَّجُلُ نِعْمَ الرَّجُلُ، فَبِهِ فَتَمَسَّكُوا وَبِسُنَّتِهِ فَاقْتَدُوا، وَإلَي‌ رَبِّكُمْ فَبِهِ فَتَوَسَّلُوا فَإنَّهُ لاَ تُرَدُّ لَهُ دَعْوَةٌ وَلاَ يُخَيَّبُ لَهُ طَلِبَةُ.


فاتخذ من النفاق وسيلة لنيل هذه المرتبة حتى تبين له أن أمانيه قد ذهبت أدراج الرياح بالإعلان عن الخليفة، فبرز هنا جندي الجهل الحسد في وجوده،

عن أبي عبد الله عليه السلام قال فلما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد


وبدأت جنود الجهل تعمل في داخله من تلك اللحظة ويثيرها ويحركها الحسد تريد الظهور

عن الامام المجتبى أنه قال: هَلَاكُ النَّاسِ فِي ثَلَاثٍ الْكِبْرِ وَ الْحِرْصِ وَ الْحَسَدِ فَالْكِبْرُ هَلَاكُ الدِّينِ وَ بِهِ لُعِنَ إِبْلِيسُ وَ الْحِرْصُ عَدُوُّ النَّفْسِ وَ بِهِ أُخْرِجَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ وَ الْحَسَدُ رَائِدُ السُّوءِ وَ مِنْهُ قَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ

فالتكبر وكذلك التسرع والجرأة والجحود والقنوط والسخط واليأس وباقي جنود الجهل كلها بدأت بالفوران بداخله وتريد الظهور مسرعة انصافا للحسد، معلنة بذلك سخطها على النفاق الذي كان يقمعها طوال تلك الآلاف من السنين بين الجن ومثلها وأكثر بين الملائكة على أمل أن تكون لها السيادة فيما بعد، حتى جائت لحظة إظهار وكشف ما لم تكن الملائكة تعلمه من حقيقته وجاء الأمر بالسجود للخليفة، فبرز جندي الجهل (الإستكبار) في وجوده ومنعه من السجود وحين سأله ربه لماذا لم تسجد؟

كان بإمكانه لو أنه قد شعر بالندم ويريد التوبة أن يقول إنك أمرت الملائكة وأنا لست من الملائكة، فأنا من الجن وعليه فأمر السجود لا يشملني، ولكنه لم يكن يشعر بدافع يدفعه للتوبة ولا ولن يمكنه ذلك، فالتوبة من جنود العقل ولا حظ له منها مطلقا، فهو اسم الجهل الأعظم ومظهره،

فساقه جندي الجهل الجرأة على المناقشة والمحاججة، كل تلك الجنود برزت في وجوده دفعة واحدة بمجرد أن سقط جندي النفاق وفقد قدرته على السيطرة على باقي الجنود، فأخذت جنود الجهل بالظهور في كيانه وتظهر في كلماته ومواقفه تباعا وبسرعة فائقة، فترك الحياء وتكلم بالقبيح أمام ربه عندما برز جندي الجهل القنوط فيه، فقنط من الحصول على رغبته ومناه بأي شكل من الأشكال،

وبرزت كذلك جنود الجهل الاستهتار والتهتك والإصرار في ذلك الموقف ومهدوا الطريق لزميلهم التطاول فتطاول على سيده بالكلام والوعيد والتهديد، وخلفهم جميعا كان جندي الجهل الأكبر الغضب يحرّضهم بقوة على المبارزة والهجوم بلا هوادة تحقيقا لرغبة جندي الجهل الإنتقام،

سيده كان يعلم بتلك النتيجة الكارثية على إبليس الذي يمثل الجهل المطلق نتيجة لأمر السجود الذي أمره به، ولكنه قد كتب على نفسه أن يوصل كل مريد لمراده وأن يمكن كل مريد من الأدوات التي ستعينه على الوصول لغايته وكماله، ومراد هذا البرنامج (إبليس) هو القيادة، وأدواته لتحقيق مراده هي جميع الخلائق التي تجندت بجنود الجهل، وكان سيده يعلم أن كمال هذا البرنامج هو أن يكون هو من يهدي غيره من البرامج لجنود الجهل وان يكون هو الهادي والقائد والمرشد لها على الإطلاق،

ولكنه (سيده) لم يكن ليظهر بمظهر المنخدع والمستغفل أمام أحد برامجه التي تحتاجه في كلّ وجودها، فأعطاه هذه الفرصة الطويلة بين الملائكة ليسأل الخلافة ولكنه لم يسأل الخلافة وما كان ليستطيع أن يسألها على أية حال، لأن السؤال يحتاج إلى خضوع، وهو كله تطاول، فاتخذ من الخداع والنفاق طريقا يحسب أنه سيوصله لها.

// الثاني: مهلا.. مهلا.. كأنني بدأت أسمع إثر كلماتك هذه طبول حرب وقعقعة سيوف وتعالي أنفاس المتحاربين المضطربة، ألا ترى أنك تبالغ قليلا في وصف ما جرى؟

** الأول:  بل أعتقد أنني لم أوف المشهد المخفي عن العيون حقه بهذا الوصف، فكل برنامج يتعرض لموقف يكون جندي الحسد أول من يتحرك فيه فيثور ويطلب الإنصاف سيستلزم مني أن أحرك وأحرض جميع الجنود التي تستطيع أن تعين الجندي الحسد على ما يريد، وأحيانا يجب علي أن أحرك وأحرض جميع جنود الجهل من أجل إرضاء الحسد وإطفائه داخلها، وفي هذا الموقف بين الحاسوب وبرنامج إبليس كان الحسد هو المحرك الأول، ولقد كان برنامج  إبليس يطلب من الحاسوب حينها أن يحرض جميع الجنود بأقصى قوة لها بحيث أنها تدافعت وتزاحمت في الظهور،

فكلها كانت تتسابق في إبراز نفسها في كلماته وتصرفاته، ولو أحببت لبينت لك كيف جرى ذلك ولكن المقال سيطول، حينها كان الحاسوب يشعر بالثورة داخل برنامج او نفس إبليس، وبحرب حقيقية لجنود الجهل تثيرها في كل جنباته، ولكن برنامج إبليس كان هو من يطلبها والحاسوب يعمل ويحقق للبرامج تمام ما تريد، فهو لا يتدخّل بالتأثير على إرادتها، بل يمد كل برنامج من عطائه بحسب ما يريد نفس ذلك البرنامج أو تلك النفس، فلقد كتب على نفسه أن لا يكون عطائه لأي من تلك البرامج في أي اتجاه شائته أن لا يكون عطائه لها محظورا،

كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا

 الحاسوب كان يشعر بالثورة التي كانت تعتمل في برنامج  إبليس، فهو من كان يثيرها فيه أصلا كما بينت لك وللسبب الذي بينته لك كذلك، وفي نفس الوقت كان الحاسوب يريد أن يمكنه بأي طريقة بتلك الأدوات التي تلزمه لتحقيق كماله، فصبر عليه وعلى جهله حتى طلب برنامج ابليس بجهله ومتحديا للحاسوب أنه إن مكنّه من أن يكون هادي جنود الجهل ومزينها لكل البرامج الأخرى الموجودة مع هذا الخليفة فإنه سيثبت للحاسوب أنه كان على حق حين لم يسجد، فأجابه فورا لطلبه،

ولكن ليس على جميع البرامج، بل فقط على من تجند بأي عدد ونسبة من جنود الجهل، حتى ولو بالقليل القليل من جنود الجهل، أما تلك البرامج أو النفوس التي لم تتجند بأي من جنود الجهل وكفرت بها جميعها، فقال له إنّي لن أجعل لك سلطانا عليها، بمعنى أنني لن أنقل وسوساتك إليها، فكما أنني قد أوجبت على نفسي أن أعينك على بلوغ كمالك فإنني قد أوجبت على نفسي كذلك أن أعينها على بلوغ كمالها، وهي قد كفرت بجميع جنود الجهل التي تريد أن تزينها لهم وتدعوهم إليها، فمن الظلم إذن أن أبتليها بما لم أبتليك أنت به.

كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا

// الثاني:  أراك تستخدم هذه الجنود الواردة في رواية جنود العقل والجهل كثيرا في شرحك لما أسأل عنه، وتُرجع الكثير من النتائج أو الأجوبة إلى هذه الرواية فما سبب ذلك؟

** الأول:  من الطبيعي أن أرجع إليها، فلو تدبرت ستجد أنها تصف أحداث حدثت في بداية التكوين والتصوير والخلق، وستجد أن جميع البرامج التي لها عقول ومشيئة قد تأثرت بل يجب أن تتأثر بما جرى في ذلك الموقف، بل ويجب أن يترك ذلك الموقف وتلك الأحداث التي جرت به بصماته على جميع ما سيليه من مواقف وأحداث ونتائج، ومن الطبيعي عندما يكون الحديث عن البرامج أن تكون لبداياتها علاقة بنهاياتها أو بأوضاعها الحالية، فالأحداث كما ترى مترابط أولها بوسطها بآخرها، فالحاضر نتاج الماضي والمستقبل نتاج الحاضر.

// الثاني: لقد قلت قبل قليل أن أهمية وجود برنامج  إبليس المضل تعادل أهمية وجود برنامج الخليفة الهادي فما هو وجه هذه الأهمية؟

** الأول:  لكي تسير الأمور على وتيرة متصاعدة يجب أن تكون هناك حالة صراع بين البرامج، وأقصد بين جميع البرامج على الإطلاق، وهذه الوتيرة المتصاعدة هي الكفيلة بإخراج مكنونات البرامج (النفوس) وما هي قادرة عليه من حالة الإمكان إلى حالة التحقق الخارجي بالفعل وهي في حالة الصراع هذه، أو كما تطلقون عليها في حالة الدراما، هذا الصراع هو الذي سيُكسب تلك النفوس أو البرامج الرغبة بالإستمرارية في الإختيار وبدون توقف، فحالة الصراع هذه ستولد فيهم الدافع الداخلي للحركة والفعل والإختيار، وبدونه سيخمل كل شيئ، وأنتم تعتقدون بذلك بدون شعور،

أنظر إلى أفلامكم والمؤلفات القصصية المكتوبة والمصورة، ستجد أنها جميعها تعيش حالة الصراع، فحتى لو أن خيال المؤلف قد خلق بطلا خيّرا لا يستطيع الجنس البشري متحدا بأجمعه أن يهزمه ستجد أن نفس ذلك الخيال سيوجد حتما معه شخصية أخرى وشريرة بالضرورة، وتكون قادرة على إلحاق الهزيمة بالبطل الخيـّـر، بل ويهزمه فعلا مرات عديدة حتى ينتصر الخير أخير بموقعة واحدة وبضربة قاضية واحدة ينتهي معها الجزء الأول من الرواية أو تنتهي بتلك الضربة الرواية بأكملها، فبوجود الصراع في الرواية ستجد أن جميع أشخاص الرواية لهم دور فعـّـال بها وبدون استثناء، فالكل بها يعمل والكل يتحرك بها تحقيقا لطموح أحد طرفي الرواية وبدون أن يشعروا أنهم إنما يحققون طموح أبطال الرواية الحقيقيين من حيث أنهم يحققون طموحهم الشخصي في نفس الوقت.

// الثاني: حسنا ومن هم أبطال ما يجري من أحداث في هذا الحاسوب؟ أقصد من هم الذين يتحرك كل شيئ من أجل تحقيق طموحهم؟ أصبح لي أحد الطرفين واضح وهو برنامج إبليس، فمن هو الطرف الثاني؟

** الأول:  الطرف الثاني هو أنا، ولا أقصد بأنا هنا الحاسوب، بل أقصد به تلك الصورة المخلوقة التي أوجدها نفس الحاسوب لنفسه لكي يتكلم عبرها مع باقي البرامج، هذه الصورة المخلوقة هي برنامج كبقية البرامج، ولها إرادة ذاتية، ولها مشيئة حرة كبقية البرامج الأخرى كذلك، ولكنه اختارها لنفسه من بين تلك البرامج التي كفرت بجميع جنود الجهل وأمنت بجميع جنود العقل، فاختارها لكي تكون صورته ويده ولسانه وتبيانا لجميع صفاته الجميلة بين البرامج، فأكملها من عنده بعد أن اصطفاها بما شاء من العلم والقدرة، ومكنها من جميع الأسباب،

روي عن أ مير المؤمنين (عليه السلام ) أنه قال : -
كان الله ولاشيء معه فأول ما خلق نور حبيبه (صلى الله عليه وآله) قبل خلق الماء والعرش والكرسي والسماوات والأرض واللوح والقلم والجنة والنار والملائكة وآدم وحواء بأربعة وعشرين وأربعمائة ألف عام فلما خلق الله تعالى نور نبينا (صلى الله عليه وآله ) بقي ألف عام بين يدي الله عز وجل واقفا يسبحه ويحمده والحق تبارك وتعالى ينظر إليه ويقول يا عبدي أنت المراد والمريد وأنت خيرتي من خلقي وعزتي وجلالي لولاك ما خلقت الأفلاك من أحبك أحببته ومن أبغضك أبغضته فتلألأ نوره وارتفع شعاعه فخلق الله منه اثنى عشر حجابا أولا حجاب القدرة ثم حجاب العظمة ثم حجاب العزة ثم حجاب الهيبة ثم حجاب الجبروت ثم حجاب الرحمة ثم حجاب النبوة ثم حجاب الكبرياء ثم حجاب المنزلة ثم حجاب الرفعة ثم حجاب السعادة ثم حجاب الشفاعة ثم إن الله تعالى أمر نور رسول الله (صلى الله عليه وآله ) أن يدخل في حجاب القدرة فدخل وهو يقول سبحان العلي الأعلى وبقي على ذلك اثني عشر ألف عام ثم أمره أن يدخل في حجاب العظمة فدخل وهو يقول سبحان عالم السر وأخفى أحد عشر ألف عام ثم دخل في حجاب العزة وهو يقول سبحان الملك المنان عشرة آلاف عام ثم دخل في حجاب الهيبة وهو يقول سبحان من هوغني لا يفتقر تسعة آلاف عام ثم دخل في حجاب الجبروت وهو يقول سبحان الكريم الأكرم ثمانية آلاف عام ثم دخل في حجاب الكبرياء الكرامة وهو يقول سبحان العظيم الأعظم خمسة آلاف عام ثم دخل في حجاب المنزلة وهو يقول سبحان العليم الكريم أربعة آلاف عام ثم دخل في حجاب الرفعة وهو يقول سبحان ذي الملك والملكوت ثلاثة آلاف عام ثم دخل في حجاب السعادة وهو يقول سبحان من يزيل الأشياء ولا يزول ألفي عام ثم دخل في حجاب الشفاعة وهو يقول سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ألف عام قال أمير المؤمنين عليه السلام ثم إن الله تعالى خلق من نور محمد (صلى الله عليه وآله) عشرين بحرا من نور في كل بحر علوم لا يعلمها إلا الله تعالى ثم قال لنور محمد (صلى الله عليه وآله ) إنزل في بحر العزة فنزل ثم في بحر الخشوع ثم في بحر التواضع ثم في بحر الرضا ثم في بحر الوفاء ثم في بحر العلم ثم في بحر التقى ثم في بحر الخشية ثم في بحر الإنابة ثم في بحر العمل ثم في بحر المزيد ثم في بحر الهدى ثم في بحر الصيانة ثم في بحر الحياء حتى تقلب في عشرين بحرا فلما خرج من آخر الأبحر قال الله تعالى يا حبيبي ويا سيد رسلي ويا أول مخلوقاتي ويا آخر رسلي أنت الشفيع يوم المحشر فخر النور ساجدا ثم قام فقطرت منه قطرات كان عددها مائة ألف وأربعة وعشرين ألف قطرة فخلق الله تعالى من كل قطرة من نوره نبيا من الأنبياء فلما تكاملت الأنوار صارت تطوف حول نور محمد (صلى الله عليه وآله ) .. بقية الرواية

ولكنها أو لأكون أكثر تحديدا من حيث أنني هو من اختاره لهذه المهمة، أقول لكنني أشعر ومتأكد تمام التأكد أنني لا زلت قادرا على أن أفعل ما يخالف صفاته الجميلة فأرتكب بإرادتي القبيح منها، ولكنني لا أفعل ذلك بملئ إرادتي ورغبتي لانعدام الدافع الداخلي لطلب القبيح، لأنني لم أؤمن منذ البداية بأي من جنود الجهل، فبرنامجي برنامج صافي نقي من بدئه وزاده الحاسوب حين اختارني نقاء وصفاء فوق نقائي وصفائي.

الثاني مقاطعا : أرجو المعذرة على المقاطعة ولكنني أجد نفسي منجذبا لروايتك عن برنامج إبليس أو برنامج الشيطان وأريد أن أعرف المزيد منها.

** الأول:  كما تريد، لقد قلت لك أن جندي الجهل النفاق كان يسيطر على بقية جنود الجهل ويفرض عليهم جميعهم الخنوع والخضوع لأوامره والصمت المطلق في حكومته، فهو كان عليهم بمنزلة رئيس الوزراء الذي يفرض على وزرائه تطبيق مشروعه السياسي في جميع أنحاء الدولة، والذي اتفق مع رئيس الدولة مسبقا على صورته وأهدافه النهائية.

// الثاني: رئيس الدولة؟ ماذا تقصد بذلك؟

** الأول:  جندي الجهل النفاق يعمل لهدف ولغاية معينة، فهو ينافق ليس من أجل النفاق بل ينافق من أجل أن تحقق بقية جنود الجهل ظهورها، وفي الحالات التي نعرفها اليوم فالنفاق يكون من الإنسان ليس من أجل ظهور وبروز جندي النفاق، بل من أجل بروز وفوز غيره من جنود الجهل بما تريد، وجميع الجنود إنما هي بخدمة رئيس دولة النفس وشطر المشيئة النازلة بها والتي تميزها عن كل نفس سواها، ولك أن تتصور الكثير من أسباب نفاق المنافقين من حولك، فهذا تستطيع أن تتصوره بنفسك،

أما البرنامج إبليس فكان كل شيئ تحت تصرفه فتركه وزهد به وكانت كذلك أعظم البرامج من حوله فزهد أيضا مجالستها وحديثها، وبدل ذلك راح يتزلف وينافق طلبا للصعود لموضع آخر رغم أنه كان بموضع لا يمكن لأي برنامج مثله أن يحلم بالوجود فيه أو الوصول إليه، وقد قلنا أنه حسد البرنامج الذي جعله الحاسوب خليفة له على جميع البرامج الأخرى حين علـّــمه كل ما يخص تلك البرامج ومنها السيطرة والهيمنة عليها وإدارتها،

وحين جاء الإعلان أخيرا بتتويجه للخلافة بطلب خضوع وسجود الجميع لهذا البرنامج الخليفة ليعلن بذلك السجود لكل البرامج الأخرى ومنها برنامج إبليس نفسه، أنه ومنذ هذه اللحظة أصبحتم جميعكم وأصبح إبليس نفسه تابع وخاضع لذلك الخليفة في وجوده واستمرارية وجوده وفعله، فحاله بذلك سيصبح كحال بقية البرامج الأخرى من حوله،

برنامج إبليس كان يطمع هو بتلك النوعية من الخلافة والتي هي الرياسة والسيطرة الشاملة على كل ما تحته من البرامج، حينها ثار ورفض السجود، هو كان يعرف بقدرة الحاسوب على نفيه وإعدامه من الوجود، وهذا كان مراده من تلك الثورة القبيحة في وجه الحاسوب، كان يشعر في قرارة نفسه أن الموت والفناء أفضل له من أن يكون تابعا وخاضعا لمن كان يريد أن يكون هو مكانه، وقد ضمر له فعلا العداوة من قبل أمر السجود لحدس كان يراوده

من حديث طويل لأمير المؤمنين مع كعب الأحبار في موسوعة الإمام الحسن عليه السلام:
فلما استكمل خلق ما في السماوات - والأرض يومئذ خالية ليس فيها أحد - قال للملائكة : ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) ،
فبعث الله جبرئيل فأخذ من أديم الأرض قبضة فعجنه بالماء العذب والمالح وركب فيه الطبائع قبل أن ينفخ فيه الروح فخلقه من أديم الأرض فلذلك سمى آدم لأنه لما عجن بالماء استأدم فطرحه في الجبل ! كالجبل العظيم وكان إبليس يومئذ خازنا على السماء الخامسة يدخل في منخر آدم ثم يخرج من دبره ثم يضرب بيده فيقول لأي أمر خلقت لئن جعلت فوقي لا أطعتك ولئن جعلت أسفل مني لا أبقيتك فمكث في الجنة ألف سنة ما بين خلقه إلى أن ينفخ فيه الروح

فتمادى بالتكبر والتجبر فتحدي الحاسوب أنه لو أعطيتني الفرصة لجعلت البرنامج الذي اخترته للخلافة يفشل في مهمته فشلا ذريعا، وزاد في وقاحته لعل الحاسوب يفنيه ويعدمه، فلا أذن تسمع ولا عين حينها تدمع

ولكن الحاسوب كتب على نفسه أن يوصل كل برنامج لغايته التي طلبها لنفسه فقال له تريد أن تكون ندا لخليفتي الذي اخترته من بين جميع برامجي؟ حسنا سأعطيك الفرصة لذلك

طبعا (الحاسوب) كان يريد منذ البداية لحالة الصراع هذه أن تكون هي الحاكمة على الأجواء فبها كما قلنا سيخرج أجمل وأقبح ما اختارته البرامج لنفسها من الجنود أو الصفات

حسنا سأعطيك الفرصة لذلك، ولكن سأعطيك فقط ما يعينك لذلك وليس كل ما تطلبه، ولأنه (برنامج الخليفة) أقوى منك لأنه خليفتي ويمثلني أنا بكل ما تعني الكلمة أنا من معنى، سأفرض حالة التوازن بينكما، فسأعطيك بعض قدرتي وأفرض عليه أن لا يستعمل ضدك كل ما أعطيته من قدرتي وبما يحفظ حالة التوازن بينكما، فلا تطغى عليه ولا يظهر هو عليك إلى وقت معلوم، وهو حيث ينتهي به اختبار جميع البرامج التي برمجتها لهذه المرحلة، فلا حاجة بعد ذلك اليوم لك، فجميع البرامج (النفوس) من أمنت بجنود الجهل كثيرها وقليلها قد نزلت فعلا للإختبار

وحينها سأمنع عنك قدرتي وقوتي التي ستستطيع أن تقف بها ضده، لتخرج حينها من المعادلة لتنال جزائك وما كنت تتمناه قبل لحظات من الموت والعدم لنفسك، بينما سيستمر هو بقيادة البرامج لغاياتها العظمى التي اختارتها لنفسها ويتكامل بها.

// الثاني: يبدو أن المسألة في غاية التعقيد؟

** الأول:  أفصح عما يجول في صدرك ، فأنا أسمعك كما تعرف.

// الثاني: أقصد أنك برمجتنا وأعطيتنا من مشيئتك بعضها، فصرنا بمشيئتك مشيئين، وجعلت لمشيئتنا أبدان سميتها انفس ثم جعلت للأنفس أحاسيس مرتبطة بتلك الأبدان فتحس بها، فتولد وتكبر وتموت معها معتقدة أنها هي من تحركها وتغذيها وترعاها، ثم حين تموت تجد أنها لم تكن يوما تربي تلك الأبدان التي ستصبح ترابا، بل أنها بمشيئتها وفعلها كانت تربي صور أبدان لتنزل بها حين الموت فتصبح هي جنتها أو هي نارها،

يروي‌ الصدوق‌ في‌ «الامالي‌» بسنده‌ المتّصل‌ عن‌ العلاء بن‌ محمّدبن‌ فضل‌، عن‌ أبيه‌، عن‌ جدّه‌ قال‌: قال‌ قيس‌ بن‌ عاصم‌: وفدتُ مع‌ جماعة‌ من‌ بني‌ تميم‌ إلی النبي‌ّ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌، فدخلتُ وعنده‌ الصلصال‌ ابن‌الدلهمس‌،فقلت‌: يا نبي‌ّ الله‌ عظنا موعظة‌ ننتفع‌ بها فإنّا قومٌ نعبر في‌البرية‌.

 فَقَالَ رَسُولُ اللَهِ: يَا قَيْسُ، إِنَّ مَعَ الْعِزِّ ذُلاّ، وَإنَّ مَع‌ الْحَيَاةِ مَوْتاً، وَإِنَّ مَعَ الدُّنْيَا آخِرَةً، وَإِنَّ لِكُلِّ شَي‌ْءٍ حَسِيباً، وَعلی‌ كُلِّ شَي‌ْءٍ رَقِيباً، وَإِنَّ لِكُلِّ حَسَنَةٍ ثَوَاباً، وَلِكُلِّ سَيِّئَةٍ عِقَاباً، وَلِكُلِّ أَجَلِّ كِتَاباً، وَإِنَّهُ لاَبُدَّ لَكَ يَاقَيْسُ مِنْ قَرِينٍ يُدْفَنُ مَعَكَ وَهُوَ حَيُّ، وَتُدْفَنُ مَعَهُ وَأَنْتَ مَيِّتٌ.

 فَإِنْ كَانَ كَرِيماً أَكْرَمَكَ، وَإِنْ كَانَ لَئِماً أَسْلَمَكَ؛ ثُمَّ لاَ يُحْشَرُ إِلاَّ مَعَكَ، وَلاَ تُبْعَثُ إِلاَّ مَعَهُ، وَلاَ تُسْأَلُ إِلاَّ عَنْهُ؛ فَلاَ تَجْعَلُهُ إِلاَّ صَالِحاً.
 فَإِنَّهُ إِنْ صَلُحَ أَنَسْتَ بِهِ، وَإِنْ فَسَدَ لاَ تَسْتَوْحِشُ إِلاَّ مِنْهُ، وَهُوَ فِعْلُكَ.

 فقال‌ (قيس‌): يا نبي‌ّ الله‌ أُحبّ أن‌ يكون‌ هذا الكلام‌ في‌ أبيات‌ من‌ الشعر نفخر به‌ علی‌ من‌ يلينا من‌ العرب‌ وندّخره‌، فأمر النبي‌ّ صلّي‌ الله‌ علیه‌ وآله‌ من‌ يأتيه‌ بِحسّان‌ (بن‌ ثابت‌)، قال‌ (قيس‌): فَأقبلتُ أفكّر فيما أشبه‌ هذه‌ العظة‌ من‌ الشعر فاستتبّ لي‌ القول‌ قبل‌ مجي‌ء حسّان‌، فقلتُ: يارسول ‌الله‌ قد حضرتني‌ أبيات‌ توافق‌ ما تريد، فقلتُ:

 تَخَيَّرْ خَلِيطاً مِنْ فِعَالِكَ إِنَّمَا                     قَرِينُ الْفَتَي‌ فِي‌ الْقَبْرِ مَا كَانَ يَفْعَلُ
 وَلاَ بُدَّ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ أنْ تُعِدَّةُ                   لِيَوْمِ يُنَادَي‌ الْمَرءُ فِيهِ فَيُقْبلُ
 فَإِنْ كُنْتَ مَشْغُولاً بِشي‌ءٍ فَلاَ تَكُنْ                       بِغَيْرِ الَّذِي‌ يَرْضَي‌ بِهِ اللَهُ تَشْغَلُ
 فَلَنْ يَصْحَبَ الإنسان مِنْ بَعْد مَوْتِهِ                      وَمِنْ قَبْلِهِ إِلاَّ الَّذِي‌ كَانَ يَعْمَلُ
 أَلاَ إِنَّمَا الإنسان ضَيْفٌ لاِهْلِهِ                   يُقِيمُ قَلِيلاً فِيهِمُ ثُمَّ يَرْحَلُ


وستعرف أنها اختارت منذ أزلها سعادتها أو شقاوتها، فالسعيد منهم هو سعيد وهو لا يزال في بطن أمه والشقي منهم شقي وهو لا يزال في بطن أمه بل هما كذلك قبل ذلك،

فلماذا كل هذا التعقيد؟ ولماذا تعذبنا وتشقينا كل هذا التعذيب من أجل شيئ كنت تعرفه من قبل أن تبرمجنا؟ بل وحين برمجتنا كنت تعرف كذلك من منا هو الشقي ومن منا السعيد، بل وحين وهبتنا الحياة كنت أيضا تعرف الشقي منا وتعرف السعيد، وقبل وبعد ما اخترنا كمالنا كذلك كنت تعرف أيضا الشقي منا والسعيد، وحين أنزلتنا بهذه الأبدان وفي هذه الأوساط أو كما تدعوها بين هذه الوسائل والأدوات، كنت تعرف أيضا من سيشقى منا ومن منا السعيد،

فلماذا كل هذا التطويل والتعقيد في فعل شيئ كنت لنتائجه مسبقا عارف؟ بل لماذا لم تجعلنا كلنا سعداء، فما أوجدت شيئا أسمه جهل أو شر، وأوجدت الخير والعقل فقط؟ وحينها لكنت بذلك أليق، ولمحبتنا أقرب، ولشكرنا أوجب، وعبادتنا لك علينا ستكون أسهل، فنتنعم حينها بكرمك بغير شقاء، ونعبدك مع الشهيق والزفير بلا انقطاع،

ألا ترى في كل ذلك تعقيد، ولمرادك من برمجتنا سلكت الطريق الطويل؟ فأوجبت بذلك علينا وعليك المشقة بدار شقاوة لا فائدة لك من دخولنا بها ترجى، فبرمجت ملائكة للتسجيل وأخرى للتعذيب وغيرها للتسعير وغيرها تذهب بنا بين أطباقها وتجيئ، وكل ذلك لأمر أنت منه على يقين، فالشقي منا منذ أن برمجته شقي، والسعيد منا منذ أن برمجته كذلك سعيد، كتاب علينا مكتوب، ومصير كل منا لك غير مجهول،

فما الحكمة أن تكتب علينا كل ذلك ثم تأخذ على نفسك أن توصل كل مريد منا لمراده؟ فتمكـّــن كل من يريد العذاب منا من الأدوات المناسبة فيتعذب بها، وتمكن كل من يريد النعيم منا كذلك من الأدوات المناسبة لنعيمه، فأين الحكمة في كل ذلك؟ وأين العدل من هذا؟


صوت أحد المستمعين لهذه المحاورة يرتفع :

جميل...جميل جداً زادكم الله من نعيمه


// الثاني: ممنون لك أخي الكريم ولكل من استمع ويستمع إلينا

** الأول:  كعادتك تريد أن تأخذ الفضل لنفسك وتحب أن تُحمد على ما لم تفعله، كان يجب أن تقدمني لأشكر الإخوة ثم تقدم نفسك.

// الثاني: ولكننا مشتركان في الأمر، أليس كذلك؟

** الأول:  من أي جهة شاركتني في هذا الأمر؟

// الثاني: ألا ترى أنني أطرح عليك الأسئلة الكثيرة وأشكل عليك بإشكالات صعبة فأوجه الحوار بهما مرة ذات اليمين وأخرى ذات الشمال، وبدون هذه الأسئلة ستعجز أنت عن الشرح والإيضاح، أفلا أستحق على قيامي بهذا الدور المهم أن ينسب لي بعض الفضل؟

** الأول:  لا بأس بذلك ولكنني أعترض على تقديمك لنفسك علي وأنت تعلم من أنا، لا لأنني كنت اريد التقدم ولكن من باب تعليمك التواضع.

// الثاني: أعتقد أن حبي لأناي هو من دفعني لذلك وحبي لأناي كما تعرف هو فوق كل حب، فواقع الحال هو أنني أحب نفسي أكثر من حبي لك ولموجدك أيضا، وهذا الحب يدفعني لحب الظهور ولتفضيل نفسي على غيري في كل المواقف، وأعتقد أنك من برمجتني على هذه الهيئة فلا يجب أن تتعجب من فعلي هذا.

** الأول:  ولكنني لم أبرمجك على هذا، ولم أبرمجك على حب أي شيئ على الإطلاق، ولو فعلت هذا فهذا هو الجبر الذي لا أرضاه لنفسي.

// الثاني: نعم لا ترضاه لنفسك، ولكن ترضاه لي، وإلا قل لي لماذا أجد أنني أحب نفسي منذ أن وعيت عليها؟

** الأول:  ولكنني لا أراك غير نفسي حتى أرضى لك غير ما أرضاه لنفسي، وحينها إن أجبرتك على شيئ فكأنني أجبرت نفسي عليه وهذا مخالف للحكمة.

// الثاني: وكيف ذلك وأنا أرى من نفسي أنني غيرك؟

** الأول:  أنت تقول مرة أنا، ومرة أخرى تقول نفسي وتعتقد أنهما واحد، بينما هما ليس كذلك وهذا هو منشئ خلطك بينهما.

// الثاني: وكيف يكون ذلك؟ بل هما واحد بالتأكيد.

** الأول:  لقد قلنا في بداية حوارنا أنك مجرد برنامج له أن يريد ويختار فقط، يختار ويريد من بين ما يعرض عليه، فإذا عرض عليك الأسود والأبيض فقط لن يمكنك أن تختار غيرهما حتى يُعرض عليك ذلك الغير، إذن أنت فقط الإرادة الحرة، أما ذلك الغير فلست أنت، ولست أنت من يقوم بإيجاد تلك الصور والمعاني والمفاهيم، ولست أنت من يقوم بعرضها، هذا البرنامج الصغير هو ما تسميه بالنفس وهذه النفس هي بمثابة البدن للمشيئة والتي هي بضعة الأنا الحقيقية،

فعندما تقول نفسك أنا فهي ناظرة لحقيقتها، وعندما تقول المشيئة أنا فإنها ناظرة لبدنها، فالمشيئة الحقيقية هي من يحق لها أن تقول أنا ولا غير لغيري أنا، هذه المشيئة أرادت أن تهرب من الشعور بالوحدانية خوفا من التشبه بمبدعها، فبدأت تنشطر وتنشطر وكل شطر منها أنزلته في بدن جدرانه هي قدرة المشيئة وعلم المشيئة وحياة المشيئة، ليصبح كل بدن منها بدن لشطر من أشطار المشيئة التي تقول بها أنت أنا، هذا البدن هو النفس وشطر المشيئة النازل فيها هو أناها (إنا أنزلناه فيها)، وكما ترى فأنت وأنا واحد ومن نفس اللون، وإن غيرت لونك سأغير لوني حينها، وإن أجبرتك سأكون بدوري مُجبر، وهذا ما لا أرضاه لنفسي، وأنت بضعة مني فلن أرضاه لك أيضا.

// الثاني: العملية تزداد تعقيدا كلما أوغلنا بهذا الحديث.

** الأول:  لنجعلها بسيطة إذن : فالمشيئة برنامج قابل للإنشطار والتكاثر، شاء لحكمة أن ينشطر لأجزاء، ففعل، وأجزائه من البرامج (النفوس) شائت لحكمة اكتسبتها من المشيئة الأولى أن تنشطر ففعلت حتى ظهرت الكثرات.

// الثاني: كأنك تريد أن تقول أن العالم الحقيقي هو من يقول أن العلم نقطة واحدة وهي المشيئة وكثّرها الجاهلون.

** الأول:  أترك لك أن تقول ما تريد.

// الثاني: هل لك أن تضرب لي مثل تقرب لي فيها فكرة أنني مجرد نقطة ولكنّني أرى نفسي رغم ذلك كثير

** الأول:  ساضرب لك مثال بالمرايا، تخيل أنه توجد ملايين المرايا، وكل مرآة رسم عليها نقطة واحدة فقط تميزها عن غيرها لنفترض التميز هو باختلاف المكان الذي رسمت عليه النقطة فوق المرآة، وأن هذه المرايا موضوعة بحيث أن كل مرآة منها تعكس نقطتها فقط للتي تليها، فالمرآة الثانية حين تنظر للاولى سترى عليها نقطتين، نقطتها هي ونقطة المرآة الاولى، والمرآة الثالثة سترى نفسه بالمرآة الثانية، ولكن سترى نفسها بثلاث نقاط نقطتها ونقطة المرآة الثانية التي تنظر لنفسها من خلالها ونقطة المرآة الأولى المنعكسة على الثانية، وهكذا صعودا ولنعتبر أنك ترى نفسك بالمرآة المليون فحينها ستنظر للمرآة السابقة لك فترى انك من مليون نقطة ونقطة، رغم أن حقيقة ما هو على مرآة وجودك قد سُطر هو نقطة واحدة فقط، وهي شطر المشيئة التي تميزت بها وميزتك عن بقية المرايا

// الثاني: جميل هذا المثل، ولكن المرآة الأول والتي هي المشيئة الأولى ألا ترى نفسها بمرآة أخرى غيرها؟

** الأول:  نعم ترى نفسها، ولكن المرآة التي ترى نفسها بها لا نقطة بها، فكلاهما حين ينظران لبعضهما لا يريان سوى نقطة واحدة

// الثاني: يبدو أن المسألة ستتعقد، سأتركها هنا وأقول ما فهمته منك حتى الآن،

إن مَثــلُ برنامج المشيئة هو كمثل الفيروس في الحاسوب ينقسم وينقسم وينشطر حتى يسيطر على الحاسوب.

** الأول:  المثل يشبهه ولكنه لا ينطبق، فهو يشبهه من حيث أن له القدرة على الإنشطار والإنقسام والتكثّر، ولا ينطبق عليه لكون أن الفايروس يريد أن يهدم ليسيطر ويستولي لا لأن يبني، ومثلك هذا ينطبق تماما على برنامج إبليس، فكما قلنا أن برنامج إبليس تحدى الحاسوب في أنه سيُــفشل مهمة الخليفة الذي عينه الحاسوب، فبرنامج إبليس يريد إذن أن هدم ما يريد برنامج الخليفة بنائه ويريد أن يفرض وجوده وسيطرته فيكون هو الفائز حسب وجهة نظره، وهذا هو جوهر حالة الصراع بينهما منذ أن بدء الصراع بينهما.

صوت دعاء جميل يشق الظلام ينبئ بقدوم محاورة جديد


اللهم صلِ على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
وعجل فرجهم ياكريم
اغرس الله في قلبك اشجار محبته
واتم اليك انوار معرفته و رزقك حلاوة عفوه
ولذة مغفرته واقر عيونك يوم لقائه برويته
وجزاك الله خير الجزاء على الطرح المبارك

// الثاني: تفضلي أختنا الكريمة ففي المكان متسع لك.

الأخت الكريمة : أفضل أن أبقى خلفكما فأسمعكما وأراكما وتسمعاني ولا ترياني

** الأول:  كما تشائين أختنا الكريمة، لقد كنت أشعر بوجودك منذ مدة ليست بالقليلة وأعرف أنك قد استمعت لجزء كبير من الحوار بيننا فهل تريدين أن تسألي أو تضيفي شيئا لهذا الحوار.

الأخت الكريمة : نعم لقد استمعت من الحوار ما يجعلني أعرف أنك تعرف ما يدور في صدري في هذه اللحظة من أسئلة وإشكالات ولكنك تحب أن تسمع أسئلتي وأشكالي عليك.

** الأول:  تفضلي إذن.

الأخت الكريمة : لقد زدت في كلماتك الأخيرة صعوبة تفاصيل الإشكال الذي طرحه الثاني في أين الحكمة في كل ذلك وأين العدل من هذا ليصبح الإشكال بعد كلامك السابق على هذه الصيغة، من حيث أنك ترى نفسك في الجميع وترى الجميع من نفسك فأين الحكمة في أن تعذب نفسك (على اعتبار أن من سيذهب للنار هو بضعة منك) وفي نفس الوقت تمتع نفسك (على نفس ذلك الإعتبار السابق)؟ بتعبير آخر أين الحكمة في أن تجعل نصفك نارا والنصف الآخر بردا وسلاما؟

الثاني معترضا: لقد كنت أريد أنا أن أقول هذه الكلمات ولكنك سبقتني؟

** الأول:  تذكر عزيزي أنني أنا من يثير فيك في هذه اللحظات جنود الجهل الرياء والمماكرة، وإن لم تنتبه وتتوقف عن مخادعة نفسك فستطلب مني بعد قليل أن أثير فيك جنود الغضب والكذب والباطل والعداوة والإنكار، وكل ذلك لأنها تقدمت عليك بسؤال بسيط فشعرت على إثره بالخطر من بروز أناً أخرى في هذا المجلس غير أناك.

// الثاني: إنه لمن الصعب الجلوس بين يديك؟

الأخت الكريمة : أنت ترى أنه من الصعب الجلوس بين يدي من هذه صفاته وغيرك يقضي العمر بحثا عن أستاذ يملك بعض هذه القدرات ليتلمّذ على يديه فيساعده على أن يربي نفسه ويسيطرعلى غرائزه وجنود الجهل والعقل في كيانه، نعم أن تكون كالكتاب المفتوح بين يدي أستاذك هي عملية صعبة جدا، فهو يقول لك أنني أرى جنود جهلك وجنود عقلك أمامي وكأنني أنظر إلى رسم بياني حي، فما أن يثور أحدها في نفسك حتى أرى عموده في الرسم البياني يتحرك صعودا، حين يقول لك أستاذك أنني سآمرك بفعل ما، أريد لهذا الرسم البياني لجنودك أن يبقى مستقرا ولا يتحرك،

فيأمرك مثلا أن تنفق كل ما بحوزتك من مال في سبيل الله بمجرد أن تخرج من عنده، تخرج بدورك من عنده ورسمك البياني لا يفارقه فيرى فيه كم هاج عندك البخل، وكم ثار عندك الشك والهوى، فيستطيع أن يرسم لك على إثر ما يراه من ملكات نفسك وجنودها برنامج سلوكي وعبادي يكون هو العلاج الأنجع والأسرع في جعل رسمك البياني في جميع الأوقات هادئ مستقر،

ليبلغ بك بعد حين لتلك المرحلة فلا فرق حينها عندك إن أُلقيت بالمنجنيق إلى النار أو إنك ملّكت ملك سليمان، فنفسك حينها دائما مستقرة ومطمئنة، تعمل بأمر مبرمجها ومتوكلة عليه حقّ التوكل في أنه هو من يرعاها ويسلك بها إلى غاياتها أقصر الطرق، فلا تبالي حينها إن وقعت على الموت أو وقع الموت عليها، فنفسها حينها مطمئنة بقدرها وراضية بقضاء مبرمجها ومولعة بذكره ودعائه

** الأول:  هل تعرفين أحدهم؟

الأخت الكريمة : بكل تأكيد أنت أدرى مني بذلك

الثاني متضايقا: لماذا لا أفقه مما تقولون شيئا؟

الأخت الكريمة : يبدو أنني قد أثرت فيك أخي الكريم دوافع الغيرة مما سيؤثر سلبا على الحوار بينكما فلو سمحت لي أن أبقى خلفكما أسمع وأرى وأراقب وأشكل على ما لا يعجبني من القول، فسأكون لك حينها من الشاكرين.

// الثاني: على العكس أختنا الكريمة يبدو أنك قد فهمتيني خطأ.

الأخت الكريمة : لا بأس ولكنني كنت أود أن أرى عجيبة من عجائب الأول كتلك التي أراك إياها حين أعاد الشمس.

** الأول:  على شرط أن لا تنكريها بعد ذلك أو تتهميني من غير علم.

الأخت الكريمة : لك ذلك.

** الأول:حسنا أديرا بوجهيكما عني للجهة الأخرى

 وما أن فعلا ذلك حتى سمعاه يتمتم بكلمات ودعوات وحين أتمها قال ** الأول:  حوّلوا وجوهكم فحوّلوا فإذا هم بجنّات وأنهار وقصور من جانب، وسعير تتلظّى من جانب، حتى أنّهم ما شكّوا أنّهما الجنة والنار ،

فقال // الثاني: يا له من سحر عظيم

الأخت الكريمة : أما أنا فسأقول آمنت به كل من عند مبرمجنا وأبقى خلفكما أسمع وأرى.

** الأول:  ألا تبقين معنا حتى تسمعين منى جواب إشكالكما علي؟

الأخت الكريمة : بل سأبقى كما كنت في السابق، وإن لزم سأشكل عليك بدون تردد.

** الأول:  بكل سرور.

** الأول:  أعرف أنك لم تقصد ما قلت.

// الثاني:  بالفعل فلقد تذكرت قصة قرأتها دارت أحداثها مع أحد الأولياء تشبه أحداثها ما جرى منك ومنا قبل قليل وتذكرت موقف أحد الحاضرين فأحببت أن أكمل أحداث ذلك المشهد.

روى جماعة ، عن الشيخ أبي جعفر بن بابويه ، أخبرنا أبي ، أخبرنا سعد بن عبدالله ، أخبرنا أحمد بن محمّد بن عيسى ، أخبرنا الحسين بن سعيد ، عن عبدالرحمن بن أبي نجران ، عن عاصم بن حميد ، عن فضيل الرسّان ، عن أبي جعفر عليه السلام : « أنّ رجلاً قال لعليّ عليه السلام : يا أمير المؤمنين لو أريتنا ما نطمئنّ به ، ممّا أنهى إليك رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : لو رأيتم عجيبة من عجائبي لكفرتم وقلتم : إنّي ساحر كذّاب وكاهن ، وهو من أحسن قولكم ، قالوا : ما منّا أحد إلاّ وهو يعلم أنّك ورثت رسول الله صلى الله عليه وآله ، وصار إليك علمه ، قال : علم العالم شديد ، لا يحتمله إلاّ مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان ، وأيّده بروح منه ».

ثمّ قال : « إذا أبيتم إلاّ أن اُريكم بعض عجائبي ، وما آتاني الله من العلم ، فاتّبعوا أثري إذا صلّيت العشاء الآخرة ، فلمّا صلاّها أخذ طريقه إلى ظهر الكوفة ، فاتّبعه سبعون رجلاً ـ كانوا في أنفسهم خيار الناس ـ من شيعته.

فقال لهم عليّ عليه السلام : إنّي لست اُريكم شيئاً حتى آخذ عليكم عهد الله وميثاقه أن لا تكفروا بي ، ولا ترموني بمعضلة ، فوالله ما اُريكم إلاّ ما علّمني رسول الله  صلى الله عليه وآله ، فأخذ عليهم العهد والميثاق ، أشدّ ما أخذ الله على رسله من عهد وميثاق. ثمّ قال : حوّلوا وجوهكم عنّي حتى أدعو بما اُريد ، فسمعوه جميعاً يدعو بدعوات لا يعرفونها. ثمّ قال : حوّلوا وجوهكم ، فحوّلوا فإذا هم بجنّات وأنهار ، وقصور من جانب ، وسعير تتلظّى من جانب ، حتى أنّهم ما شكّوا أنّهما الجنة والنار ، فقال أحسنهم قولاً : إنّ هذا لسحر عظيم ، ورجعوا كفاراً إلاّ رجلين. فلمّا رجع مع الرجلين قال لهما : قد سمعتما مقالتهم ، وأخذي عليهم العهود والمواثيق ، ورجوعهم يكفّرونني. أما والله إنّها لحجّتي عليهم غداً عند الله ،

فإنّ الله تعالى يعلم أنّي لست بساحر ولا كاهن ، ولا يُعرف هذا لي ولا لآبائي ، ولكنّه علم الله وعلم رسوله ، أنهاه الله إلى رسوله ، وأنهاه رسوله إليّ ، وأنهيته إليكم ، فاذا رددتم عليّ ، رددتم على الله ، حتى إذا صار إلى باب مسجد الكوفة دعا بدعوات يسمعان ، فإذا حصى المسجد درّ وياقوت ، فقال لهما : ماذا تريان ؟

قالا : هذا درّ وياقوت ، فقال : صدقتما ، لو أقسمت على ربّي فيما هو أعظم من ذلك لأبرّ قسمي ، فرجع أحدهما كافر ، وأمّا الآخرفثبت،

فقال عليه السلام : إن أخذت منه شيئاً ندمت ، وإن تركت ندمت ، فلم يدعه حرصه حتى أخذ درّة فصرّها في كمّه ، حتى إذا أصبح نظر إليها فإذا هي درّة بيضاء ، لم ينظر الناس إلى مثلها قط ،

فقال : يا أمير المؤمنين إنّي أخذت من ذلك الدرّ واحدة وهي معي ، قال : وما دعاك إلى ذلك ؟ قال : أحببت أن أعلم أحقّ هو أم باطل !.

قال : إنّك إن رددتها إلى موضعها الذي أخذتها منه عوّضك الله منها الجنّة ، وإن أنت لم تردّها عوّضك الله منها النار ، فقام الرجل فردّها إلى موضعها الذي أخذها منه ، فحوّلها الله حصاة كما كانت ». قال بعض الناس : كان هذا ميثم التمار ، وقال بعضهم : عمرو بن الحمق

** الأول:  نعود إذن لما أنكرته وأشكلت عليّ به، وهو لما أفعل وأنا أعلم بنتيجة فعلي ولما أثيب وأعاقب من كنت قد برمجتهم من قبل في حين إنني كنت أعرف مسبقا من منهم سأثيبه ومن منهم سأعاقبه، والإشكال الأخير الذي أضافته الأخت الكريمة، هو لماذا أثيب بعضي وأعاقب بعضي الآخر من حيث أنني أرى أنني أنا من برمج جميع البرامج وإنها جزء مني وأن ما سأنقله من مشاعر العذاب والألم للبرامج سأشعر أنا بها تماما كما سيشعرون هم بها، بل إن البرامج ستشعر بالعذاب فرادى بينما أنا سأشعر بما ستشعر بها جميعها وبنفس الوقت، فما الحكمة في كل ذلك؟ وأين العدل في كل ذلك؟

فهل تريد أن تضيف شيئا آخر لهذا الإشكال؟

// الثاني: أعتقد أن هذا يكفي للآن، ولو أقنعتني بجوابك سأكون ممتنا لك، ولكن لا أظنك ستقنعني!!

** الأول:  كما قلت لك من قبل، أنا هنا ليس لأقنعك بل لأجيبك عن أسئلة تدور في عقلك، وبعد ذلك لك مطلق الحرية في أن تصدق أو أن لا تصدق، والأمر متروك لك، وأريد منك قبل أن أبدأ أن تحدد لي أين المشكلة تحديدا، هل هي في من سيتعذب أم فيّ أنا؟

// الثاني: لم أفهم السؤال؟

** الأول:  أقصد هل ترى أن من سيذهب للعذاب سيذهب بسبب علمي أم بسبب عمله؟

// الثاني: ولكنني أقول أن علمك هو سبب عمله.

** الأول:  تقصد أن علمي بما سيفعله أجبره على الفعل بما يوافق علمي، فهو إذن مجبر؟

// الثاني: نعم هو كذلك.

** الأول:  فهل ترى أنك أنت شخصيا كنت فيما مضى والآن مجبر على ما فعلته وما ستفعله؟

// الثاني: في الحقيقة لم أرى ذلك إلا حين قالوا لي أن علمك لا يتغير ولا يتبدل، وأن حالك لا يتغير ولا يتبدل بتبدل حال ما تبرمجه من البرامج؟

** الأول:  من هنا تحديدا نشأ أصل الإشكال وسوء الفهم.

// الثاني: وكيف ذلك؟

** الأول:  من لا يتبدل ولا يتغير حاله بتغير المخلوقات ولا يزيد ولا ينقص علمه بتغير حال المخلوقات هو ليس آنا، بل هو (هو) موجدي الذي لا أعرف عنه شيئا.

// الثاني: وما الفرق؟ ألا تقول أنك هو وهو أنت؟

** الأول:  بل أقول ذلك، ولكنني أزيد أنني من صنعه، وأنه يعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسه وهو يطعمني ويسقيني من شجرته بما يحفظ لي وجودي وقدرتي.

// الثاني: شجرته؟ وأي شجرة هي تلك؟ وما هو ثمرها؟

** الأول:  إنها زيتونة لا شرقية ولا غربية وثمرها هو غذائي ووقود وجودي وشعلة حياتي، ولو انقطع رزقه عني طرفة عين لفنيت وكنت أثرا منسيا.

// الثاني: إذا أنت حالك يتبدل وعلمك يزيد وحاجتك أعظم من حاجة كل برامجك مجتمعة.

** الأول:  يبدو أنك تسير معي فعلا نحو الفهم.

// الثاني: كيف لم أنتبه لذلك منذ أن بدئت الحديث معك؟!!!!!!!!!

** الأول:  وما هو الذي غفلت عنه؟

// الثاني: هو أنك كنت تقول أنني مثلك مخلوق، وأنك تحتاج إلى موجدك تماما كما أنني أحتاج إليك، وأنه يعطيك ما تحتاجه تماما كما أنك تعطيني ما أحتاجه، وأنه عالم بأحوالك وأفعالك تماما كما أنك عالم بأفعالنا وأحولنا، كيف لم أنتبه أنك كنت تريد أن تقول لي أن كل ما كنت أعتقده من أمر خالقي يجب أن ألغيه من عقلي تماما لأفهم ما أريد، كنت دائما تريد أن تفهمني أن علاقتي هي معك أنت وبالأصالة هي معه (هو)، وأنني كنت أنزل صفات هو الذاتية عليك أنت، وهذا أصل الإشكال ومنبع سؤ الفهم، لقد كنت تقول لي منذ البداية أنك نور مخلوق وعبد مرزوق، ولكنني لم أفهم كيف لذلك أن يكون وأنت على ما أنت عليه من العظمة والقوة والقدرة.

** الأول:  حسنا لقد وضعت قدمك على أول الطريق، ولكن ما بقي منه أعظم وأكبر, وهو وعر وممتلئ بالأشواك والوحوش ممن يسيطر الجهل والتعصب عليهم، وسيقطعون عليك الدرب عند أول كلمة تقولها فيستحلون دمك بسببها ويقتلوك

// الثاني: وكيف أفعل إذن؟

** الأول:  يجب أن تترنم دائما وأبدا قولا وفعلا بقولي الذي تعرفه جيدا : يا رب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا.

// الثاني: سأفعل ذلك بمعونتك.

** الأول:  بل بمعونة وتوفيق موجدنا سوية.

// الثاني: طيب نحن وصلنا لنتيجة معينة وهي أنك مثلي تزداد علما في كل يوم وإنك مثلي محتاج لما يبقيك حي وموجود، غير أنك برنامج أقوى مني وجوديا، وبحيث أنني كبرنامج صغير قائم بك ومحتاج إليك، ولكن هل تحل هذه النتيجة الإشكال المطروح؟ وهو أين الحكمة وأين العدل في برمجة برامج كنت تعلم مسبقا أنك ستدخلها فيما بعد بنصب وعذاب؟

** الأول:  سأحاول أن أضرب لك مثلا تكون أنت طرفا فيه، وأريد منك أن تتفاعل معي بالإجابة والحوار.

// الثاني: تفضل وسأفعل ما تريد.

** الأول:  تصوّر أنك طفل، ومنذ نعومة أظفارك ألبسك والدك البياض وأشربك كذلك البياض من زيتونة لا شرقية ولا غربية وآزرك بالبياض حتى صرت أنت مثالا أعظما للبياض، وحين اشتد عودك قال لك، أنا البياض وأنت اسمي الأعظم فلا يعرفني حق معرفتي إلا أنت، أنا البياض المطلق، أنا كنت كنزا مخفيا لا يعرفني أحد حتى أكملتك يا إسمي الأعظم، فجعلتك بقدرتي إسمي الأعظم، وبهذا اللون الأبيض أريدك أن تظهر كنوزي التي عرّفتك إياها فماذا ستفعل حينها؟

// الثاني: سأظهر هذا البياض بكل تأكيد.

** الأول:  كيف؟

// الثاني: سأرسم به كل جميل

** الأول:  أين؟

// الثاني: من حولي سأرسم بالبياض كل جميل.

** الأول:  ولكن كل ما حولك أبيض، فكيف ستظهر الأبيض فوق الأبيض؟

// الثاني: كل ما أردت أن أظهر البياض سأوجد مساحة سوداء لأظهر البياض فوقها.

** الأول:  ولكنك حينها ستوجد من السواد أكثر من البياض بأضعاف مضاعفة، وحينها ستكون بذلك قد أظهرت السواد على البياض، فماذا ستقول له لو قال لك لماذا أظهرت السواد وأنا كنت أريد للبياض فقط أن يظهر؟

// الثاني: سأقول أنه لا توجد طريقة أخرى لظهور البياض إلا بظهور السواد معه.

** الأول:  وإن لم يقبل منك هذا العذر؟

// الثاني: سأعتذر منه أشد اعتذار.

** الأول:  وما ذنب من اصطبغ بالأسود من الموجودات لتعذبه بعد حين؟

// الثاني: سأوجد نظاما تكون الموجودات فيه حرة باختيار ما يناسبها من الألوان، الأسود كان أو الأبيض وسأنصحهم باختيار البياض (عالم الذر)

** الأول:  وإن تمسّك بعضهم بالسواد ورفض البياض؟

// الثاني: سأدخلهم في مرحلة وجودية أخرى أبين لهم بها سوء السواد وحسن البياض، وسأرسل لهم من البرامج من يبين لهم ذلك أحسن تبيين (الدنيا والآخرة)

** الأول:  وإن أصر بعضهم رغم ذلك على حبه للسواد واستكبر؟

// الثاني: سأدخلهم مرحلة أخرى أشد من سابقاتها لكي يتركوا تعلقهم بالسواد (البرزخ) ولا أبالي بما سيعانونه فيها.

** الأول:  وإن أصر بعضهم على حبه للسواد واستكبر؟

// الثاني: سأوقفهم وقفة أبين لهم بها حسن خِــلقة وعاقبة من اختار البياض، وسوء خـِــلقة وعاقبة من اختار السواد (يوم القيامة) ولا أبالي بما سيعانونه بها.

** الأول:  وإن أصر بعضهم على حبه للسواد واستكبر؟

// الثاني: سأدخلهم مرحلة أخرى أشد قسوة من كل ما سبق حتى يتركوا التعلق بالسواد.

** الأول:  وإن أصر بعضهم على حبه للسواد واستكبر؟

// الثاني: سأبقيهم حينها فيها ولا أبالي بما سيعانونه فيها.

** الأول:  وإن كنت تحتمل في كل ذلك أن والدك لم يكن راضي عن إيجادك للسواد؟

// الثاني: سأبقى أعتذر منه طوال حياتي، وأبين له أن عذري في فعلي هذا هو أنني أردت أن أبين عظمة وجمال وحسن البياض الذي أطعمنياه وسقانياه وألبسنياه.

** الأول:  وبأي لسان ستعتذر؟

// الثاني: بلسان من ألبسته الخطايا ثوب مذلته وجلله التباعد من أبيه لباس مسكنته وأمات قلبه عظيم جنايته.

** الأول:  وإن لم يقبل منك ذلك وأدخلك من العذاب نفس ما أدخلت به من اختار السواد؟

// الثاني: سأقول له مهما عذبتني فإني أحبك، فكيف لمن اصطبغ بالبياض وجوده أن لا يحب البياض حتى ولو أدخله العذاب.

** الأول:  بعد كل هذه المراحل كم تتوقع سيبقى من تلك البرامج على عناده؟

// الثاني: أعتقد أنه لن يبقى أي منها على عناده، وستخضع جميعها أخيرا لإرادتي فتتلون بالبياض

** الأول:  ولكن كيف لمن لا قابلية له بالخضوع أن يخضع؟

// الثاني: لم أفهم قصدك؟

** الأول:  قلنا أن كل برنامج اختار لنفسه ما يشاء من جنود الجهل أو جنود العقل، وأظنك قد فهمت أن الأبيض هو رمز لجنود العقل، والأسود هو رمز لجنود الجهل، فمن كان من تلك البرامج لا يؤمن مطلقا ولا حتى بواحد من المليون بجندي العقل الخضوع، وتمكن جندي الجهل التطاول من كيانه بالكامل، فكيف يستطيع أن يخضع وهو كله تطاول؟ وقس على ذلك كيف يستطيع أن يطيع وهو كله معصية؟ وكيف يستطيع أن يستسلم وهو كله استكبار؟ وكيف يستطيع الهروب من العذاب بالطاعة وهو كله معصية؟ وكيف يستطيع أن يفهم وهو كله غباوة؟ وكيف يستطيع المعرفة وهو كله إنكار؟ وكيف يستطيع أن يهرب من العذاب بالتوبة وهو كله إصرار؟

// الثاني: تقصد أن من لم يتحلّى أو يختار من تلك البرامج بالتحلّي ولو بجزء صغير من جنود العقل يستطيع به أن يتخلص من العذاب هو فقط من سيبقى ويعاند حتى النهاية لأن لا قابلية في تكوينه من الأصل على الخضوع أو الطاعة أو التوبة.

** الأول:  نعم، شيئ من هذا القبيل.

// الثاني: لكن لو كان يؤمن بواحد من تلك الجنود ولو بنسبة قليلة فإنه سيهرب به أخيرا من العذاب؟

** الأول:  لو استعان به؟ ربما سيفلت أخيرا، لكن كلما استحكمت جنود الجهل من أي برنامج سيتأخر خلاصه من العذاب، فهذه البرامج تعيش حالة صراع بين جنودها في جميع مراحلها وحالاتها الوجودية حتى وهي في حالة العذاب.

// الثاني: إذن لن يبقى أخيرا في العذاب إلا من استحكمت جنود الجهل عليه بالكامل وهو برنامج إبليس، فبرنامج إبليس لا يعيش داخله أي صراع.

** الأول:  شيئ من هذا القبيل.

// الثاني: ماذا تقصد بشيئ من هذا القبيل؟ هل تقصد أنه سيفلت هو أيضا من العذاب؟

** الأول:  هل يمكنك أن تتصور له من سبيل للهروب فيهرب منه؟

الثاني مفكرا ، دقائق من الصمت، تبعتها دقائق، ثم قال:

كما بدأكم تعودون، أليس كذلك؟

** الأول:  نعم ولكن ماذا تقصد؟

// الثاني: أقصد كما أن جميع جنود الجهل أسلمت في بداية أمرها لجندي الجهل النفاق وخضعت له رغم شعورها بالمهانة والنقص لذلك الخضوع لكي تتمكن أخيرا من السيطرة، ستعود مرة أخرى لتسلم أمرها للنفاق وتخضع له رغم المهانة، لكي تهرب بمعونته من العذاب فتعلن الخضوع والطاعة مثلما فعلت أول مرة.

الأول مبتسما: هل أوحى لك إبليس بهذه الفكرة؟ نعم، ربما لو استطاعت جنود الجهل أن تسلم أمرها أخيرا للنفاق من جديد وتفعل ذلك، أقول : ربما أقبل حينها ذلك منه أو منهم، فبعض البرامج كانت حين أمر بها للعذاب تلتفت وتقول: ما كان ظني بك هذا، فأقول لها: وما كان ظنك بي؟! فتقول: يا مبرمجي! كان ظني بك أن تغفر لي خطيئتي وتسكنني جنّتك، فأقول حينها لعمّالي: وعزّتي وآلائي وبلائي وارتفاع مكاني، ما ظنّ بي هذا (البرنامج) ساعة من حياته خيراً قطّ، ولو ظنّ بي ساعة من حياته خيراً ما روّعته بالنار، أجيزوا له كذبه وانزعوا ما به من غل وأدخلوه الجنّة، أقول قد أفعل ذلك، والأمر لي ولي فقط، فإني فعّال لما أريد، ولا راد لفضلي، ولا معقب لحكمي، فإذا فعلت ذلك فستخمد حينها ناري بمشيئتي وستصفق حينها أبوابها.

قال الصادق (ع) : إنّ آخر عبد يُؤمر به إلى النار يلتفت فيقول الله عزّ وجلّ : أعجلوه ، فإذا أُتي به قال له : يا عبدي !.. لمَ التفت ّ؟.. فيقول : يا ربّ !.. ما كان ظني بك هذا ، فيقول الله جلّ جلاله : عبدي ، وما كان ظنك بي ؟!..
فيقول : يا ربّ !.. كان ظني بك أن تغفر لي خطيئتي وتسكنني جنّتك ،

 فيقول الله : ملائكتي !.. وعزّتي وآلائي وبلائي وارتفاع مكاني ، ما ظنّ بي هذا ساعة من حياته خيراً قطّ ، ولو ظنّ بي ساعة من حياته خيراً ما روّعته بالنار، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنّة.

ثم قال الصادق (ع) : ما ظنّ عبدٌ بالله خيراً إلا كان الله عند ظنّه به، ولا ظنّ به سوءاً إلا كان الله عند ظنّه به، وذلك قوله عزّ وجلّ : { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرديكم فأصبحتم من الخاسرين }. ص 288

// الثاني: لقد ارتحت قليلا الآن.

** الأول:  لماذا؟

// الثاني: لأنني في السابق عندما كنت أنظر لنفسي ولمن حولي أقدّر أننا جميعا سندخل النار والعذاب، وسينكل بنا موجدنا أشد تنكيل، ولأبد الآبدين، لا لشيئ سوى أننا اتبعنا أهوائنا بضعة سنين هي بقدر النقطة أو هي أقل، من عمرنا الأبدي الذي كنّا نسمع به، ولأنك تقول لي الأن ما معناه إن تلك المراحل جميعها وإن طالت ستصبح جميعها كالنقطة أو أقل بالنسبة للعمر الأبدي الذي سنبقى بعده، وأنك جعلت لنا مراحل عديدة، وجعلت لنا في كل منها من الأسباب الكثيرة التي تريد أن تجنبنا بها دخول العذاب الأكبر في المرحلة الأخيرة ...............

ولكن من حيث أنك جعلت لكل شيئ سببا، فما هو السبب الذي من أجله ستبدِّل فيه بالشفاعة في موقف يوم القيامة مصير من كان جزائه العذاب فتدخله الجنة؟ أقصد هل الشفاعة في ذلك اليوم لها موازين؟ أم ستكون عشوائية حسب رغبة الشافع الذي ارتضيته فقط؟

** الأول:  هل تذكر المثل الذي تحادثنا به قبل قليل، وكيف أنني ربيتك فكسيتك بالبياض، ثم قلت لك أنني كنت كنزا مخفيا حتى أوجدتك، وطلبت منك أن تظهر جمال وروعة هذا البياض الذي كسيتك به؟

// الثاني: نعم أذكر ذلك.

** الأول:  إن سبب وجودي هو فقط لإظهار ذلك البياض الذي كساني به موجدي، وأرادني أن أظهره، وهذا البياض له وجوه متعددة، وأحد تلك الوجوه هو إيصال كل مريد لمراده، وتمكين كل مريد من الأدوات التي سيحتاجها للوصول إلى مراده، وهذا الوجه من البياض تدعون من يتصف به بــ"الرحمن" بمعنى أنه من سيصل لهذا اليوم وصورته فيه حسنة، ونوره يسعى بين يديه، سيكون قد وصل إليه بـ"الرحمانية" واوصله الرحمن، حاله في ذلك كحال من وصل إليه ووجهه مسودا، وصورته فيه كصورة الوحوش، فكلاهما وصلا بالرحمانية إلى حيث يريدان الوصول، فالذي استحق يومها دخول الجنة سيصل لها بالرحمانية لأنه هو من طلبها منذ البداية وسعى لها سعيها والذي أستحق النار أستحقها وسيصل إليها كذلك بالرحمانية، لأنه هو من طلبها من البداية، فالرحمن هو من يوصل كل مريد لمراده، وهو على هذا المعنى هو قسيم الجنة والنار،


وهناك وجه آخر للبياض وهو الرحيمية، وصفة هذا الوجه من البياض أنه يكسوا بالبياض من اختار السواد أوّل نشأته وأستحق بإرادته السواد وأوصله الرحمن لمراده الأسود، وتدعون من يتصف بهذا الوجه من البياض بـ"الرحيم"، وهذا الوجه من البياض موعد ظهوره هو في هذا اليوم العظيم، فالرحمن يوصل كل مريد لمراده ولا يبالي، والرحيم يبدل سيئات البرامج بالحسنات ولا يبالي.

// الثاني: جميل ما تقوله، ولكن السؤال هو على أي أساس أو ما هي أسباب ظهور الرحيمية في هذا اليوم؟

** الأول:  أنت تعلم الآن أن وجود السماوات السبع التي تسمع عنها هو وجود عقلي بحت وقائم على نظام أن لكل ظاهر باطن، بمعنى أن لكل معلول علة، والعالم الذي هو للبرامج بمثابة أول العوالم وعلتها هو عالم الذر ويرافقه عالم المثال، هذا العالم أي عالم المثال سيبقى يرافق البرنامج من أول لحظة سيبدأ العمل فيها حتى لحظة اختياره بإرادته التوقف عن العمل،

فكل برنامج له صورة بدن يعمل ويختار من خلاله، نفس البرنامج ثابت ولكن صورته أي صورة بدنه تتغير مع كل إنتقالة ينتقل فيها البرنامج من عالم إلى عالم آخر، لنقل أن أول بدن اختار به البرنامج ما أراد لنفسه في عالم الذر كان بمثابة البدن المادي له، تلك الإختيارات ستخلق له صورة مثالية، أي صورة تماثل اختياراته، وحين ينتقل للعالم التالي ستصبح تلك الصورة المثالية هي بدنه المادي الثاني،

أي أن ما كان بالنسبة له عالم المثال سيتحول إلى عالم مادي، هذا البدن المادي حين يبدأ بالإختيار سيخلق له بدن مثالي آخر في عالم المثال، وحين تحين لحظة الإنتقال وينتقل للعالم التالي سيصبح البدن المثالي الذي خلقه باختياراته هو بدنه المادي الجديد، والذي بدوره سيخلق له فيه باختياراته بدن مثالي يرافقه مع أول رحلته الإختيارية الجديدة، عملية انفصال البرنامج من جسده المادي الأول واتصاله بجسده المثالي الأول تدعى الولادة،

 وعملية انفصاله من جسده المادي الذي حصل عليه بالولادة واتصاله ببدنه المثالي الثاني تدعى الموت، عند الموت قد تكون الصورة المثالية على أتم صورة وأكمل نور، وهذه لا تحصل إلا لأربعة عشر برنامج كان الحاسوب قد أخذ على نفسه أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم دائما وأبدا تطهيرا، أو قد يكون نور تلك الصورة ناقص قليلا أو كثيرا، أو قد تكون تلك الصورة المثالية صورة بشعة لا نور لها، فالموت حينها سينقلك من بدنك المادي لبدنك المثالي في أي صورة كان عليه،

وعملية إتمام النور لذلك البرنامج الذي نوره كان لم يبلغ الكمال والتمامية في النورية تدعى الشفاعة، فمن كان من البرامج نوره ناقص فالشفاعة ستتم له ما نقص من ذلك النور، وسيلة البرامج لذلك هو دعائها الجماعي يا مبرمجنا أتمم لنا نورنا، والآن وحسب هذا الفهم الجديد يمكننا أن نصوغ سؤالك هذا من جديد وبهذه الصيغة : ما الذي يحدد مَنْ مِنْ تلك البرامج ستظهر أو تتجلى فيه الرحيمية؟ وهل اختيار المبرمج للبرامج التي سيشفع لها أو يتجلى بها بالرحيمية سيكون عشوائي أم أن له قواعد وأحكام؟

// الثاني: لا بد أنك تعلم ما يدور بعقلي الآن، وهو كيف سأختار أن أتوقف عن العمل وفي ذلك موتي وفنائي كما تعلم؟

** الأول:  نعم أعلم ذلك بالفعل، ولقد كنت أقصد بالفعل أن أثير ذلك التساؤل بك حين قلت هذه الكلمات (حتى لحظة اختياره بإرادته التوقف عن العمل) ، حيث أنني كنت أنوي أن أتطرق لمعناها وأحببت أن تبادرني بالسؤال عنها لأجيبك بدوري، ولكن اسمح لي أن أفعل ذلك بعد أن أتم توضيح عالم المثال ودوره في ظهور الرحيمية في يوم تقييم البرامج وفرزها إلى القسم الأمثل لها، والذي سيمكنها أن تستكمل به تكاملها بشكل أفضل وأسرع وتصل به أخيرا إلى غايتها النهائية المرسومة لها.

// الثاني: لك ذلك وسأنتظر ما يسفر لي من جواب.

** الأول:  قلنا قبل قليل أن أسم الرحمن يعطي من يشاء ما يشاء ولا يبالي، (المشيئة هنا ليست لأسم الرحمن ولكن للبرنامج، فهو يعطي للبرنامج ما يشاؤه نفس البرنامج ولا يبالي إلى أين ستوصله مشيئته تلك)، فالرحمن إذن يوصل برحمانيته كل مريد لمراده، ويعطي كل مستحق لما استحقه بمشيئته ولا يبالي، وقلنا أن اسم الرحيم هو من يعطي غير المستحق ما لا يستحقه، تكرّما منه وتحنّنا عليه ورحمة به، وان موعد ظهور كامل حقيقة هذا الاسم هو في يوم التقييم والفرز، وعليه فاسم الرحمن يستكمل ظهوره بالدنيا، والرحيم يستكمل ظهوره بالآخرة، ونوهنا أن ظهور كامل حقيقة اسم الرحيم له علاقة بعالم المثال المرافق للبرامج في كل مراحل وجودها، وأن الرحيمية سيتم ظهورها بالشفاعة، ونريد أن نعرف كيف سيتم ذلك الظهور الرحيمي بالشفاعة،

أنت تعرف أن بعض البرامج لن تحتاج إلى الشفاعة بسبب أن اختياراتها وأعمالها واعتقاداتها قد أكسبتها مظهر جميل ونور باهر ، وأن غيرها من البرامج من أهل الكبائر ستحتاج في ذلك اليوم للشفاعة لتتبدل بها صورهم القبيحة إلى صور حسنة فيظهر حينها ما كان من نور اختياراتهم الحسنة القليلة مخفي بسبب غلبة أشكالهم القبيحة وظلمتهم على نورهم،

تلك البرامج أعمالها انقطعت بخروجها من مرحلة ما بعد الولادة وعبورها بوابة الموت،وهي بهذا العبور سينقطع عملها، ولكن تطور اعتقادها ومعرفتها لن ينقطع بذلك العبور، وعليه فصورتها المثالية والتي قلنا أنها سترافقها حتى لحظة توقفها باختيارها عن العمل لن تتوقف عن التطور والتبدل تبعا لاختياراتها العقدية والمعرفية التي لا تزال مستمرة ولم تتوقف، وقد تقول أن جميع البرامج بعبور بوابة الموت لن تتوانى عن الإيمان والإعتقاد بما هو حق وصواب،

ولكن الأغلب الأعم من تلك البرامج لن تشعر أنها ماتت ولن تعرف بأنها ماتت، حيث أنها تعتقد وتفهم الموت على غير حقيقته وصورته التي ستراه بها، فهي عندما ترى الموت الحقيقي لن تفكر ولو للحظة أن ما تراه هو الموت وإنها وصلت له وقد أحاط بها، وغاية ما ستفكر به هو أنها انتقلت بكيفية لا تعرفها من حياة إلى حياة أخرى، وأغلب تلك البرامج سيفرح حتى بتلك الصورة الوحشية التي صار عليها فيأنس لها، فلقد أنقذته قوة الصورة الجديدة من عجز الشيخوخة وهرم وتآكل عظامه وانحناء ظهره وتهديد الموت له بالفناء والعدم،

فغاية خوفه كان من الموت والعدم ومنذ اليوم لا موت ولا عدم وسيحدوه الأمل بانتهاء أيام هذه الحياة الثانية كما انتهت أيام الأولى، وسيدخلون من قريب في مناقشات وحوارات ومناكفات فيما بينهم وسيعيشون حياة ثانية طويلة، وسينشغلون بها وبعذاباتها عن الالتفات ليوم التقييم والفرز، وصورهم المثالية في كل ذلك تتبدل وتتشكل من جديد حسب تطور اعتقاداتهم وأفكارهم

ومن سيشفعون في يوم التقييم ستكون قدرتهم على رؤية ما بعالم المثال على درجات فكل منهم سيرى حسب قوة وتمام ما يملكه هو أصلا من النور، وكلما زاد نور الشافع قوة وتوهجا كان أقدر على رؤية ما تملكه تلك البرامج من النور الضعيف، وعليه سيشفع كل من الشفعاء بمقدار قوة نوره هو فقط، فإذا صارت نوبة الشفاعة لمن نورهم أقوى ستشمل شفاعتهم حينها لفئة جديدة أوسع وأكثر عددا من المجموعة السابقة،

حتى تصل نوبة الشفاعة أخيرا لمن يمكنها أن ترى من كان في قلبه ولو ذرة من النور والحب لها فتلتقط شيعتها ومحبيّها حينها كما يلتقط الطير الحبّ الجيد من الحبّ الرديء، فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنة، يلقي المبرمج في قلوبهم أن يلتفتوا، فإذا التفتوا يقول لهم: يا أحبائي !.. ما التفاتكم وقد شفّعت فيكم بنت حبيبي؟ فيقولون : يا مبرمجنا !.. أحببنا أن يُعرف قدرنا في مثل هذا اليوم، فيقول المبرمج : يا أحبائي! ارجعوا وانظروا مَن أحبكم لحبّ بنت حبيبي، انظروا مَن أطعمكم لحبّها، انظروا مَن كساكم لحبّها، انظروا مَن سقاكم شربةً في حبّها، انظروا مَن ردّ عنكم غيبةً في حبّها، فخذوا بيده وأدخلوه الجنة. وأقول : حينها لا يبقى من البرامج بدون شفاعة إلا شاكّ أو كافر أو منافق.

// الثاني: يبدو لي أن في هذا اليوم سيطمع الجميع بنيل الشفاعة، فتعدد أطرافها وتدرجهم سيجعل أعداد المشفوع لهم يكاد يشمل جميع من سيكونون بالموقف في ذلك اليوم، ولكن عندي سؤال وهو ماذا عن من لا دين لهم، أو يعتقدون أن لهم دين مثل إتباع بوذا وغيرهم، فهؤلاء كما تعرف أن أعدادهم كبيرة، فهل للشفاعة لهم من سبيل؟

** الأول:  لعلك تدرك الآن أن المبرمج لا يحمل حقدا على برامجه، وأنه يريد لها السعادة بأي طريقة كانت بشرط أن لا تتعارض مع المقادير التي قدّرها وقضاها وأمضاها من بادئ الأمر، والرحيمية أو الشفاعة هي أيضا من تلك المقادير والأقضية التي قدرها وقضاها وأمضاها منذ البدء، وهي وسيلته الفعلية ليبلغ بها غايته من برمجة البرامج، فهو إنما برمجها ليرحمها ويسعدها بظهور البياض والنور في وجودها، فإن هي أخطئت اختيار السبيل في البدء، فستنال من العقاب والعذاب والخوف ما يكفيها من لحظة موتها وحتى تحين لحظة الشفاعة،

والتي قلنا أنها لن تكتب جزافا لأي من تلك البرامج، وأما من سئلت عنهم من أهل الأديان الأخرى فهم سيرون منذ لحظة موتهم هؤلاء الشفعاء، وسيعرفون منزلتهم وقدرهم وقربهم من المبرمج، وسيرافقونهم في جميع مراحل الموت وما بعد الموت، وعلى الأعراف وفي الموقف، وستكون أعناقهم متوجهة لهم طوال تلك الفترة الرهيبة، وسيعرفون حينها أن من كان يجب عليهم أن يتخذوه وسيلة ليسوا هم من صنعوا لهم أصناما وعبدوها، بل هم هؤلاء أهل السطوة والحظوة والقرب، ممن توجهت أبصارهم وأعناقهم نحوهم،

وهذا الإدراك وهذه المعرفة ستبدل صورهم المثالية وتضفي لها بعض النور فيراه الشافع فيشفع حينها لهم، وهؤلاء سيكون قبولهم لحقيقة عظم منزلة الشفعاء والإقرار بها أسهل وأيسر عليهم من غيرهم، فهؤلاء لم يتعرفوا عليهم في حياتهم ولم ينصبوا لهم أو لأتباعهم العداوة والحرب، فلذلك عندما سيرونهم بعد الممات لن يعاندوا كثيرا بالإقرار لهم بقرب المنزلة وعظمها وكونهم الوسيلة لله، عكس من تعرف عليهم بحياته فناصبهم وشيعتهم ومحبيهم العداوة والبغضاء، فهؤلاء سيصعب عليهم الإقرار والخضوع والتذلل لمن كفروا بهم من قبل، وسيصعب عليهم التبرء ممن كانوا يعتقدون أنهم هم الأصحاب.

// الثاني: وكيف لمن يرى يومها نور بنت الحبيب ومقامها أن لا يحبها ولا يحب أولادها، أو لا يحب محبيها ومحبي أولادها وشيعتها، ليتغير قلبه حينها فيشع بنور حبها فتميزه بنت الحبيب، فتلتقطهم كما تلتقط الطير الحبّ الجيد من الحبّ الرديء.

** الأول:  نتوجه الآن لسؤالك كيف سأختار أن أتوقف عن العمل وفي ذلك موتي وفنائي، والإجابة عليه ليست عملية سهلة، والسبب هو وكما قدمت في سؤالك أنك لا تريد أن تموت وتفنى، ولا أحد يريد أن يموت ويفنى على الإطلاق، والكل يريد الخلود في المتع الحسية والجواري والنبيذ وحور العين والقصور والغلمان المخلدون، فلا أحد يتصور أنه سيترك كل تلك المتع وإشباع الشهوات طواعية ليموت ويفنى، ولكن لو كان هناك حل وسط يمكنك به أن تحتفظ بكل تلك المتع وتتوقف عن العمل بدون أن تموت وتفنى فهل سيمكنك حينها أن تتصور أنك من الممكن أن تقبل هذا الحل الوسطي؟

// الثاني: وهل يوجد مثل ذلك الحل؟ بمعنى أن تكون موجودا وغير موجود في نفس الآن؟

** الأول:  لا يوجد شيئ غير قابل للوجود في الوجود العقلي، فكل ما يمكنك تخيله يستطيع العقل أن يجعله حقيقة محسوسة ملموسة، سأعطيك حل يمكنك أن تتخيله فيلقى عندك القبول وسأقدم له بأسئلة أطرحها عليك

 ** الأول:  لأي شيئ تريد الحور العين؟

// الثاني: من أجل التمتع طبعا.

** الأول:  لأي شيئ تريد مأكولات الجنة وشرابها؟

// الثاني: أريدهما كذلك من أجل المتع الكبيرة التي سأحصل عليها من خلالهما.

** الأول:  لأي شيئ تريد القصور والخدم والجواهر والذهب والحرير والإستبرق؟

// الثاني: أعتقد أن جوابي على أسئلتك هذه سيكون دائما من أجل الحصول على المتع من خلالها.

** الأول:  فأنت إذن لا تطلب تلك الأشياء لِذاتِها، بل لما ستحصل عليه من المتع واللذات من خلالها، فطلبك الحقيقي من تلك الصور المادية هو ما ستحصّله من المتع الروحية والنفسية واللذة الواصلة منها إليك بتوسيط البدن وحواسه.

// الثاني: نعم بالتأكيد هو كذلك، فهي مجرد وساط توصلني لتلك اللذات التي أنشدها بالأصل

** الأول:  الآن لو قلت لك أنك تستطيع أن تحصل على تلك المتع وبنفس القوة من غير أن تحتاج إلى تلك الوسائط، فهل تقبل مني ذلك؟

// الثاني: سأقول كما قلت لي قبل قليل، في عالم العقل كل شيئ قابل للوجود والتحقق.

** الأول:  أحسنت بقولك هذا، وخلاصة الفكرة التي أريد أن أقولها لك يمكن فهمها عبر فهم هذه الكلمات، وهي أنه يوجد عالِم ويوجد معلوم وتوجد وسائط بينهما، العالِم يبحث دائما عن المعلوم ويحاول دائما أن يحويه باختياراته ومشيئته، وإذا أمكنه أن يتحد معه بأي نسبة كانت فسيفعل ذلك، خصوصا إن كان المعلوم جميل ومرغوب بالنسبة له، فإذا استطعنا أن نجمع فنوحّد بين العالم والمعلوم بطريقة ما وبحيث أننا نستغني عن الحاجة للوسائط فسنضمن أنه لن يختار على الأقل الحصول على ذلك المعلوم من جديد، وكلما زدنا توحده مع ما يعلمه قلت حاجته للإرادة والمشيئة والتي هي أصل وجوده وهويته الحقيقية التي تميزه عن غيره، فإذا وصل للتوحد مع جميع ما يعلمه لن يجد الحاجة للإختيار، فكل ما يعرفه صار حاضرا عنده في كل آن، أو لنقل أن علمه به صار علما حضوريا.

// الثاني: وكيف ستطبق ذلك على من سيدخلون الجنة؟

** الأول:  الأمر بسيط جدا، فسنقول له أن لك في الجنة ما تشاء ولدينا مزيد.

// الثاني: وماذا سيعني له ذلك؟

** الأول:  أفرض أنك في الجنة، وكنت كلما أردت أن تأكل أو تشرب من نهر اللبن دعوت الغلمان فأحضروا لك منه، أو لا، بمجرد أن تشاء تجد اللبن أمامك، ولكنك في يوم قررت أنك تريد أن تتوحد مع نفس اللذة التي كنت تتوحد معها في حالة شربك من ذلك اللبن، وبحيث تكون تلك اللذة حاضرة معك طوال الوقت، وفعلت ذلك،!!! فهل تتخيل أنك ستريد بعد ذلك أن ترى اللبن يأتي لك بأقداح؟ بالتأكيد كلا،

ثمّ إنك طلبت مرة أخرى أن تتوحد مع اللذة التي كنت تتحصل عليها من تواجدك بقرب الحور العين، وتوحدت فعلا مع تلك اللذة، فهل تتوقع حينها أنك ستطلب مرة أخرى التقرب من حور العين؟ ورحت تطلب التوحد مع لذات الجنة التي تعرفها واحدة بعد الأخرى حتى جمعتها أخيرا بكأس واحد وبرشفة واحدة، فهل تتوقع حينها أنك ستريد أن تطلب القرب من واسطة إحدى تلك اللذات؟ بالتأكيد كلا، فأنت حينها في جنة القرب، جنة النفس، تلك الجنة الحضورية التي ستعيشها بكل مشاعرك وأحاسيسك

 وطلبك للوسائط وأنت في جنة النفس التي جمعت بها كل المشاعر الجميلة والملذات في أصل وجودك وصرت أنت وهي وحدة واحدة، سيعني أنك تريد الخروج منها إلى جنة الجوارح والحواس المادية لتنال بواسطتها بعض ما يمكن لها أن تقدمه لك وتنقطع عنه بمجرد ابتعادك عن تلك الواسطة، وهذا ما لا يمكن للعقل أن يتصوره، وهو الخروج من جنة القرب التي سيكون الشعور بالملذات بها تام كامل وحضوري، لنيل بعض تلك الملذات حصوليا وجوارحيا بتوسيط الواسطة، وهنا أقول إذا اتحدت النفس أو البرنامج مع كل ما يمكن لها أن تعرفه وتتصوره من اللذة فهو بالفعل عندها، فهل ستطلب النفس شيئا أم ستقف مكانها عاجزة عن الفعل والقول ؟

// الثاني: لقد أتعبتني بهذه الفكرة وجلبت الغمّ إلى قلبي؟

** الأول:  ولماذا؟

// الثاني: وما عساني أفعل بجنة القرب بعيدا عن حور العين؟ فكل كدي وتعبي وسهري هو من أجلها وأنت تقول لي أنني سأهجرها!!!!!!!!!!!

الأول مبتسما: وماذا ستقول إذن لو قلت لك أن جسدك في الجنة لا يشبه جسدك هنا؟

الثاني بعد أن تفكّر قليلا : أظنني سأتركك هنا وأذهب للبيت ناسيا هذه المحادثة برمتها.

الأول مبتسما : لا تبتئس يا صديقي، ألم أقل لك أن لك فيها ما تشاء ولدينا مزيد؟

الثاني ضاحكا : هكذا سأبقى معك حتى الصباح.

الثاني مستدركا ومتعجبا: فما أعظم قدرك وأغزر علمك عند موجدنا.

** الأول:  عندي ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب من العلم

// الثاني: هذا هو العلم.

** الأول:  إنه لعلم وما هو بعلم، فعندنا صحيفة فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس إليه حتى الأرش في الخدش.

// الثاني: هذا هو العلم.

** الأول:  إنه لعلم وما هو بعلم، فعندنا كتاب به جميع علوم الأولين والآخرين

// الثاني: هذا هو العلم.

** الأول:  إنه لعلم وما هو بعلم، فعندنا كتاب أمّنا وهو أعظم منهما وبه أكثر من كل ذلك.

// الثاني: هذا هو العلم.

** الأول:  إنه لعلم وما هو بعلم.

// الثاني: جعلت فداك فأي شيء هو العلم.

** الأول:  هو ما يحدث بالليل والنهار، الأمر بعد الأمر، و الشيء بعد الشيء، إلى يوم القيامة.

// الثاني: هذه لن أتركها تمر بسلام وأريدك أن تبين لي معناها.

** الأول:  وهذا ما كنت أرومه أصلا، أنظر في نفسك ولما حولك سترى صور تحاصرك من كل مكان، فالعالم بالنسبة لك صور متحركة كتلك التي تتخيلها بعقلك لأحداث ترسمها أنت بريشة إرادتك، تماما كما أننا رسمنا بريشة إرادتنا جميع أحداث الماضي والحاضر والمستقبل، ولكنها بالنسبة لنا ليست صور خارجية فقط كما هي في تخيلاتكم، فصورتك أنت مثلا، أنت تعرف الآن أننا نحن من يصورها في عقول غيرك ممن هم حولك تماما كما تريد أنت أن تظهر بصورتك لغيرك،

وهذه العملية نحن نفعلها كلها بالوسائط، بمعنى الضوء نسقطه على صورتك فنعكسه عنك بمقادير معينة وندخله في عيون من هم من حولك، ونحوله لنبضات كهربائية نسلكها في أعصابهم وخلاياهم المختلفة بعملية هي كلمح البصر أو هي أسرع، ثم نلقي الفهم في أنفسهم لتلك الصورة والموقف، يرافقها نقلنا للصوت الصادر منك وتحريكه بالهواء وإيصاله للأذن وإتمام كل عملية النقل والإفهام هذه بشكل متناغم مع الصورة التي نقلناها لهم، وفي نفس الوقت نحن نتابع تحريك خلايا الدم في عروقك والأنزيمات ومراقبة الغدد وما تفرزه، ونحرك القلب، ونراقب ما يدخل الجسم من فيروسات، فنفني ونقتل ما سيسبب لك ما لم يُكتب عليك من الأمراض والبلاء حتى ولو كانت بعدد قطرات البحر، ونسمح بمرور ما سيسبب لك مما كتب عليك من الأمراض والبلاء حتى ولو كان فيروس واحد،

كل ذلك الذي تراه علم كبير نحن نعلمه لحظة بلحظة، بالليل والنهار وأمر بعد أمر وشيئ بعد شيئ، فنحن نعلمه من حيث أننا نحن من يفعله، فنحن نسمع كل شيئ من حيث أننا من نفعل فعل السمع بكل مراحله، فنحن السامع ونحن المسموع ونحن ما بينهما، وكذلك نحن نرى كل شيئ من حيث أننا من يفعل الرؤية في كل مراحلها للشاهد والمشهود، فنحن الشاهد والمشهود ونحن ما بينهما، فنحن نعلم كل شيئ يدور في عالمنا، فلا فرق بعالمنا إن أسررت فيه قولك في صدرك أو إن جهرت به، فنحن نعلم به في كل الأحوال، ألسنا نحن من يخلقه ويتابعه في كل مراحله؟ فكيف لنا أن لا نعلم بما نحن نخلقه حتى وإن صغر ولطف؟


وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ () أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ

// الثاني: أراك قد تحولت بكلامك إلى صيغة الجمع بعد أن كنت تركز على ألفاظ الحاسوب والعقل الكلي والمكان والزمان فلماذا هذا التحول، وماذا تقصد بذلك، ومن أنتم؟

** الأول:  لقد قمت فعلا بذلك، ولكن لذلك طبعا أسبابه، في البداية كنت أحاول أن أوصل لك فكرة أن الفاعل لكل شيئ تراه وتحسه من حولك هو واحد، وهو الحاسوب أو الإنسان الكامل، وأن أفعال الإنسان الكامل تظهر آثارها في العقل الكلّي، أي أن العقل الكلي هو محل أفعال أو تجلي الحاسوب أو الإنسان الكامل، وعندما أقول الإنسان الكامل فلا يذهب خيالك لأقدام وأصابع ووجه ولسان ويدين وما إلى ذلك، فإنما أقصد به الكيان الجامع للقوى المحركة والفاعلة لكل شيئ تدركه بعقلك وحواسك المختلفة، وهي القوى التي جعلت من العقل الكلي عقلا كليا،

بمعنى أن العقل الكلي إنما اكتسب تعقله أصلا من تعقل تلك القوى لنفسها وقدراتها، وهذا لا يعني أن لتلك القوى عقولا منفصلة، لا، فهي مجموعة بكيان واحد بحيث أنها حية من حيث أنها موجودة وقديرة وعالمة، وعالمة من حيث أنها موجودة وحية وقديرة، وقديرة من حيث أنها موجودة وعالمة وحيّة، فحياتها هي عين وجودها وقدرتها وعلمها، وعلمها هو عين وجودها وقدرتها وحياتها، وقدرتها هي عين وجودها وعلمها وحياتها،

وإذا أطلقنا على هذه القوة الجامعة لتلك القوى الأربعة لفظ كلمة، وعلى كل من تلك القوى الأربعة المنطوية به لفظ حرف أو لفظ إسم فسنقول أنه كلمة تامة من أربعة حروف أو أربعة أسماء، وأينما نظرت وتمعنت من حولك فستجد أثر ثلاث حروف أو ثلاث قوى أو ثلاث أسماء منها فقط، فأينما نظرت فستجد أثر قوى العلم والقدرة والحياة من حولك، ولن ترى قوة الوجود الرابعة بحواسك بل ستدركها فقط بعقلك، فالظاهر من تلك الكلمة التامة هو حروفها فقط وهي تلك القوى الثلاثة أو الأسماء الثلاثة، والمختفي منه هو قوة أو حرف الوجود ونفس الكلمة التامة الجامعة لهم، ولهذا عندما أقول لك فيما بعد ما من ثلاثة إلا هو رابعهم أريدك أن تتذكر كلامي هذا، فمعيته للثلاثة هنا تعني أنه رابعهم من حيث أنه أولهم وثانيهم وثالثهم، تماما كما أن ثانيهم هو ثانيهم من حيث أنه أولهم وثالثهم ورابعهم، وقس على ذلك معنى أولهم وثالثهم فمعيته لهم لا تعني معية انفصال وزيادة بل تعني أنه معهم معية وحدة وشهود.

// الثاني: أرجو أن تنتقل بنا لموضوع آخر به حركة وتشويق، فلقد بدأت أشعر بالضجر من كلامك هذا، لأنني لا أستطيع أن أتخيله أو أن أتعقّله، فدعنا نتكلم عن برنامجي إبليس والخليفة وعن نزاعهما على خلافة الأرض فهذا الموضوع مشوّق وكله مغامرات وعـبر.

** الأول:  كما تريد، ولكن بعد ملاحظة صغيرة تخص ما سبق الحديث عنه، وهو أن جميع كلامنا كان في البرامج (المخلوقات) ونفس الحاسوب أو الإنسان الكل مبرمج العقل الكلي، أما بالنسبة لبرنامجي إبليس والخليفة، فلقد وصلنا في ما سبق بالقول أن الحاسوب قد مكّن برنامج إبليس من الأدوات التي ستعينه للوصول إلى كماله، وهي قدرته على التواصل والتداخل مع جميع البرامج التي آمنت ولو جزئيا بجنود الجهل الذي قلنا أن إبليس هو الإسم الأعظم له (أي للجهل) فلا يوجد برنامج آخر يستطيع أن يجسد الجهل بتمامه وكماله كبرنامج إبليس،

كما جعل له القدرة على التجزء والإنشطار والسيطرة الشاملة على ما سيتجزأ وينشطر منه من البرامج في كل حين، وذلك لكي تتعاظم قدرته بتعاظم قدرة باقي البرامج عدديا ونوعيا فيبقى معها ميزان القوى متعادل مع برنامج الخليفة ضمن الشروط المتفق عليها حتى يحين الوقت المعلوم،


الخصال - الشيخ الصدوق - الصفحة ١٥٢
الاباء ثلاثة 186 - حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار قال: حدثني أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن إسماعيل، عن الحسن بن ظريف، عن أبي عبد الرحمن، عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الآباء ثلاثة: آدم ولد مؤمنا، والجان ولد مؤمنا وكافرا، وإبليس ولد كافرا وليس فيهم نتاج، إنما يبيض ويفرخ، وولده ذكور ليس فيهم إناث.


- شى : عن زرارة ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : إن الله تبارك وتعالى جعل لادم ثلاث خصال في ذريته : جعل لهم أن : من هم منهم بحسنة أن يعملها كتب له حسنة ، ومن هم بحسنة فعملها كتب له بها عشر حسنات ، ومن هم بالسيئة أن يعملها لايكتب عليه ومن عملها كتبت عليه سيئة واحدة ، وجعل لهم التوبة حتى يبلغ حنجرة الرجل فقال -- إبليس :  يارب جعلت لادم ثلاث خصال فاجعل لى مثل ماجعلت له فقال : قد جعلت لك لايولد له مولود إلا ولد لك مثله ، وجعلت لك أن تجري منهم مجرى الدم في العروق ، وجعلت لك أن جعلت صدورهم أوطانا ومساكن لك ، فقال -- إبليس :  يارب حسبي

ومقتطف من كلمات أمير المؤمنين عليه السلام

اتخذوا الشيطان لامرهم ملاكا، و اتخذهم له اشراكا، فياض و فرخ فى صدورهم، و دب و درج فى حجورهم، فنظر باعينهم، و نطق بالسنتهم، فركب بهم الزلل، و زين لهم الخطل، فعل من قد شركه الشيطان فى سلطانه، و نطق بالباطل على لسانه!.

** الأول:  أما برنامج الخليفة فإحدى قدراته الواجبة له كونه خليفة الحاسوب هو أن يكون على اتصال مباشر مع كل البرامج الموجودة في الحاسوب، ومنها برنامج العقل الكلي نفسه وأن يكون مهيمن عليها كذلك من لحظة سجودها وخضوعها له، ولكنه رغم ذلك لا يتداخل معها بوظيفتها إلا بما هو ضروري لإكمال مهمته هو، والتي هي امتداد لهدف الحاسوب في البرامج، وهو إيصال كل مريد منها لمراده، والبلوغ بها لأهدافها وكمالاتها، وبحيث تبقى الأرض في كل الأزمنة والعصور محل ابتلاء واختبار لكل البرامج بلا استثناء،

فلا يطغى بها الخير على الشر ولا يطغى بها الشر على الخير، وكلما علت إحدى القوتين على صاحبتها في الأرض لجمها كي تستطيع الأخرى أن تحقق نفسها بحرية، فمن يريد الخير سيستطيع فعله، ومن يريد الشر يجب له كذلك أن يستطيع فعله، وهذه هي حالة التوازن التي يجب على الخليفة أن يراعيها ويحافظ عليها، وفي نفس الوقت يعمل بخطة مدروسة لإيصال كل برنامج لهدفه وكماله الذي اختاره لنفسه منذ البدء،

أما إبليس فكانت القيود على خطته لإفشال عمل ومهمة الخليفة معدومة تماما، ومحل عمله ومكره كانت هي نفس البرامج التي يريد الخليفة هدايتها والوصول بها لكمالها، لا لكونها معادية له أو لكونه هو معاديا لها، بل لكونها موضع نجاح الخليفة الذي يضمر له كل الحسد والعداوة والبغضاء لكونه أخذ منه شيئا كان يطمح للحصول عليه ألا وهو خلافة الأرض، واعتقد إبليس أن مظهر قمة فشل الخليفة سيكون حين تنصبه تلك البرامج باختيارها خليفة عليها في الأرض،

ليقول حينها لربه: أنا كنت محقا بعدم سجودي لمن كرّمت علي، فها هي برامجك في الأرض تريدني أنا حاكما عليها لا من كرمّته عليّ وجعلته خليفتك، نعم أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين، ورغم أن النار أصلها من الطين فإنا قادر على أن أفرغه بناري من طينيته فلا ماء أبقي به ولا تراب، وكنت محقا حين تفاخرت بناريتي على طينيته، فصار هدفه حينها هدفان، ** الأول:  هو ترويج وتحبيب ما يعتقده من جنود الجهل بين البرامج الأرضية، و// الثاني:  ترويج نفسه كقائد وإله، فإذا نجح بالهدف الأول بشكل كبير فسيكون الهدف الثاني تحصيل حاصل، فستسعى نفس تلك البرامج الأرضية لتحقيقه، وستكون هي من تقود حملته الإنتخابية ترويجا وإعلانا ودعما بعد أن ترشحه هي بنفسها لهذا المنصب، وهو سيكون من خلفها يقودهم من وراء الستار.

// الثاني: لقد قلت أن المهمة التي أوكلت لإبليس هي ترويج وتحبيب جنود الجهل لمن آمن بها من البرامج ولو جزئيا، فكيف فعل ذلك؟ أقصد ما هي خطته التي سيمارسها مع البرامج ليحبب لها تلك الجنود؟

** الأول:  يجب أن تنتبه أن هذه المهمة لم توكل له ابتدائا، فلا معنى لعقابه عليها حينئذ، ولكنه هو من طلبها فمكنه ربّه منها وأعانه عليها لكي يصل بها لكماله وغايته، إذا انتبهت لهذا نكمل حديثنا، لقد كان إبليس يدرك أن المهمة الواقعة عليه ليست يسيرة، وأنه مع مرور الأيام وتكاثر البرامج وتعقدها وسعي الخليفة لتحصينها ضده ستزداد مهمته صعوبة، فاخترع خطة خبيثة ماكرة فعّالة وبسيطة في غاية البساطة، يستطيع بها أن يحقق جميع غاياته في ترويج جنود الجهل ويستطيع تطبيقها على جميع البرامج التي يتداخل معها وبنفس القوة معها كلها كذلك، وهذه الخطة البسيطة تتمثل بالوسوسة للبرامج والتحدث معها بصيغة الأنا فتعتقد أنها هي من تفكر، لأن صدى الصوت الذي تسمعه بكيانها يقول لها كلما أرادت أن تختار من بين جنود العقل والجهل تسمعها تقول أنا، فإذا اتبع البرنامج حبه للأنا وصار عبدا لها فلا فرق حينها إن اختار البرنامج من جنود العقل أو من جنود الجهل.

// الثاني:  وكيف ذلك؟ إفترض انه اختار أن يتصف بجميع جنود العقل حتى ولو كان انطلاقا من حب الأنا، فكيف يكون إبليس قد روج حينها لجميع جنود الجهل وهي لا تزال مركونة على الرف؟

** الأول:  عندما تصبح غاية البرنامج هي حب نفسه فهو قد يبني بنيانا يناطح السحاب حبا لنفسه، ولكنه نفس هذا البنيان سيكون مستعد كذلك لهدمه كله بلحظة واحدة لأنه يحب نفسه، وعليه فالبناء المبني والقائم على أساس حب النفس قد ينهدم بلحظة واحدة، فيكون مثله مثل من بنى بنيانا شاهقا ذو أساس متين فوق أرض هشة على جرف هار، فعند أول هزة ومهما كانت تلك الهزة خفيفة سيميل ذلك البنيان بسبب هشاشة الأرض وسينهار حينها برمته في الجرف الهار، فلذلك لا مانع عند إبليس أن يبقى مع البرنامج يبني ويبني له بنيانه حتى يصبح ذلك البرنامج عالم العلماء في كل العلوم، شريطة أن يفعل البرنامج ذلك كله حبا بأناه، وحينها وفي اللحظة الأخيرة يوسوس له إبليس مرة واحدة فقط بحب أناه، فيسارع ذلك البرنامج لهدم جميع ما بناه طوال فترة اختباره في حياته الدنيا لأن حبه لذاته أمره بهدم ما استغرق منه بنائه عشرات السنين.

أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

// الثاني: إنها فعلا خطة ذكية، وقد كنت أستشعرها في نفسي، فكنت أفكر أحيانا كثيرة بمواضيع وأفكار لا أحبها ولا أريد أن أفكر بها أصلا، ولكنني رغم ذلك كنت أجد نفسي لا عن إرادة منّي وأنا غارق بالتفكير بها وبتخيلها، وكنت أتعجب كيف استقر بي المقام بين تلك الخيالات العجيبة والتي لم أكن في يوم من الأيام أعتقد أنني سأغرق بها،

وكانت الأصابع تشير دائما إلى أن الشيطان يستدرجني إليها فرحت أفكر بطريقة أستطيع بها أن أميز بين ما أريد أن أفكر به وبين ما يحاول الشيطان أن يستدرجني إليه، وكيف أستطيع أن أميّز بين ما هو لي منها وبين ما هو له من الأفكار، فقررت أخيرا أن لا أفكر إلا بما هو شرعي وضمن حدود الشرع، فلن يستطيع الشيطان أن يتداخل معي وفعلا صرت أراقب نفسي فصرت أميّز متى وكيف يدخل الشيطان في أفكاري ونجحت في أن أُنقـّــي فكري وعقلي من الأفكار الدخيلة التي كان الشيطان يُدخلها في عقلي رغما عنّي وبإرادتي في نفس الوقت، حيث أنه كان يدق الباب ويقول قبل أن أسأله من الطارق بصوت أسمعه يهتف في كياني قائلا هذا "أنا" فأطمئن حينها له، فهو أنا، فأفتح له الباب معتقدا أنني أفتحه لنفسي،

ولكنك الأن سلبتني راحة البال والطمأنينة التي كنت أعيشها في أنني قد هزمت الشيطان فعلا بسياستي التي اتبعتها من قبل، فصرت أعتقد أنني قد هدمت معقل الشيطان في نفسي بها وأنه لا يستطيع أن يعيش معي لأنني قد كشفت جميع أوراقه وخدعه بإتباعي للشرع ، فحسب كلامك قد يكون هو من يقرأ علي كتاب الشرع ويذكرني به لحظة بلحظة، ومع ذلك فهو ينفخ بأناي في نفس الوقت لتكبر وتكبر فتسيطر على بيت الشرع والطهر الذي عمّرته بمساعدته في كياني وأسكنته فيه معي ومع أناي العظيمة.

** الأول:  لا تستخف ببرنامج  إبليس، فهو أحد أعلم اثنين يعيشون على هذه الأرض، أولهما أنا وعلمي كله من المبرمج، والثاني هو إبليس، وعلمه هو بعضه من المبرمج وبعضه حصولي وهو كذلك من المبرمج بصورة أو أخرى، ولكنه بالنهاية يحسب من علم إبليس، والعلم الحصولي إنما حصّله من خلال عيشه أول أمره بين قومه لآلاف السنين ثم عاش كذلك بين برامج الملائكة لآلاف السنين فخالط بذلك أعاظم البرامج وعاش بينهم وتعلم منهم،

ثم بعد ذلك أصبح يملك بالإضافة لذلك قدرات كبيرة يستطيع بها أن يسمع خطرات النفوس، لا بل أكثر من ذلك فقد أصبح هو من يخلق خطرات الظنون في صدور كِلا البرامج الجنّية والإنسية، فهو يوسوس في صدور الناس (البرامج) من (برامج) الجِنةِ و(برامج) الناس، فهذا البرنامج هو بالأصل برنامج ذكي نقي لا نزاع في داخله بين جنوده، فجنوده إذن متناغمة ومتفاهمة ولا يوجد بينها أدنى اختلاف أو نزاع كنفوسكم،

ففطرتكم تدعوكم للوسطية وأنتم تترددون تيها في الوسطية بين الإفراط والتفريط، وهذا الإستقرار النفسي والتناغم الداخلي لبرنامج إبليس يعطيه قدرة إضافية على التخطيط بالأسباب واستشراف نتائج شبه مؤكدة لتسلسل حدوث تلك الأسباب، ومع خبراته المتراكمة طوال حياته ولآلاف السنين والتي لم تتحصل لغيره من البرامج كان من الطبيعي أن يصبح هو الأعلم من بين كل البرامج، ولكنّ مرتبته بالعلم تأتي من بعدي أنا، وهذا من ضمن حالة التوازن بيننا، طبعا مع تذكر الشروط والقيود التي تمنعني من التعرض له بما يمنعه من وصوله لكماله في محاولة هداية جميع البرامج التي آمنت بجنود الجهل التي أرادت أن تتحلّى بها وآمنت بها من قبل.

// الثاني: هل تستطيع أن تؤمن لي مقابلة مع برنامج  إبليس؟

** الأول:  طبعا أستطيع، ولكن تذكر أنه برنامج الإتجاه المعاكس.

// الثاني: سأتذكر وستكون بجانبي طبعا.

** الأول:  طبعا سأكون بجانبك، ولكن بنفس القدر الذي سأكون بجانبه، فالحياد ديني وديدني معكم، فأنا أعطي كل مريد ما يحتاجه لكي يصل به لمراده الذي أعطى عليه العهد لي.

// الثاني: ومتى سأقابله إذن؟

** الأول:  لقد بعثت في طلبه توا.

// الثاني: توا متى؟ فلم أرك تفارقني لحظة، ولم أرك تكلم أحدا، فمتى كان هذا التو؟

** الأول:  لو قلت لك أن برنامج إبليس كان على علم بكل ما دار بيننا من حديث لما تعجبت من ذلك، فأنت من ما سبق وقلناه على يقين من أنه متصل مع جميع البرامج، يسمع ما تسمعه ويوسوس في صدورها بما يشاء من الوساوس والأفكار، وأنه متمكن من ذلك، ويفعل ذلك كله دفعة واحدة مع جميع النفوس، صغيرها وكبيرها، ولو قلت لك بأي لغة يوسوس لها لأجبت فورا بأنه بسبب طول حياته ومعاصرته لجميع الشعوب، قبائلها وعشائرها، في سهلها أو في جبلها، في أرضها أم وسط بحارها، فإنه متمكن من جميع اللغات المعروفة وغير المعروفة على الأرض، وعليه فهو سيوسوس لكل نفس بلغتها التي يعرفها أفضل منها، ستقول جميع ذلك من غير تردد، ولكنك تحيرت كيف أنني تصرفت واتصلت وكلفت بدون أن يبدو لك من صورتي هذه أي تغيير،

والسبب في ذلك أنك أنت تريد أن تصدق أن إبليس قوي ومتسلط عليك وعلى جميع الناس أكثر من المبرمج الذي أوجدك، وذلك لتبرير حاجة في نفسك لا تتحقق بسهولة إلا إن قلت إن إبليس هو المسيطر الأكبر عليك وعلى أفعالك، وتلك الحاجة هي أنك لا زلت تحب ارتكاب بعض صغائر الذنوب، والتي حين تفعلها ستسارع إلى لعن إبليس على فعلك الذي فعلته، وبعدها ستشعر بالراحة لأنك قد تطهرت من رجس ذنبك بهذا اللعن لإبليس، ولنفس السبب تراك تستنكر أو لا تستذكر المبرمج قبل اقترافك الصغائر، وحين تقرأ إننا نعرف كل اللغات ونكلم كل قوم بلغتهم تستنكر ذلك وتستكثره علينا،

رغم إننا كذلك معك ومع كل البرامج في كل حين نسمع ما تسمعونه ونرى ما ترونه ونكلمكم في ضمائركم حين تقدمون على الصغائر والكبائر، لكن ولأنك أنت مقبل على الفعل وراغب به تصم أذناك عنا وتفتحها لداعي إبليس، رغم أنكم تقرئون في كتبكم أنكم ستذَّكرون بهذه الدعوة وكيف أنكم كنتم تسمعون من يقول لكم: يا قومنا أجيبوا داعي الله وامنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب اليم، وكنتم تسمعونه يقول لكم: ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين،

ولكنكم كنتم تصمون أذانكم عنا كأنكم لا تسمعوننا وذلك رغم أن ارتفاع صوتنا فيكم لا يقل ارتفاعه عن صوت داعي إبليس، ولكنكم كنتم تسمعون صوت داعي إبليس ولا تكونا تسمعوننا لأن آذانكم هي بالفعل صاغية له حصرا وتنتظر منه الإشارة، ومركّزة على صوته كما تسمع الأم صوت وليدها يبكي وهو بعيد عنها، فتراها تسمع صوت بكائه رغم أنها منشغلة بالحديث مع صويحِـباتها وبعيدة عنه، فتتركهم فجأة وتجري نحوه أينما كان، وهكذا أنتم تفعلون معنا، فمهما تكلمنا ونادينا لا تسمعوننا، وإذا همس داعي إبليس صغت إليه أفئدتكم أيما إصغاء ورحتم إليه تسعون.

صوت أقدام متأنية تأتي من خلفهم فيلتفت الثاني إليها ليرى رجلا جميل المنظر يتقدم نحوهم وهو يتمتم بكلمات كأنها من دعاء كان يقرئه عند خوفه من المكاره مطلعه يا من تحل به عقد المكاره ،ويا من يفثأ به حد الشدائد ويا من يلتمس منه المخرج إلى روح الفرج، بضع خطوات أخرى تقدمها ووقف بينهم ينظر إليهما بريبة وحذر.

** الأول:  لا تخف لم يحن الوقت المعلوم بعد.

إبليس بصوت مرتجف: فلماذا أمرت بي إذن؟

** الأول:  بضع دقائق تقضيها مع صاحبك تجيبه على أسئلته ثم تعود لشأنك.

-- إبليس :  لن تنفع المقابلة على هذه الهيئة

** الأول:  أعرف ذلك.

-- إبليس :  نعم أعرف إنك تعرف ذلك ولكن هذا الإنسي لا يعرف ذلك.

** الأول:  أترك لك أن تعرّفه لماذا، وسأغيّب نفسي عنكما حتى تنتهيان من الحديث.

// الثاني: وتتركني وحدي معه؟

** الأول:  دعك من هذا الخوف، فأنت تتقلب في أحضانه ليلك ونهارك، وهو كما تعرف لا سلطان له عليك إلا أن يدعوك، فلا تستجب له فلا خوف عليك حينها، أترككم الآن وما أنا بتارككم.

لحظات صمت اختفى الأول بها وبقي الثاني فيها ينظر للمكان الذي اختفى فيه وللحظات أخرى بقي جامدا لا يلتفت لموضع إبليس وكأنه يخاف أن يلتف نحوه حتى سمع صوت من خلفه سرت ببدنه على إثره رعشة جعلته يهتز كسعفة نخل هزتها الرياح.

-- إبليس :  هل ستبقى هكذا طويلا يا إنسي؟

مرت لحظات أخرى استجمع بها الثاني شجاعته واستدار بعدها ببطء نحو إبليس وحين واجهه وجها لوجه قال :

// الثاني: كلّي آذان صاغية.

-- إبليس :  يجب أن تعرف أن لقائي بك ليس كلقائك بالأول، فكونه مجمع جنود العقل واسمها الأعظم فهو يريد هدايتك للتخلق والإستعانة بجنوده، فهو إذن ينصحك منطلقا من جنود العقل الذي هو مجمعها وكوني مجمع ما تطلقون عليه جنود الجهل فإنني أحاول هدايتك لجنودي التي أنا اسمها الأعظم وسأجيبك من منطلق جنودي التي أمثلها ولا يمكنني أن أخالفها.

// الثاني: وماذا يجب عليّ أن أقول؟

-- إبليس :  في الوقت الحالي ألزم الصمت وافهم ما أقوله واعلم إنك إن سألتني فلن أصدقك القول لأنني أريد هدايتك للكذب الذي أراه جميلا وأبعدك عن سيئات الصدق وقبائحه.

// الثاني: هل تقصد أن الصدق قبيح؟

-- إبليس :  قلت لك ألزم الصمت يا إنسيّ حتى أطلب منك الكلام، وهذا التسرع الجميل منك أنا من علمك إياه وزينه لك فلا تظهره أمامي خوفا مني، أما الصدق فنعم إنه قبيح ألا ترى كما من المهالك يوردك بها الصدق إن استعنت به؟

ألم ترى كم من الناس حُـبسوا بسببه وكم من الأزواج تفرقوا بسببه وكم من الرسل قُتلوا بسببه وكم من الحروب اندلعت بسببه وكم وكموكم؟ هل تريد أن أعدّد لك كم من المهالك أورد الصدق أصحابه وكان يمكنهم أن يتجنبوه بكذبة صغيرة، ثم ألا ترى أنّ أتباعي يسيطرون على مقاليد الدنيا وجميعكم تعرفون جيدا أنهم يكذبون ويكذبون عليكم ورغم ذلك تحبونهم وتختارونهم خلفاء لكم في بلادكم وأعمالكم وأموركم، وإذا جاءكم الصادق بصدقه تركتموه ونبذتموه وراء ظهوركم،

كن صادقا مع نفسك وأظهر ما تعلمته مني وتذكر صنائعي الجميلة معك، نعم معك أنت، كم من المصائب جنبتك بكذبي، كم من الأموال جنيت بكذبي، كم من النساء نكحت بكذبي، وكم من المراكز الإجتماعية الرفيعة حصّلتها بكذبي الذي علمتك ايّه؟ وأخبرني ماذا جنيت من الصدق الذي علمّك إياه الأول غير شظف العيش وضيقه؟

// الثاني: جنيت...

-- إبليس :  أيّها الإنسي قلت لك أصمت حتى آمرك بالكلام، وتعلّم أنك لكي تحصل على ما تريد يجب أن تكون ذليلا أمام من هو أقوى منك وأعلم منك، فبالتذلل طريقك إلى ما تسعى إليه سيكون أقصر وأسرع، ألا ترى أن من يتذللون للحكام والوزراء والمدراء يصلون دائما لما يصبون إليه، وأن من يترفع عن التذلل لهم تراه دائما منبوذا ومطرودا ولا يحصّل من المراكز الإجتماعية والوظائف إلا على أحقرها وأشقاها وأقلها دخلا ماديا.

// الثاني: ولكن...

-- إبليس :  قلت لك أصمت وأظهر بعض الصبر نفاقا حتى تحصل على ما تريد، ألا تعلم أنني وصلت بالنفاق لما وصلت إليه من مراكز علية وقرب قريب من المبرمج الأكبر، فاصبر نفاقا وتواضع نفاقا واصدق نفاقا واركع واسجد نفاقا وافعل إن لزم الأمر كل ما يلزمك نفاقا للوصول لما تريده، وكن في كل ذلك شديد المكر والإصرار حتى تبلغ هدفك الذي تنشده.

الثاني بصوت عالي : ولكنني لا أريد كل ذلك...

-- إبليس :  هذا ما يزعجني فيك يا إنسيّ أنت وباقي جنسك وجنسي من الجنّ، تعيشون حالة الإنكار لفضلي عليكم رغم أن أغلب النعم التي تتنعمون بها هي بفضلي أنا، ولكن ما أن تحصلون عليها عن طريق الكذب والنفاق والخديعة والسرقة التي علمتكم إياها حتى تسارعون لشكر من يتوعدكم على تحصيلكم لتلك الأموال والنعم بأشد العذاب والتنكيل، أهديكم للنفاق والخديعة والكذب والسرقة فتنافقون وتفعلون ما هديتكم إليه وحين تحصلون على ما تريدونه من النعم تسارعون إلى شكره وحمده وتنسوني أنا مسبب نعمتكم، أعيش الأمرين بسببكم، أشقى ليلي ونهاري لهدايتكم وفائدتكم وأنتم تتنكرون لي، بل وجزائي منكم أغلب الأوقات أنكم تلعنونني صباحا ومساءً.

--إبليس مسترسلا : وأنت يا إنسي، كم من الأفكار الجميلة أوحيت لك، وكم من أبواب العلوم هديتك لها، وكم من الأصحاب حببتك إليهم حتى صاروا يأنسون إليك ليلهم ونهارهم وكم.......

فجأة توقف كل شيئ عن الحركة وبقي إبليس جامد مكانه لا يتحرك فيه شيئ، وحتى لهيب النار التي كانت مشتعلة توقفت عن الحركة، وأصبح كل شيئ كأنه صورة جامدة لا حركة فيها، وما هي إلا لحظة حتى ظهر الأول من جديد ليشعر الثاني حينها بالطمأنينة بوجوده.

// الثاني: هل أنت من فعل ذلك؟

** الأول:  بالتأكيد

// الثاني: ولكن كيف؟

** الأول:  الأمر أبسط مما تتصور، فيكفيني أن أشاء ذلك ليستجيب الحاسوب حينها لمشيئتي، فكما تعلم إنما أنا صورة أوجدها الحاسوب لنفسه لكي يتكلم معك من خلالها، فأنا وهو واحد كما أوضحت لك من قبل، فمشيئتي هي إذن مشيئته بالأصالة والتي تنزّلت بي فكنت أنا المعبر عنها

// الثاني: ولماذا شئت الآن أن توقف كل شيئ؟

** الأول:  أنت تعرف أنني بدأت الكلام معك لكي أوضح لك ما خفي عنك وما كنت تبحث له عن إجابات، وما كنت لأترك هذا البرنامج أن ينفرد بك مدة طويلة، فهو كما تعرف ذو حيلة واسعة اكتسبها من عمره الطويل وأنت لست بند له على الإطلاق، وقد بدأت أحس بالرعب يدخلك من أسلوبه الهجومي، فأحببت أن أوضح لك بعض ألاعيبه لكي تكون على علم بها حين الإصغاء له والحديث معه.

// الثاني: بالفعل، فلقد بدأت بالخضوع له خوفا منه، فهو لا زال يصيح بوجهي ويتكلم معي بثقة عن أشياء لها حظ من الحقيقة والصدق.

** الأول:  لقد قال لك كلمة في أول حديثه معك ثم أراد أن يعمّيها عليك وينسيك إياها بأسلوبه الهجومي وببث الرعب فيك، فهو يعرف انه إن هزمك نفسيا ببداية الحديث معه فإنه لن يجد صعوبة في التلاعب بك بعدها.

// الثاني: وماذا قال؟

** الأول:  قال لك " إعلم إنك إن سألتني فلن أصدقك القول" وهو بهذا قد وضع قاعدة للكلام بينكما وهي أنت تسأل وأنا اكذب عليك، فإذا استمريت بالكلام معه وسألته فأنت قد وافقت ضمنيا على الشرط الذي وضعه حتى وإن كنت غافلا وناسيا لذلك الشرط

الثاني يدور حول صورة إبليس الجامدة ويحرك كفّه أمام عينيه بتعجب : ألن يشعر بشيئ قد تغير بعد ذلك؟

** الأول:  لن يشعر بشيئ على الإطلاق، فكل شيئ قد توقف عن الحركة لأن الحاسوب بفعله أوقفه عن الحركة.

// الثاني: هل تقصد أن الحاسوب توقف عن الفعل فجمد كل شيئ؟

** الأول:  كلا، فلو توقف الحاسوب عن الفعل لاختفى كل شيئ، فبفعله تظهر آثار الأشياء في الوجود فهي (أي الآثار) إنما هي أفعاله وما دام الأثر موجود فالفعل موجود بالضرورة، فأفعاله ملئت أركان كل شيئ تراه، بل هي كل شيئ تراه، وعليه فما من شيئ تراه إلا وفعله كان فيه وقبله وبعده ومعه وفوقه وتحته بل هو محيط به بكل أبعاده المكانية والزمنية أيضا.

// الثاني: ما أجمل هذا الوصف إذن لحقيقة الأشياء وماهياتها.

** الأول:  إنما أردت أن أبين لك من خلال هذه الوقفة القصيرة أنني معكما أسمع وأرى، وأنني متمكن من تخليصك من حبائل كذبه ومكره ونزغاته ومصائده ووعوده التي سيغرقك بها، وأريدك أيضا حين تحاوره أن لا تخاف من أن يفرط عليك أو أن يطغى، فأنا كما قلت لك معكما أسمع وأرى.

// الثاني: ولكن ماذا عن كونه يسمع خطرات ظنوني وما يدور في خلدي فربما أتذكر هذا الموقف حين نعود للحديث فيسمعه منّي؟

** الأول:  لا تخف فلن ننقل تلك الأفكار له، فكما تعلم إننا من نقوم بذلك منك ومنه وإليك وإليه.

// الثاني: ما أعظم من يلتجئ إليك ويثق بك ويتوكل عليك.

** الأول:  بل ما أعظم من يلتجئ إلى خالق الحاسوب ويلتجئ إليه ويثق به ويتوكل عليه، فلا تنسى ذلك أبدا، والآن كن مستعدا فسيعود كل شيئ لما كان عليه قبل التوقف.

وقف الثاني مكانه واختفى الأول
وعاد إبليس للحديث من جديد: من المواقف منعت بها قاطعي الأرزاق من قطع رزقك بها،........ توقف إبليس عن الكلام حين لمح ابتسامة خفيفة بدت على شفتي الثاني ووجنتيه
--وقال : أرى ابتسامة ترتسم على وجهك فما الداعي لها؟

مرت لحظات صمت قال بعدها
-- إبليس :  لماذا أنت صامت هكذا فتكلم؟

// الثاني:  أبداً، كنت أنتظر منك الإذن بالكلام، أليس هذا ما تريده؟

-- إبليس :  نعم، وأعطيك الإذن، فما هو سبب تبسّمك؟

// الثاني: لم أكن ملتفت لكل ذلك لولا أنك نبهتي عليه، أمّا الآن فإنني أعرف أنني كنت أُشركُـك مع سيدي ومولاي بالعبادة والطاعة.

-- إبليس :  وكيف ذلك؟

// الثاني: بأن أطيعك أحيانا وأطيعه أخرى.

-- إبليس :  ألا ترى أن موجدي وموجدك قد أوجدنا لهدف واحد وهو إسعادك؟

// الثاني: هو كذلك؟

-- إبليس :  ألا ترى أنني فعلا أوفي ما أعد به، فطوال حياتك عندما كنت تصغي إليّ كنت تحصل على السعادة من فورك.

// الثاني: بل ما كنت أحصل علىه حين كنت أطيعك هو الندم والدموع.

-- إبليس :  أستطيع أن أُ أكد لك أنهما ليس من عندي، ولو أنك كنت تصغي لي فقط لما شعرت بالندم يوما ولما ذرفت الدموع كذلك، من عندي كنت تحصل على جميع ملذاتك، وكنت تشبع جميع رغباتك وكنت دائما وأبدا تشعر بالسعادة، ولكنك كنت بعد ذلك تصغي لعدوي ومنافسي الذي يريد أن يظهر أعمالي الجليلة في إسعادكم وتلبية رغباتكم التي وكّلني بها موجدي وموجدك فجعلني أمينا على تحقيقها لكم بأي طريقة تطلبونها، أقول يريد منافسي أن يفسدها عليكم ويسلبها منكم ليقلل مقداري ومقامي ويشوه صورتي وقدرتي عند موجدي وموجدكم.

// الثاني: هل هذا إذن هو جانبك من القصة الأولى التي جمعتكما سوية؟

-- إبليس :  أعلم تماما أنه قد شوه صورتي عندك وجعلني أبدو لك بصورة من لا يحبك ولا يريد لك السعادة، ولكن إعلم أن هذه صورة مغايرة للحقيقة، فحقيقة الأمر أنني أحبك لأنك أحببتني من بدء نشوئك وأنني مكلف بإسعادك وبتعريفك بالكيفية الصحيحة التي سيمكنك بها إشباع جميع غرائزك التي أودعها موجدك بك في هذه الدنيا لحبك هذا، تلك الغرائز التي إشباعها هو باب السعادة لك ولكل البرامج الأخرى، فالحاسوب برمجك لكي تسعد وتصل لكمالك الذي اخترته لنفسك وتسعد بذلك، واختارني من دون البرامج الأخرى لأنني الأقدر على ذلك، فناصبني حينئذ الأول بالعداوة طمعا بما نلته أنا من المنزلة الرفيعة فأقسم أن يضلّكم عن طريقي وهداي فهو لذلك ينغص عليكم كل سعادة أهديكم إليها بالوسوسة إليكم بأنها من السيئات وطالح الأعمال وأنّ جزائها هو تلك النار التي اخترعها من خياله فصار يخوفكم بها ويستغل بذلك سذاجتكم وطيبة قلبكم.

// الثاني: تقصد أنه لا يوجد نار ولا عذاب؟

-- إبليس :  بالتأكيد لا يوجد، فماذا سيستفيد الحاسوب بعذابكم إن عذبكم؟ لا شيئ بالتأكيد، بل إنه لا توجد جنة للتمتع في غير هذه الفرصة التي ستحصل عليها في حياتك هذه، وأنت إن اتبعتني فيها ستكون حياتك كلها نعيم وسعادة.

// الثاني: أريد أن أصدقك ولكن كيف لي أن أعرف أنك لا تكذب علي؟

-- إبليس :  ولماذا أريد أن أكذب عليك يا صديقي؟

// الثاني: ربما لأنك تحب الكذب وتكره الصدق.

-- إبليس :  أنا لا أحب الكذب بل أكرهه كذلك، ولكنني أجد نفسي جميلا فأحب أن أفيض من هذا الجمال على غيري تنفيذا لإرادة الحاسوب في خلقي، وقد أعطاني جميع ما تعرفه من قدراتي لكي أسعدك وأمتعك في فترة حياتك، فإذا نظرت للأمر من هذه الزواية ستجد أنك حين تطيعني فهذه هي العبادة الحقه والمطلوبة منك، فطاعتك لي ستحقق لك الهدف الحقيقي الذي أوجدك الحاسوب من أجله،
وهو إسعادك وتمتيعك في حياتك، وستجد أن النار هي ابتعادك عني، وستجد أن كبتك لغرائزك التي جعلها الموجد بك لتتمتع بها هي النار، وستجد أن طاعتي هي العبادة الحقيقية المطلوبة منك لكي تصل لما تريده من السعادة والمتع في هذه الحياة، وستجد أن طاعتك لي هي التوحيد الحقيقي، فطاعتك لي هي إطاعة للحاسوب، وإرادته التي هي إسعادكم هي نفسها إرادتي التي أحاول أن أحققها من خلال إسعادكم، فكون إرادته هي نفسها إرادتي فإذا أطعتموني حينها فكأنكم قد أطعتم الحاسوب، وهذا هو التوحيد الحقيقي، فإرادتي متوحدة بإرادة الحاسوب فأنا هو وهو أنا من هذه الزاوية من النظر.

 فيما كان إبليس يتحدث شعر الثاني بضيق من كلامه الذي يخلو من الصدق، فكأنه أحب أن تنتهي هذه المقابلة مع هذا البرنامج المحترف، وفي تلك اللحظة توقف إبليس عن الكلام لحظة ثم قال : يبدو أن وقتي معك هنا قد انتهى فوداعا ولست بمفارقك حتى أدخلك جنتي التي وعدك بها موجدنا

 وقبل حتى أن ينبس الثاني بكلمة اختفى إبليس من أمامه فيما سمع صوت أقدام تخطو من خلفه فأدرك أنه الأول قد وصل.

** الأول:  نعم لقد سمعتك وأنت تتمنى انتهاء مقابلتك معه فأوحيت له بالذهاب، فذهب من فوره على الحالة التي رأيتها.

// الثاني: لقد شعرت بالضيق الشديد من مقابلتي له وحديثي معه

** الأول:  ولماذا؟

// الثاني: إنه يتحدث بمنطق أراه يسود في عقول أكثر من هم حولي، فأرى أن في تصرفاتهم يتجلى ذلك الفكر جليا وبوضوح حتى قبل كلماتهم، فاكتشفت من هذه المقابلة أن إبليس يسيطر فعلا على أغلب البرامج من حولي بل وعليّ كذلك في كثير من الأحيان.

** الأول:  جميل أنك استطعت أن تلاحظ هذا بهذه السرعة.

// الثاني: أريد أن أفهم كيف يتداخل معنا هذا البرنامج الخطير، لقد سمعت أنه يجري فيناّ كجري الدم في العروق ولكنني لم أفهم ما معنى ذلك؟

** الأول:  لكي تفهم ذلك يجب عليك أن تخرج من الواقع الذي تعيش فيه

// الثاني: وكيف لي ذلك؟

** الأول:  سأعينك على ذلك بطريقتي، سأطلب منك الآن أن تغلق جفنيك وتعدّ حتى الخمسة ثم تفتحهما بعد ذلك.

// الثاني: حسنا هذه جفوني وقد أغلقتها، واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة.

فتح الثاني جفونه ولكن شيئا لم يتغير فالظلام لا يزال من حوله دامس، أراد أن يتقدم ولكنه لم يجد قدميه، أراد أن يتحسسهما بيديه ولكنه لم يجد يداه كذلك، بل ولم يشعر بوجودهما، ما هذا الشعور الغريب، أراد أن يلتفت من حوله ولكنه أدرك أنه لا يستطيع أن يحرك رقبته، بل انه حتى لا يشعر بها أو بوجودها، لا سبيل إذن إلا أن يدقق النظر في الظلام لعله يهتدي إلى بعض النور أو قبس من تلك النار التي كانت بجانبهما مشتعلة،

ولكن لا شيئ من ذلك حصل بل انه اكتشف أنه لا يستطيع أن يرمش بجفونه وكأنها هي أيضا اختفت، أراد أن يصرخ بالظلام صرخة استنجاد ولكنه أدرك أن لا لسان لديه ولا شفتين ولا حتى فكّين، أين أنا؟ كيف أنا؟ ماذا أنا؟ نعم، أنا لا زلت أشعر أنني أنا، لا زلت أشعر أنني موجود، لا زلت أفكر فأنا بالتأكيد موجود، وإلا فمن هو هذا الذي يفكر الأن؟ هو أنا بالتأكيد، ولكن أين هي بقية أنا؟؟

صوت مخاطب يشق الظلام من حوله أدرك الثاني أنه صوت
** الأول:  إنك الأن أقرب ما تكون لحقيقتك وأناك التي تبحث عن بقيتها

// الثاني: أين أنا؟ أين نحن؟ ولماذا هذا المكان مظلم ظلمة دامسة لم أرى مثلها من قبل؟

** الأول:  بل هو مظلم أكثر مما تعيشه الآن، أنت في عالم الظلال، في عالم العقول المجردة، في عالم الأشباح، سمّه ما شئت، ولكن حاصله أنك الآن بعالم اللا مادة، حيث لا نور ولا ظلام، ولا صلب ولا سائل ولا غاز، أنت في عالم لا مكان به ولا زمان

// الثاني: ولكنني أسمعك تتكلم معي، فكيف تقول لا مادة هنا، فماذا عن هذا الصوت؟ وكيف ينتقل منك إليّ؟

** الأول:  لا تفزع ستفهم حالا كلّ شيئ، في ما يخصّ أين أنت، لنقل أنك الآن مجرد عقل جزئي في العقل الكلي، وأمّا لماذا لا تشعر بشيئ، فالسبب هو أنّك الآن غير مهيئ لكي تشعر وتحسّ بالأشياء، لأنّ عقلك قد فصل عن جسدك الذي كنت تميّز به مختلف الأحاسيس عبر اتصالك بالألات الحسيّة المركبة عليه.

// الثاني: تريد القول من أنني الآن مجرد عقل ولا جسد لي ! كيف ذلك وأنا أسمعك؟

** الأول:  أنت لا تسمعني الآن، بل تدرك ما أريدك أن تدركه.

// الثاني: و ما الفرق بين السمع والإدراك ما دامت النتيجة واحدة؟

** الأول:  العقل يدرك لا بآلة والجسد يحسّ أو يدرك بآلة

// الثاني: أوضح مقصدك أكثر لو سمحت.

** الأول:  أنت في هذه اللحظة لا تحسّ بوجود أية أعضاء حسّية لك، وهي الآن غير موجودة بالفعل، ورغم ذلك تدرك معنى كلامي، كما أنّ الإحساس في عالمكم لا يكون إلاّ عن طريق الأعضاء الحسيّة، فأنتم تحسّون بالضوء والألوان والحرارة والخشونة والنعومة والمرارة والحلاوة وكلّ ما عدى ذلك من الأحاسيس المادية أو ما تدعونها بالمفاهيم عبر أدوات الحسّ الخمسة التي لديكم، بينما تدركون الخوف والحب والكراهية والحسد لا بآلة وإن كنتم تعبّرون حينها بأنّكم تحسّون أو تشعرون بالحب والخوف والحسد والكراهية، والتعبير الأصح في هذه الحالات هو أنّكم كنتم تدركون أنّكم تحبون أو تكرهون أو تحسدون أو كلّ ما عدى ذلك من تلك الإدراكات التي تدركونها لا بحاسة، أو لنقل لا بآلة،
فكيف تدركونها؟
تقولون بالعقل، ثمّ عدتّم لما تتحسسونه بأدوات الحس لديكم فقلتم أنّكم تدركونها كذلك بالعقل لكن بعد أن تتحسّسونها بتلك الأدوات منطلقين بذلك التعليل من أنّه إذا انقطعت الرابطة بين الأداة الحسيّة والعقل سينعدم الشعور بتلك الحاسة، لا لعدم وجود المؤثر الخارجي أصلا ولكن بسبب تعطّل الرابطة بين العقل وبين الأداة الحسيّة الموصلة له أو بسبب تلف نفس تلك الأداة الحسّيّة، مثل حالة العمى، فالعمى قد يكون بسبب تلف العين نفسها، وقد يكون بسبب تلف الأعصاب الناقلة لما تراه العين للعقل،

فقلتم حين ذلك أنّ المدرك لكلّ من المحسوسات بالأدوات الحسية وبغير الأدوات الحسية هو العقل، فعرّفتم حين ذلك العقل بأنّه القوة الكلية التي تُدرك بها الأشياء، ولكنّكم اختلفتم في تحديد مكان ذلك العقل وهل هو ماديّ وموجود في جزء من ذلك المخ الموجود داخل تجويف جمجمة الرأس، أم هو غير ماديّ ومرتبط بعالم الغيب.

// الثاني: إذن تريد أن تقول أنّك تؤدّي هنا دور ذلك الرابط ما بين العقل وما بين تلك المؤثّرات الخارجية.

** الأول:  نعم وهذه إحدى وظائف العقل الكلّي، فهو من جهة يربط ما بين العقول الجزئيّة ببعضها البعض، ومن جهة أخرى يربط ما بينها وبين المؤثرات الخارجية التي سيوجدها حسب قوانين دقيقة وأقصد بمجموعها تلك المؤثرات لذلك العالم الخارجي الذي ستعبّر تلك العقول الجزئية به عن مكنوناتها.

// الثاني: تريد أن تقول أنّ العقل الكلّي هو أنت؟

** الأول:  كلا، بل أعظم منه

// الثاني: وكيف تكون أعظم؟

** الأول:  أنا أو نحن هم الإنسان الكامل.

// الثاني: وماذا يمثّل سيدكم ومولاكم إذن؟

** الأول:  هو الفاعل الأوحد لأفعال ذلك العقل الكلّيّ بقدرته وحياته وعلمه ولأفعال الإنسان الكلّي كذلك، ولولا رغبته وإرادته للفعل لما كان من ذلك شيئ.

// الثاني: إذن فأنا في هذه اللحظة أفكّر بقدرته ورغبته تماما كما أوضحت لي أول الحوار.

** الأول:  أحسنت.

// الثاني: لكنّني أشعر بأنّني حرّ في تفكيري.

** الأول:  هذا هو جوهر القصيد، بأن تكون حرّا في تفكيرك وقراراتك واختياراتك ولكن كل ذلك هو بإقدار سيدي لك على فعل ذلك، فحين تريد التفكير ستحتاج للقدرة وحين تفكّر ستحتاج لمفاهيم جديدة وغير محدودة لتستعين بها على التفكير، وهذا هو العلم، وأخيرا ستحتاج للطاقة لتفعّل القدرة بها، فقد تكون نظريا قادر على الفعل ولكن لا يوجد عندك الطاقة التي ستفعّل تلك القدرة بها، كمثل الطائرة بدون وقود، فالطائرة السليمة هي ألة قادرة على الطيران ولكن فقط إذا توفّر لها الوقود وإلاّ فلا قدرة لها، والوقود هنا يعبر عنه بالحياة، فأنت تفكّر باستقلالية ولكن بقدرة وعلم وحياة من سيدي ومولاي بالأصالة، طبعا ستحتاج لكل ذلك كوحدة واحدة لا يسبق أحدها الآخر ولا يتأخر أحدها عن الآخر كذلك، ونحن الإنسان الكلي نستمدها مباشرة منه كوحدة واحدة والعقل الكلّي سيأخذ القدرة والعلم والحياة منّا كذلك كوحدة واحدة وبعد ذلك منه ستفيض إلى بقية العقول الجزئية لكل منها كذلك كوحدة واحدة.

// الثاني: تريد أن تقول أن فعلي الوحيد هنا هو الإختيار وأخيرا العزم على تنفيذ ذلك الإختيار، فإذا كان ذلك كذلك فما هو نطاق تفكيري واختياري؟

** الأول:  أما التفكير فلا حدود له، ويساعدك الخيال على تصوّر ما لا تستطيع الوصول إليه بقدراتك بسبب القوانين المانعة لك من الوصول لذلك الهدف، فأيّ كان ذلك الذي تعتقد أنّك لا تستطيع فعله وتحقيق وجوده خارجيا، فإنّك تستطيع إيجاده وخلقه عبر تخيله وتصوره، أمّا اختيارك فهو محدود وإن كانت المراتب بين الأقصى والأدنى لكل من تلك الإختيارات كبيرة جدا لتصل قريبا من اللامحدودة، ولشرح ذلك أذكّرك بجنود العقل والجهل السابق شرحها، فأنت في كلّ قراراتك يجب أن تتحرك في نطاق تلك الجنود أو تلك الصفات معصية أو طاعة ولن تستطيع أن تعصي أو تطيع بغير تلك الجنود فأنت لاتعرف غيرها، فأنت إذن محدود في مجال الإختيار ما بين الصفات وأضدادها، والتي منها الكرم ويضاده البخل، غير أن مراتب الكرم كثيرة جدا، تماما كما أنّ مراتب البخل كذلك كثيرة، وكذلك مراتب كلّ صفة وضدها هي كثيرة، وإذا فرضنا أن لكلّ سلب وإيجاب منها مائة درجة فستستطيع أنت أن تختار من الكرم مثلا خمسون درجة أو أكثر أو أقل، ومن الشجاعة عشرون درجة أو أكثر أو أقل، ومن الصبر درجة واحدة أو أكثر أو أقل، وهكذا دواليك، وستستطيع الإستعانة بأي من تلك الصفات وأضدادها المائة والخمسون بأيّ درجة تحددها أنت حسب اختيارك وقرارك، وهكذا هو حال بقية البرامج دائما، فهم متفاوتون في درجات البخل والكرم والصدق والشجاعة والنزاهة والعفة أو أيّ من تلك الجنود أو أضدادها، حتّى تكاد أن لا تجد شخصين بنفس الآن أو الزمان متشابهين بجميع الصفات

// الثاني: لقد أدخلتني في هذا العالم من أجل أن تبيّن لي كيف يتداخل إبليس معي في كياني ولكنك أدخلتني في مواضيع بعيدة عن مرادنا، فهل ابتعدنا فعلا عن ما نريد أم أنك ترمي من هذه التفاصيل التمهيد للبيان؟

** الأول:  أنت من يحدد مسار الحديث بيننا، فلا يمكنني أن أبين لك وأنت نفسيا غير مستعد للبيان، وأريدك أن تكون من الآن مستعدا لما بعد ذلك أيضا، أي لما بعد أن أبين لك كيف يستطيع ذلك البرنامج أن يتداخل مع برنامجك فكريا، أريدك أن تستعد لتجربة جميلة ومفيدة ستصبح بها أحد جنودي الذين أنفذ بهم خطتي وهدفي في عالمكم.

// الثاني: لقد جعلتني بكلامك هذا عن هذه التجربة متشوق لها فهيا بنا إذن نقطع لها الطريق.

** الأول:  جنود العقل والجهل! أنت تعرفها الآن تماما، فلقد تكلمنا عنها بما فيه الكفاية، ومما أعرفه عنك أعرف أنك تحب جنود العقل وتسعى للإتصاف بها قدر ما تستطيع وكلما استطعت، وفي هذه الظلمة التي تحيط بك أصبحت تدرك الآن أنك لا تسمع بحاسة ولا تتكلم بحاسة رغم أنك تسمعني وتحاورني، كما وأنك في هذه الظلمة قد خالجتك بعض المشاعر مثل الخوف والراحة والرغبة والفضول بدون أن تكون لك كذلك حواس أو غدد تفرز بك من الهرمونات ما قد يثير تلك المشاعر في نفسك، ومع إدراكك لجميع ذلك أصبحت الآن مدركا كذلك من أنني أنا من يخلق لك السمع والكلام منك وإليك، وكذلك أنا من يخلق فيك الأحاسيس والرغبات في عالم الظلمة هذا، وأنني أخلقها لك بشكل يرضيك تماما حتى أنك قد نسيت بعد لحظات من دخولك بهذا العالم أنك مجرد عقل جزئي أو برنامج صغير ذاتي الإختيار والتفكير،

الآن سوف أتركك وأريد منك أن تفكر فقط في جنود العقل، وأن تفكر فقط في جمال وحسن جنود العقل، وأن لا تخرج من تلك الدائرة الفكرية أبدا ما استطعت، وسوف يدخل في الحوار معك بدلا مني برنامج آخر لا يعرف من المفاهيم إلا القليل منها مما سيمكنه بها أن يحادثك ويحاورك، بالإضافة لمعرفته السطحية أو الأسمائية فقط لجنود العقل ولجنود الجهل، بمعنى أنه يدرك اسم الصدق ولكنه لا يعرف ولا يحيط بحقيقة معنى هذا الإسم، أي أنه كبرنامج لم يرتبط بحقيقة هذا الإسم حضوريا من قبل ولو لمرة واحدة ولننظر كيف سيجري الحوار بينكما ومن سيكون ثالثكما.

// الثاني: هل تقصد أنك ستكون معنا بالحوار؟

** الأول:  كلا، بل سيكون برنامج أخر غيري، وقد تميّزه من طريقة كلامه وكلماته.

// الثاني: هذا يعني أنني أعرفه.

** الأول:  بالتأكيد ولكن دعنا ننتظر حتى يدخل بينك وبين البرنامج الثاني في الحوار لنبدأ الآن , وتذكر ما قلته لك عن حصر تفكيرك بجنود العقل.

الثاني بدء يفكر بجنود العقل فاختار الحب من بينها وصار يردد : الحب جميل، الحب جميل، الحب جميل , الثالث : أنا الحب ، أنا الحب ، أنا الحب

الثالث : أنا البغض، أنا البغض، أنا البغض.

الرابع : البغض أفضل لي، البغض أفضل لي، البغض أفضل لي

 الثالث : أنا البغض، أنا البغض، أنا البغض.

الثاني: الحب جميل، الحب جميل، الحب جميل

الثالث : أنا الحب، أنا الحب،

الرابع : البغض أفضل، البغض أفضل، البغض أفضل

الثالث : أنا البغض، أنا البغض، أنا البغض.

الثاني: ما بالك أيها الثالث وقد أبدلت رأيك سريعا؟

الثالث : وما أدراني أني أصلا قد أبدلت رأيي فلعلهما متشابهين؟

الثاني: بل هما مختلفان.

الثالث : وما أدراك بذلك؟ هل تعرف حقيقتهما؟

في تلك اللحظة أدرك الثاني أنه لن يستطيع الإجابة بدون معونة الأول فطلب بخاطرة عقلية منه التدخل وإيقاف المحاورة حتى تنجلي الغمة

** الأول:  سؤال صعب، أليس كذلك؟

// الثاني: بالتأكيد هو صعب، فكيف لمن لم يجرب طعم الحلو والحامض أن يجزم أن طعمهما مختلف؟ فقد يكون الطعم واحد والأسماء مختلفة

** الأول:  وماذا تقترح؟

// الثاني: ما رأيك لو نزعت مؤقتا مني حب جميع جنود الجهل بكل درجاته لعلي أستطيع أن أفهم الفرق بين صفات العقل وصفات الجهل ثم ترجعني بعد ذلك كما كنت.

** الأول:  أتريدني أن أنزع ما في صدرك من غل؟

// الثاني: نعم، وهل ذلك عليك بعزيز؟

** الأول:  بل إن ذلك عليّ سهل يسير، ولكنني لا أستطيع أن أرجعك بعد ذلك كما كنت.

// الثاني: تقصد أن ذلك صعب أو مستحيل، أم أنه يوجد سبب آخر يمنعك؟

** الأول:  إذا نزعت ما في قلبك من غلّ فكأني أدخلتك الجنة بسبب الهدوء والطمأنينة والإستقرار النفسي الذي ستشعر به لعدم وجود ما يتنازعك في داخلك حينها، فجنود العقل ستكون متناغمة مع بعضها البعض وكلها تجري بالنفس باتجاه واحد نحو موجدها لتبلغ بالرجوع به إليه إلى منتهاه، فإذا نزعت ما في صدرك من غل ثم غرزته فيك بعد ذلك مرة أخرى ستشعر كمن خرج من الجنة إلى الجحيم، من النعيم إلى العذاب، وأنا لا أريد أن أعذبك ، ألم تقرأ أن لموجدنا تسعة وتسعين أسما من أحصاها دخل الجنة؟

// الثاني: نعم قرأت ذلك ولكن معناه كما أعتقد هو أنه من سيحصيها سيدخل بعد الموت إلى الجنة.

** الأول:  بل إن معناها من أحصاها بالتخلّق بها في حياته دخل الجنة من فوره، وليس أنه سيدخل الجنة بعد موته كما تفهمونها، من تخلق بتلك الأسماء مجتمعة في حياته سيشعر بالسعادة وهي تغمره، وبنفس الإستقرار والإطمئنان النفسي الذي سيشعر به من سيدخل الجنة بعد يوم الحساب وبعد أن ننزع ما في قلبه من غل ليطأ بذلك من فوره أعتاب الجنة، من يتخلق بهذه الأسماء في الدنيا يكون قد نزع بيده ما في صدره من غل، ويكون قد دخل جنة الذات في حياته قبل مماته، ويكون قد مات في حياته قبل أن يموت

// الثاني: إذن إبليس الذي يمثل الجهل المطلق هو الآن في الجحيم، وهو يتعذب بنيرانها.

** الأول:  بل هو يشعر بالسعادة تغمره، ويشعر بالإطمئنان والإستقرار النفسي الكامل، تماما كمن تخلق بجميع جنود العقل كاملة، لأن جنود الجهل كما جنود العقل متناغمة مع بعضها البعض، وهذا يمنح إبليس الشعور بالسعادة والرضى والجمال والتكامل، وهذا الإستقرار والشعور بالرضى والجمال يجعله لا يطلب التغيير في ذاته، بل إنه يريد أن ينشر رضاه وسعادته وتكامله لجميع من هم حوله وتحت سلطته، بل إنه يشعر أن ذلك هو واجبه الملقى على عاتقه تماما كمن تخلق بجنود العقل كاملة، ولكن الفرق أن إبليس يشعر بالتكليف بلسان التكوين والخليفة بلسان التكليف.

// الثاني: وماذا عن أمر السجود والعصيان والوعد والوعيد له بالويل والعذاب؟

** الأول:  لديه ما يكفي من الجنود التي ستثير به حب الأنا وستجعله يعتقد أن الهدف من تلك الأحداث هو لتحفيزه على العمل والإجتهاد في نشر جهائله التي يعتقد أنها هي المطلوبة من موجده في الحقيقة، وأنها هي الجنة والسعادة الحقيقية التي يريد موجده أن يدخل بها جميع برامجه.

// الثاني: لا أستطيع صبرا على خوض التجربة التي وعدتني أن أكون بها أحد جنودك الذين تنفذ بهم خطتك وهدفك في عالمنا.

** الأول:  يبدو أنك تريد أن نتجاوز هذه المرحلة، فلك ذلك، ولكن هل تفضّل أن تدخل هذه التجربة على صورتك التي تعرفها، أم على صورة أخرى.

// الثاني: لن أقترح شيئا، فالأمر متروك لك وحدك، فأنت صاحب الفكرة وأنت أعلم بالأجمل فيها.

** الأول:  ستدخل إذن هذه المرحلة على صورة جنين في بطن سيدة، تمكث فيه بضعة شهور ثم تخرج للحياة من جديد، ولكن بقدرات أخرى.

// الثاني: وهل سأخرج من بطن هذه السيدة لا أعلم شيئا؟

** الأول:  كلا ستخرج منها وأنت تحمل معك جميع ما تعلمته في حياتك هذه من مفاهيم ومعارف.

// الثاني: يبدو أنها ستكون تجربة جميلة ومثيرة.

** الأول:  لقد وعدتك بذلك وستكون كذلك أن شاء الله، ولكن أريدك أن تدعوني حين تتكلم عني وعن موجدنا مع بقية البرامج بسيدي ومولاي.

// الثاني: لك ذلك.

** الأول:  إذن، أستعد وابدأ بالعد حتى الخمسة وانتظر ما سيحدث بعدها

// الثاني: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة !

هذا الجزء هو مقدمة للدخول منه لشكل آخر من الحوار
أنقطع الكلام، وكمن ألقي في الماء على حين غرّة شعر بالرطوبة تحيط به من كلّ جانب، وشعر بأطرافه مرة أخر، أراد أن يفتح عينيه فإذا بظلمة ثانية تحيط به وبسائل دافئ يملئ عينيه فأعاد إغلاقهما سريعا، أه ، ما أجمل ذلك، لقد ولدت من جديد، نعم تلك هي قدماي وهذه يدي أشعر بهما من جديد، حرّكهما بقوة فاصطدمت بحاجز لم يعرف ما هو إلا حين سمع صرخة ألم وأدرك معناها، إنه صوت السيدة التي هو في رحمها تتوجّع من ضرباته لجدار رحمها،

صرخة ألم تبعتها ضحكات مستبشرة وكلمات فرح ! لقد، لقد تحرّك يا زوجي العزيز، لقد تحرّك صغيرنا في رحمي، إنني أشعر بركلاته القوية الأب جاء بدوره مسرعا وبدأ يحاول أن يتحسس تلك الركلات وهو يعرب عن سعادته لنمو أمله الصغير بشكل صحي، الثاني بدوره لم يتركه ينتظر طويلا فركل بقدمه جدار الرحم عدة مرات مما جعل فرح أبيه يزداد ويزداد، فراح يعبر لزوجته عن سعادته ويتودد إليها بكلمات جميلة سعد بها الثاني أكثر من صاحبة الرحم الذي هو به ومن زوجها يا لها من سعادة كبيرة كنت قد حرمت منها، فمن كان يتخيل بأنني الذي كنت محروما طوال حياتي من طفل يدخل السعادة على قلبي سأعود في يوم ما لأصبح أنا هو ذلك الطفل من جديد،

يا له من شعور جميل أظنني سأستمتع به لمدة من الزمن، إنّها فعلا بداية مشجعة لهذه التجربة الفريدة من نوعها، تجربة ستعوض علي حرمان الطفولة وتعب السنين الطويلة التي قضيتها بالجري خلف سراب لم يكن مقدر لي أن أصل له إلا بمعونة الأول، وأظنني سأعمل على إشعار وآلدي هنا بالسعادة التي لم تسعفني قصر الأيام وضيق الزمان وشدة الإنشغال من أن أحققها لهما هناك، فجأة ومن لا مكان قطع تفكيره صوت الأول يجول في خاطره : اذكرني دائما وأبدا، واشكرني شكرا متصلا لقدرتي التي أجعلها لك في كل حين ملك اليمين، ولعلمي الذي به تدرك كل جميل، ولروحي التي هي لروحك النبع اللجين، اذكرني دائما وأبدا واشكرني شكرا متصلا لأزيدك سعادة فوق سعادتك وقدرة فوق ما عندك وعلما فوق علمك، وعندها ستكون بقدرتي أنت الحي المحي والقادر المقدر والعالم المعلم بعد أن لم تكن شيئا مذكورا

// الثاني: سأفعل ذلك سيدي بل وسأفعله بكل سرور ورغبة، الحمد لك والشكر الحمد لك والشكر الحمد لك والشكر الحمد لك والشكر الحمد لك والشكر الحمد لك والشكر.

صوته يرتفع بالحمد والشكر شيئا فشيئا، فتسمع أمه صوتا يسبح ويشكر فتتعجب من ذلك التسبيح والشكر، تصارح زوجها بما تسمع، فيحمدان ربهما ويستبشران بكريم منّـته عليهما

 تمر الأيام سريعة على الثاني فلا يكاد يشعر بها، فيما مرت طويلة على تلك السيدة، فلقد كانت تتحرق شوقا لرؤيته وتقبيله وضمه إلى صدرها، وحين حان اليوم الموعود سمع الثاني صرخات الألم، فأدرك حلول الأجل وموعد الخروج من الظُـلم، فتوجه بالدعاء والطلب من الأول لكي يخفف آلام التي هو في بطنها، هدأت الأم سريعا وزالت آلامها،

وما هي إلا لحظات حتى شعر بالبرودة تعتريه، ثم بيد حنونة دافئة تلامسه حاملة إياه بين كفيها، فتح عينيه قليلا ثم عاد ليغلقهما سريعا، ما أجمل هذا الشعور، ما أجمل أن تعود لي حواسي من جديد، تتناقله الأيدي بكل عطف ورأفة من جديد، قبلة حنونة تنطبع على وجنتيه، يفتح عينيه بهدوء قليلا قليلا، لتقع عينيه على وجه جميل ينظر إليه بدهشة وحب كبير، لم يتمالك نفسه من جمال المنظر، فابتسم ابتسامة كبيرة وجميلة أخذت بلب أمه التي راحت تخبر الجميع بصوت فرح عن تلك الابتسامة الجميلة وعن نظراته المتفحصة لها،

أدرك الثاني أنه يجب عليه أن لا يبالغ بإظهار إدراكه لما حوله، فأغمض عينيه مرة أخرى، نعم سأبقيهما مغلقتين في حضور الجميع ولن أفتحهما إلا حين أنفرد بأمي. أمي. إنها تشبه أمي. ما أجمل ذلك إنها تشبه أمي. فتح عينيه مرة أخرى ليتأكد مما انتبه له فوقعت عيناه في عينيها، نعم هي أمي بعينها، فضحك حينها ضحكة جميلة أخذت بعقل جميع من في الغرفة، متداركا أغلق عينيه من جديد، ولكن الابتسامة هذه المرة لم تفارق شفتيه، ما أجمل أن يولد المرء من جديد،

هنا يسمع صوت أمه وهي تطلب من الجميع أن يغادروا لأنها تشعر بالتعب، عاد الهدوء من جديد يلف المكان إلا من صوت دقات قلب أمه التي وضعته على صدرها وأحاطته بذراعيها وراحت تهمس بأذنه أجمل الكلمات وأعذب الألحان. تمر الأيام والأم تتعجب منه، فهو يتابعها بنظراته أينما ذهبت، يجوع فلا يبكي، يتعرض لصدمات مؤلمة فلا يتألم أو يبكي، ينام حتى الصباح بدون أن يزعجهما، ينتبه لكلامها معه وكأنه يفهم ماذا تقول، تسمع منه في كل حين همسات المسبحين، يميز الألوان والأصوات والكلمات،

يحرك عضلات جسمه بكل وعي، تتركه مستلقيا في مكان وتجده بعد حين في مكان آخر، وما هي إلا أيام حتى أدركت أنه يفضل أن يقضي حاجته في بيت الراحة، ولا تزال دهشتها تزداد في كل يوم من وعيه وإدراكه الكبير لما حوله، ولكنها رغم دهشتها احتفظت بما علمته عنه سرا فلم تصارح به أحدا لخوفها عليه من الحسد والغيرة،

لم يستطع الثاني أن يصبر أكثر من بضعة شهور حتى يكشف لهم عن قدرته على المشي مستقلا ومتوازنا ثم بدأ بتلفظ الكلمات والجمل موهما إياهم أنه يتعلمها منهم ولكن بسرعة، وكانت المفاجأة الكبرى لهم حين رأوه يصلي بانتظام، مما كان له أكبر الأثر على توجه العائلة نحو التدين وعلى البحث في أمور الدين، وتمضي الأيام سريعة،

هو بدوره لم يكن يحب اللعب مع الأطفال رغم حث والديه الشديد له على اللعب معهم، ولكنه كان يفضل القراءة والمطالعة والصلاة، فلقد كان ينتظر الإشارة ببدء مهمته التي كان يستعد لها بأفضل ما يستطيع، فراح يطالع في النهار جميع الكتب العلمية والدينية، وفي الليل كان يقضي وقته بالصلاة والتأمل والتفكر في ما قرئه وفيما أدرك فهمه من لقائه بالأول ليصهر بالتفكر جميع ذلك في علم واحد يُفضي عن نظرة كونية واحدة وشاملة تجيب على جميع الأسئلة التي قد يطرحها العقل،

وكان يشعر بتدخل خارجي من سيده ومولاه حين يتفكّر ببعض المسائل وذلك حين تنحلّ عقدها فجأة بورود بعض اللمعات الفكرية عليه بين الفينة والأخرى، لمعات تحمل بين طياتها الأجوبة التي كان يبحث عنها فيتبسّم حينها شاكرا لرعاية سيده ومولاه له ولتمكينه إياه لما يريده من العلم، بعد مدة وجيزة شاع نبأ نبوغه رغم صغره بين الناس فصار محط أنظار المجتمع من حوله فكانوا يسألونه في كل حين ويختلفون إليه دوما فيما شكل عليهم من المسائل فيرشدهم للحق فيها،

وما سئل يوم عن مسألة ولم يجب عنها بما هو مقنع للسائل، فإن لم يكن الجواب حاضر عنده حين وجوب الجواب لمع حق تلك المسألة على الفور في كيانه ليجيب بدوره بما يرضي السائل بفضل ذلك التدخل من سيده ومولاه، ففهم بذلك معنى إذا أردنا أن نعلم أُعلمنا، ومعنى عمود من نور، وتمضي الأيام سريعة وهو يقرأ ويفكر ويتأمل بدون تعب أو ملل أو كلل، فكان يتعامل مع نفسه وكأن لا جسد لها، ومع جسده وكأنه آلة يمتطيها، إذا جاعت أعطاها ما يسكتها، وإذا تعبت سقاها رشفات من الراحة، فلقد كان يعلم يقينا نوع ذلك الجسد ونوع تلك النفس التي تحركه والهدف منها، وتمضي الأيام حتى إذا كان جالسا في إحداها يتفكر تقدم منه رجلا مهيبا ووقف بين يديه قائلا : السلام عليكم

// الثاني: وعليكم السلام قال الرجل له: يقرئك سيدي وسيدك السلام ويقول لك أن قد آن الأوان فأقبل علينا.

// الثاني: أهلا ببشير الخير وسهلا، ومتى الرحيل؟

الرجل : لك الأمر في ذلك فانظر متى، ستجدني رهن إشارتك.

// الثاني: إذن فليكن صباح الغد هو موعدنا.

الرجل : لك ذلك.

// الثاني: إذن سألقاك في الصباح مرة أخرى.

توجه الثاني من فوره إلى المنزل وراح ينظر إلى أمه وهي تعد الطعام وترتب أشياء المنزل بهمة ونشاط كبيرين، جلس يرقبها لفترة من الزمن ويفكر ماذا عساه أن يقول لها، فإدراكه أنها مجرد برنامج لا يعطيه الحق بأن يسبب لها الآذى و جرح المشاعر، فهي وأن كانت مجرد برنامج بسيط لكنها أغدقت عليه الرعاية والحب والحنان تماما كما فعلت امه الحقيقية معه، ثم إن لها مشاعر حقيقية يشعر هو بها كذلك، ماذا عساه أن يقول لها؟ وكيف سيبرر لها رغبته بالغياب والإبتعاد رغم صغر سنه؟ وكيف ستتقبل الأمر؟ وهل ستتقبله على الإطلاق؟ كل تلك التساؤلات وغيرها كانت تدور في مخيلته وهو جالس يرقبها تعمل بجد ونشاط في المنزل، وأخيرا قرر أن يبوح لها بما في صدره فبادرها قائلا:

-        أمي العزيزة هل لي أن أحدثك قليلا؟
-         
-        بكل تأكيد عزيزي، تكلم فأنا مصغية لك وأنا اعمل
-         
-        كلا عزيزتي أريدك أن تجلسي بجانبي لبعض الوقت وتتركي ما بيدك، فما أريد قوله مهم بعض الشيئ
-         
-        كما تريد يا عزيزي

وفيما كانت تجلس بجواره تنتظره أن يبدأ كلامه راح هو يفكر كيف يبدأ ومن أين، و أخيرا قال لها:

-        هل تذكرين يا أمي عندما كنت أكلمك وانا لم أزل جنينا في بطنك؟
-        بالطبع يا عزيزي، وكيف لي أن أنسى ذلك؟
-        لقد كنت أسمعك حينها وأنت تتحدثين إلى أبي وأصدقائك ومعارفك، لقد كنت أسمعك وأنت تغنين لي وتحدثينني بأمانيك ورغباتك، لقد كنت أفهم جميع ذلك حينها، و اعلم أنك قد أدركت حينها اختلافي عن بقية الأطفال منذ ذلك اليوم، واليوم قد جاء استحقاق ذلك الإختلاف؟
-        ماذا تريد أن تقول يا عزيزي؟
-        اليوم سأقول لك أنني كنت في بطنك كوديعة أو كأمانة أ أتُمنتي عليها، ولقد فعلتي ذلك على أكمل وجه.
-        ماذا تقصد بالوديعة والأمانة؟
-        أقصد أن صاحب الوديعة قد أرسل اليوم بطلبي للقدوم عليه.
-        تقصد من؟
-        إسمعي يا أمي العزيزة، لقد منحك سيدي ومولاي شرف أن تحتضنينني للفترة الماضية وحتى اليوم، واليوم أشعر بفخر كبير بك يا أمي وبسعادة كبيرة لكونه اختارك أنت من بين جميع النساء لرعايتي، فلقد كنت نعم الأم الصابرة المضحية، واليوم كذلك لا أشك بأنك وثقت رغم صغر سني وحجمي برجاحة عقلي ونضجي وقدرتي على الحكم بما هو أصلح وأنفع في جميع تلك الأمور التي مرت علي، وكذلك التي سوف تمر علينا، لقد أرسل سيدي اليوم بطلبي يا أمي ولا أستطيع الرفض أو التأجيل فأنا في شوق لهذه اللحظة منذ أول يوم لي في هذه الدنيا، وأنا يا أمي ليس مقدّر لي كذلك أن أكون كباقي الإطفال في لعبهم و لهوهم، و هذا ما لحظتيه بالتأكيد في ما سبق، كما وليس مقدر كذلك لي أن أفعل ما يفعله الجميع هنا من عمل ولهو وانشغال بإمور عادية، وكل ذلك يا أمي ليس بمقدر عليّ تقدير جبر واكراه بل هو اختيار كله، والسبب يا امي في ذلك هو رغبتي أنا وشوقي أنا للانقطاع عما انقطعت عنه وللانشغال بما انشغلت به، يا أمي لا تحزني لرحيلي عنكم فبالتأكيد سوف أكون بخير حال فهذا هو كذلك قدري، يا أمي ما وُجدت هنا للموت والعدم فلا تخافي ولا تحزني وتأكدي بأنني رغم غيابي سأكون معكم بقلبي وروحي وستكونون معي بقلبي وروحي فاطمئني لحالي ولزيارتي لكم بين الفينة والأخرى

راحت الآمّ تنظر إليه وهو يتكلم وأخيرا رسمت على شفتيها ابتسامة جميلة تخفي خلفها ألما كبيرا كان يعتصرها و قالت:

ما برحت افكر في هذا اليوم، اليوم الذي ستتركنا فيه لتبحث عن طريقك وهدفك ولكنني لم اتصور أنه سيأتي بهذه السرعة، أما الآن وقد جاء فأقول لك لا بأس بذلك عزيزي فمن له عقلك وحكمتك لا يُخاف عليه هول الأهوال أو شدة المحن، فمن أي شيئ يجب أن أخاف عليك ومن سيطمع بك وأنت على هذا الحال من الزهد، وماذا ستحتاج وقد رضيت من نعومة أظفارك من عيشتك بقرصين و من ملبسك بخرقتين،

سأباركك و أدعو لك يا بني أينما كنت، فقد رضيت عنك يوم كنت جنينا ويوم ولدت، وسعدت بك رضيعا وطفلا وفتا يافعا، اذهب يا بني وتأكد أنك كلما نظرت خلفك ستجدني أدعو لك بالتوفيق والفلاح وبالسلامة والنجاح، إذهب فعين الله ترعاك و لا تنسى وعدك بالمرور علينا بين الحين والآخر

مضت ساعات الليل بطيئة حتى إذا اقترب الفجر كان الثاني قد تجهز لسفره، دقات هادئة على الباب تعلن وصول مرافق سفره ودليله به، فتح الباب فرئاه واقفا مبتسما فتقدم منه خطوتين محييا له فإذا به يجد نفسه في مكان غريب عنه لم يره من قبل فنظر خلفه ليرى الباب ينغلق فالتفت نحو مرافقه الذي بادره قائلا: إنك بالتأكيد لن تتعجب من الذي رأيته.

// الثاني: طبعا لن أفعل، ولكن ماذا تدعون الفعل الذي حصل للتو؟

الدليل : بما أننا لا نزال في نفس العالم الذي كنا فيه ولكننا نبعد الآن مسافة بعيدة جدا عن المكان الذي كنت تتواجد به، وحيث أنك قد قطعت تلك المسافة حتى هنا بخطوتين فقط، فسنصف ذلك الفعل من هيئته التي تم بها فنقول لقد طويت لك تلك المسافة الطويلة كما المكان على قدر خطوتين قطعت بهما آلاف الأميال، فأنا وكما لاحظت لم أتحرك من مكاني إليك بل أنت من تحرك نحوي خطوتين فقطعت بهما تلك الأميال المؤلفة، فكنت ترى مكاني بذلك الطوي المكاني من على بعد آلاف الأميال وكأنه على بعد خطوتين منك، وهذه العملية ستكون منذ اليوم وسيلتك للسفر والانتقال حيث تريد، وللإطلاع على ما تريد، طبعا سيمكنك كذلك أن تسافر وتنتقل كما يسافر وينتقل غيرك ممن حولك ومعهم، ولكن إذا وجبت السرعة سيمكنك السفر بالطوي، وحينها يجب عليك أن لا تُظهر ذلك للناس وأن تحافظ على مظهرك الطبيعي بينهم،

// الثاني: لك ذلك، ولكن هل يجب علي أن أقول أو أن أفعل شيئا محددا ليتم ذلك؟

الدليل : كلا أنت حالة خاصة فليس عليك سوى أن ترغب بحصوله ليتم لك ذلك.

// الثاني: وأين نحن الآن؟

الدليل : في مكان ما، ليس من المهم أين هو ذلك المكان، فهو مجرد مكان نلتقي به، وتذكر أنّه بعد اليوم لن يكون للمكان أو للزمان قيمة تذكر، فإذا ما رغبت برؤيتي والحديث معي ستراني على الفور أمامك بانطواء المكان لك، وإذا ما رغبت بالحضور عندي ستلزمك حينها أيضا خطوتان للأمام فقط، فلا قيمة للمكان أو الزمان بعد اليوم سوى بما يحقق الهدف من وجودك بهما.

// الثاني: يبدو أن هذه الرحلة ستكون على غير ما توقعت منها، فرغم أنني لم أزل بعد في لحظاتها الأولى فقد تبدل معنى الزمان والمكان فأصبح الزمان لا زمان والمكان لا مكان ! أتساءل على أي صورة سينقضي يومي الأول؟

الدليل : لا تتعجب من ذلك، فقبل بداية هذه الرحلة كانت علاقتك محصورة مع مسميات الأشياء فقط، بمعني علاقة مع الصورة الذهنية للشيئ ومع اللفظ الذي يطلق عليها، وهذه العلاقة لها قواعد خاصة بها تحكمها، أما في هذه المرحلة من الرحلة فسوف تتعامل أيضا مع حقيقة الأشياء لا مع مسمياتها وصورها فقط، وحين تعرف أسماء الأشياء فقط غير أن تعرف حقيقتها أيضا، فمن الطبيعي أن تكون القواعد التي تحكم هذه المرحلة غير تلك التي كنت بها، نعم أنت مقبل بهذه المرحلة على ما لم تألفه من النظم والقواعد من قبل، ولكنني متأكد من أنك ستفهم تلك القواعد و تألفها سريعا.

// الثاني: لكن أرجو منك أن تتعطـّف معي قليلا بذلك، فإن أهم ما يعرفه وجداني قد فقد قيمته للتو وأصبح كالعدم، فكيف تراني سأتصرف حيال ذلك؟

الدليل: صدّقني سوف تستمتع بذلك.

// الثاني:  هذا إذن خبر سار، ولكن هل يعني ذلك أن تعرفي على حقيقة أسم ما سيفقده قيمته عندي كما حصل بالنسبة للمكان والزمان؟

الدليل: كلا بالتأكيد، بل وعلى النقيض من ذلك تماما، فمعرفتك لحقيقة الشيئ سيعني أنك قد ملكته لا أنك فقدته، فبتلك المعرفة سيمكنك منذ الآن التحرك بدون أي قيود، زمانية كانت أو مكانية، لأنك بحيازتك لتلك المعرفة قد حرزت حقيقة الزمان والمكان، فما كان يكبلك من قيودهما أصبحت مفاتيحه بحيازتك الآن بهذه المعرفة.

// الثاني: كيفما أشاء؟

الدليل : نعم كيفما تشاء ولكن بشرط أن تكون ملتزما بحدود مهمتك التي كلفت بها، فيحب ان تكون مشيئتك حينها موافقة لمشيئة من أوكل إليك تلك المهمة، فإذا تعارضت مشيئتك مع مشيئته كأن ترغب أن تحقق بتلك القوة الممنوحة لك أهداف خاصة تشبع بها غرائزك الشخصية ستكون المشيئتان حينها وبالتأكيد غير متفقتان، بل ومتعارضتان، فلا يتحقق لك حينها ما شئته من الطوي المكاني أو الزماني بسبب ذلك التعارض.

// الثاني: تقصد أنني ما دمت موافقا بمشيئتي لمشيئته سأكون يده التي يعطي ويأخذ بها ويده التي يرحم ويبطش بها.

الدليل :هو كذلك، أمّا الآن فأود أن أشرح لك شيئا بسيطا قبل أن تباشر أول مهامك هنا لارتباطه به، إن كل من ستراه وتسمعه وتشعر به هنا له هدفين في هذا البرنامج أو في هذا العالم، هدف خاص به وآخر عام، وهدفه الخاص هو خاص به وحده، أمّا هدفه العام فمرتبط مع الأهداف الخاصة بباقي البرامج من حوله، أنت مثلا وجودك هنا له هدف خاص ستسعى للوصول إليه وبه ستبلغ كمالك، ولكن لكي تتمكن من ذلك يجب عليك أن تتصل مع ما حولك من البرامج،

وقد قُدر هذا الإتصال بين جميع الأشياء والبرامج في هذا العالم بشكل منظم ومدروس بحكمة ودراية وتقدير دقيق ليصل عبره كل موجود من موجوداته للهدف الخاص به، وهذا التقدير الدقيق الحكيم قائم على قانون الأسباب والمسببات، أو العلل والمعلولات، كما أن الموجودات هنا تنحصر بين أثنتين فقط، البرنامج الكلي أو لنقل عنه العالم، والبرامج الجزئية القائمة والمتقومة به، مثلي ومثلك ومثل باقي الأشياء هنا، وتلك البرامج الصغيرة لها كما أوضحنا أهداف خاصة وعامة ستسعى لتحقيقها منفردة ومجتمعة، كما وأن للعالم أو البرنامج الكلي كذلك هدفان خاص وعام سيسعى لتحقيقهما، أمّا الخاص فيتعلق به وحده، فيما يتعلق العام باثنين أخرين سنؤجل الحديث عنهما لحين آخر، أما الهدف الخاص للبرنامج الكلي فهو مساعدة تلك البرامج الجزئية للوصول لما تطمح إليه من الوصول لأهدافها الخاصة بها، وذلك بتوفيره جميع ما قد تحتاجه البرامج الجزئية من الأسباب التي قد تطلبها من أجل وصولها، وسندعو هذا الهدف للبرنامج الكلي بكمال التوصيل،

فيما سندعو هدف البرامج الجزئية بكمال الوصول، وكل ذلك طبعا بنظام الأسباب والمسببات، وكما لاحظت أن بهذا البرنامج توجد سماء وكواكب ونجوم وفضاء شاسع به شموس وأقمار عديدة، وتوجد أرض وما عليها من الإشكال المختلفة للحياة، إن جميع موجودات هذا البرنامج الكلي تخدم في وجودها البرامج الجزئية المدعوة بالإنسان لتصل به حيث يريد الوصول، وقد لاحظت بالتأكيد فيما سبق أن جميع تلك البرامج الجزئية أو الإنسانية قد تمركز وجودها وتجمعها في مكان واحد يدعى الأرض،

وبما أن للإنسان غرائز متعددة وقدرات جبارة وخيال جامح فلو أنه خلـّي ما بينه وبين ما عنده من تلك القدرات والغرائز وذلك الخيال فسيعمل بالتأكيد من غير قصد على إتلاف هذه الأرض وفسادها بسبب رغباته الجامحة في إشباع تلك الغرائز والقدرات تحقيقا لما يمليه عليه خياله الواسع، وحينها سيفسد بفساد الأرض الهدف من وجودها ووجودهم عليها، لذلك وجب وجود سبب أو علة تعمل على إضعاف تأثير الإنسان السلبي على هذه الأرض لتبقى هذه الأرض مؤدية للسبب الرئيسي من إيجادها وهو كونها دار اختبار وابتلاء للبرامج الجزئية، أو للإنسان.

// الثاني: وما هي تلك العلة أو ذلك السبب الذي سيحافظ عليها من الفساد والدمار؟

الدليل : قبل ذلك يجب أن نعرّف الفساد الذي من أجل تلافيه قد وجدت تلك العلة أو ذلك السبب، فمتى ستفسد هذه الأرض؟ قلنا أن علة تصميمها هو أن تكون دار اختبار، والإختبار هو من الإختيار، فإذا انعدم الإختيار انعدم الإختبار معه وحين ذاك لن تكون الأرض محققة للهدف أو العلة من وجودها

// الثاني: وكيف سينعدم الإختيار برأيك؟

الدليل : تعرف بأن إختيار الإنسان هو دائما بين الطاعة والعصيان لما رُغـِّب به أو نـُهي عنه، وكل ما رغــِّب به يدعى خير، وما نهي عنه يدعى شر، فالإختيار إذن هو بين فعل الخير وفعل الشر، فلذلك يجب أن يبقى الخير دائما وأبدا موجود على هذه الأرض ومتاحا للجميع، وكذلك أيضا يجب أن يبقى الشر كذلك موجودا ومتاحا للجميع، بمعنى أنه يجب أن تبقى حالة التوازن هذه موجودة في كل حين، وإلاّ فإذا سيطر الخير على جميع الأرض لن تصبح حينها دار اختبار أو بلاء لأي ممن هم عليها،

فإذا سيطر الخير لن يتمكن أحد من فعل الشر، و كذلك هو تماما نفس هذا الحال فيما لو سيطر الشر على الأرض جميعها، فإذا أراد أحدهم فعل الخيرات لن يستطيع حينها فعل ذلك لسيطرة الفساد على جنبات هذه الأرض، فالجميع في كلتا الحالتين سيكون مجبر على فعل الشر فقط أو الخير فقط ، وهذا هو عين الفساد الذي يجب تجنبه

// الثاني: وأين نحن من ذلك السبب؟

الدليل : هذا هو بيت القصيد، فأنت ستعمل تحت إمرة ذلك السبب كما هو أنا والعديد معنا في هذه الأرض، وستكون جنديا من جنوده تفعل ما يأمرك به وبدون مناقشة، فذلك السبب مطلع على جميع أحوال هذه الأرض ومحيط بكل ما يجري عليها من الأحداث سواء الصغيرة منها أو الكبيرة، فهو خليفة سيدنا ومولانا على هذه الأرض وحاكمها الفعلي، طبعا الهدف من خلافته وحكمه للأرض هو ليس السيطرة عليها سياسيا وعسكريا، بل هو كما أوضحنا سابقا لإبقائها محققة للهدف الذي من أجله قد صممت وهو أن تكون دار بلاء واختبار لكل من عليها، فلذلك فإن وجوده وحكمه لن يكون ظاهر للعيان بل سيكون مخفي عن الجميع، ونحن هم جيشه وجنوده ووزرائه.

// الثاني: ولماذا يجب أن يكون حكمه غير ظاهر للعيان؟

الدليل : إن ظهور ذلك الخليفة المسيطر على الأرض بقوته وجبروته الممنوحان له من سيدنا ومولانا سيفسد ذلك الهدف من وجود الأرض، فبسبب قوته المفرطة الدافعة للخير والطاعة سينعدم الشر ويتراجع وينكفئ أمامه، وحينها لن يكون هناك اختبار حقيقي لتلك البرامج، فليس أمامها سوى أن تتبعه وحينها ستتحقق لها السعادة مما سيجعل الإبتعاد عن المعصية أوجب لإشباع الغرائز والتي هي مواد الإختبار، وهذا منافيا للحكمة من تصميم هذه الأرض من كل الوجوه، ومن غير المعقول أن يصمم سيدنا ومولانا هذه الأرض لهدف مرسوم ومحدد بدقة وحكمة ثم يعود ليجعل بها سبب ظاهر غالب فيفسد به الهدف الأساس الذي وضعها من أجله، لذلك وجب أن تكون خلافته بها خلافة خفية عن الأنظار.

// الثاني: وما هي إذن طبيعة عملي كجندي تحت إمرته؟

الدليل : ستتعلم أولا أن تكون خفيا مع ظهورك، وضعيفا رغم قوتك، وأن لا ترفع يدك أو تخفضها إلا لأمر قد كلفك به ذلك الخليفة، فإن بذلت أو بطشت فإنفاذا لأمره، وإن منعت أو رحمت فإنفاذا لأمره كذلك، إجمالا ستتعلم أولا كيف تكون غير موجود مع وجودك، وكيف تتجرد من وجودك بالكامل مع المحافظة عليها.

// الثاني: وهل سأحظى قبل ذلك بفرصة أرى بها قدراتي وأجربها بنفسي؟

الدليل : لماذا؟ ألا تثق بكلامي؟

// الثاني: بل أثق بك وبسيدي ومولاي تمام الثقة ولكنني أريد أن أجرب بنفسي ليطمئن قلبي.

الدليل : لك ذلك، يمكنك أن تجرب وتشاء ما تريد حتى يطمئن قلبك وحينها ستأتيك منا إشارة فلا تستخدم قواك لنصرة نفسك أبدا واقصرها فقط على إكمال المهام التي ستوكل إليك

// الثاني:  أرجو التوفيق في ذلك.

الدليل : أتمنى لك النجاح والموفقية.

// الثاني: شكرا لكم.

الدليل : الشكر الموصول لسيدنا ومولانا فقط.

// الثاني: بالتأكيد، ولكن من لم يشكر العبد لم يشكر المولى

الدليل : أحسنت بهذا القول، والآن سأتركك لتبدأ مسيرتك ورحلتك، وتذكر أنك ستراني حينما وأينما وكيفما تريد وما عليك سوى أن تشاء وتعقد العزم على ذلك.

// الثاني: لن أنسى ذلك أبدا، وكيف لي أن أنسى.

الدليل : إذن إلى اللقاء.

// الثاني: إلى اللقاء.

 مجرد طرفة عين كانت تفصله عن رؤية دليله ومحدثه الذي اختفى بعدها من أمامه كأنه لم يكن وما كان، لحظات وقف بها حائر يسأل نفسه من أين سيبدأ وكيف؟،

أخيرا قرر أن يبدأ اختبار قواه الجديدة التي سيختصر بها المكان والزمان والتي تحول بها أمره لِكُن فيكون، وأن يبدأ تجربتها بالعودة فورا إلى بيت والديه وحينما قرر ذلك وجد نفسه يقف أمام البيت فتقدم منه وهو يفكر أن يخترق جدرانه كما تفعل الأرواح وفعلا تقدم منها فاخترقها بسهولة ليجد نفسه وسط البيت ويسمع صوت أمه وهي تتحدث مع أبيه بصوت حزين، تقدم منها وهو يرغب أن لا يرونه وأن يراهم هو فقط، اقترب منهما أكثر وأكثر،

دخل عليهما الغرفة وهما يتحدثان بهدوء، كانت تشكو له الحنين الذي سيعصف بها أن فارقها ولدها وذهب عنهما بعيدا، وكان زوجها يطمئنها أن لا شيئ من ذلك سيحصل وأنه سيبقى معهما للأبد، وهنا رأى أمه وهي تسند رأسها على صدر أبيه ودموعها تنحدر من مقلتيها كالمطر، في تلك اللحظة خرج من عندهما سريعا ثم ناداهما من الخارج قائلا: أمي العزيزة أين أنت؟

• نحن هنا يا عزيزي.

// الثاني:  ها أنتما يا أعز الوجود وأحبه إليّ، عن ماذا تتحدثان يا ترى؟

• تقول والدتك أنك تريد أن تهجرنا يا عزيزي، فهل هذا صحيح؟

// الثاني: لن أهجركما يا أبي، ولكنني أريد أن أبحث عن شيئ يقلقني ويشغل بالي، وحين أجده سأعود لكما من فوري.
• ولكنك لا تزال صغيرا لكي تسافر وحيدا يا ولدي

// الثاني: ولكنني لن أكون وحيدا، فدعواتكما سترافقني طوال سفري، أليس كذلك يا أمي؟

• بالتأكيد يا عزيزي، بالـتأكيد !!

• وكم ستطول غيبتك يا ولدي؟

// الثاني: سأعود لكما بين الفينة والأخرى فلا تقلقا لذلك أبدا.

• ومتى ستسافر يا عزيزي؟

// الثاني: من فوري.

• من فورك؟ وهل تعرف إلى أين تريد التوجه؟

الثاني :في الحقيقة لا أعرف، ربما سأجد ما أبحث عنه خلف هذا الباب وربما في بلاد أخرى وربما في عوالم أخرى، من يدري؟ ولكنني واثق تمام الثقة من أنني سأجده.

• ستفعل يا بني، وستجده إن شاء الله.

// الثاني: سأجهز حقيبتي إذن ثم سأنطلق بعدها.

• سترافقك دعواتنا يا ولدي.

 ذهب إلى غرفته وعاد بعد قليل بحقيبة بها بعض الملابس والأغراض وودعهما بحرارة وشوق ودموع ثم خرج مبتعدا عنهما حتى توارى عن نظرهما، كان يتحرك بنشاط وهمة مع ابتسامة لم تفارق شفتيه مضى بعض الزمن لم يألو به جهدا في اختبار قواه الجديدة فلم يترك به فرصة إلا واستغلها، فكان يكلم الأحجار والأشجار والثمار وكانت بدورها تكلمه،

زار الشمال من الجنوب والشرق من الغرب بطرفة عين، وكلم الأقوام بلغاتهم وفهم تغريد الطيور وفحيح الثعابين، وحول بمشيئته التراب إلى ذهب والأحجار إلى طيور تطير ، ووقف على القبور وكلم سكانها وأجابوه، وأعاد بعضهم للحياة بعد أن بليت عظامهم وأصبحت كالرميم، وكان يمر على المرضى فيشفيهم من أسقامهم وعللهم بنظرة من عينيه أو بلمسة من كفيه أو بهمسة تخرج من بين شفتيه،

استمر على هذا الحال مدة من الزمن حتى سكن في وجدانه الاطمئنان وحينها وبينما كان يمشي بهدوء ظهر أمامه باب مفتوح فعلم أنه إشارة وأنه مدعو للولوج فيه، تقدم منه بهدوء وولج به ليرى أمامه من كان قد ودّعه قبل مدة.

الدليل : السلام عليكم

// الثاني: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

الدليل : كيف مضت أيامك؟

// الثاني: لا أشك بأنك أعرف مني بها، نعم لقد أطمئن قلبي تمام الأطمئنان.

الدليل :هل تعتقد إذن أنك جاهز لأول مهامك؟

// الثاني: بمعونتكم لن أفشل بتحقيقها

الدليل : ربما وربما العكس أيضا

// الثاني: ماذا تقصد؟

الدليل : أقصد إننا سنكون معك وسنكون ضدك، فسنجتهد في دعوتك لنكران ذاتك وفي نفس الوقت سنجتهد لدعوتك لإثباتها.

// الثاني: وكيف ستقومون بذلك؟

الدليل : عبر وازعان يتنازعانك، وكلاهما منّا طبعا، فأحدهما يدعوك في كل المواقف لإثبات وجودك بينما الآخر لنكرانها، فأما الذي يدعوك لإثباتها فهو ما تعرفه وتسميه بالشيطاني وأما الآخر فهو ما تدعوه بالملآئكي، الشيطاني طريقه إليك من خلال دعوته لك لإشباع وإلذاذ حواسك وغرائزك، وأمّا الملآئكي فعبر تذكيره لك بأنها عوائق متتابعة ومتراكمة في طريقك يجب عليك أن تتجاهلها وأن تحاربها ضمن ضوابط يفصّلها ويحددها لك مسبقا،

وبما أنك تعرف منذ البدء أن طريقك لما تريد هو بنكرانك للذات وبعدم رؤية النفس في جميع المواقف والقرارات التي ستتخذها فيها فلا تصدر منك إلا بما يتناسب مع أرادة سيدنا ومولانا فتكون إرادتك حينها موافقة لإرادته، وستعرف لاحقا أن إرادته هي إتباعك لتلك الضوابط الشرعية والتي سيرسمها ويوضحها ويفصلها لك فيما بعد والتي ستحكم علاقتك مع نفسك ومع غيرك ومع المحيط الذي سيجمعك معهم، 

لقد حددت هدفك بوضوح قبل أن تصل إلى هنا وهو أنك تريد أن تتمتع بقدرات لا يمكنك أن تتصورها فاخترت خوض هذه التجربة معنا في هذا العالم الفريد

وتعلم الآن أنك لتحصل على الكل يجب أن تترك شيئا واحدا فقط، وهو أن تترك نفسك، وبمقدار تركك لها ستقترب من هدفك الذي تريده وهو الحياة التي لا عدم بها أو معها، ويمكنك الأن أن تستنتج أن مقدار تشبثك بنفسك ورؤيتك لها سيأخذك للجهة المعاكسة وهو الموت، فحيث أن تركك لها (نفسك) يقربك من عين الحياة الخالصة، فإن تشبثك بها (نفسك) سيقودك للعدم المحض وللموت،

ومنه فإن الوازع الملائكي إنما هو باب ووسيلة تدخل منه وعبر إتباعه لشهود الحياة المطلقة والتوحّد معها، وأما الوازع الشيطاني فهو بمثابة الباب والوسيلة للفناء أو الموت، وإتباعك للوازع الشيطاني والإنصياع له إنما يقودك للموت الحقيقي وللفناء المحتم، وعليه فجميع اختياراتك لا تنفك عن كونها وضع قدمك على أحد طريقين لا ثالث لهما

وهما : طريق الموت والعدم المحض، وطريق الحياة والوجود الخالص، فعليك أن تنتبه دائما وأبدا حين تختار، فالوازع الشيطاني يريد دائما أن يأخذك إلى حيث النصب والحرمان والعدم المحض، بعيدا عن عين الحياة والوجود الحقيقي الذي تسعى إليه جاهدا وتريد التوحّد معه.

.
حتى هنا 
انتهى هنا القسم الآول من
الحوار بين العقل الكلي والعقل الجزئي
والذي حاولت أن أبين به رؤية كونية تصف
العلاقة بين الخالق والمخلوق استوحيت تفاصيلها
من كلمات أهل بيت العصمة سلام الله عليهم أجمعين
رؤيـة كونية تحــدد لي المعـــبود الحقيقي الذي أسعى لمعرفته
وانتهيت منها إلى ان لا رؤية كونية أو غير كونية تستطيع أن تحدد أو
تصف المعبود الحقيقي الذي امرنا اهل البيت سلام الله عليهم اجمعين أن نعبده
رؤية كونية خلصت منها إلى فهم معنى الوسيلة التي أُمِرنا أن نتخذها وسيلة للمعبود
فهم سلام الله عليهم تلك الوسيلة، وهم أسماء الله العظمى وأسمائــه الحسنى
وهم كلمتـــه التامة التي كــــــــانت في البدء وهم أركانها وحروفها
هم النـــــــــــور الأول وبـنـــورهم أُظــــهر كــــــــل شيئ
وهـــــم الــنــــــور المخـــلوق والعــــبد الــــمرزق
أشهد أنهم كلهم نور مخــلوق وعــــبد مرزوق
شهادة اشهدها بسرور في يوم جزائي
أناْ العبد الجاهل الفقير إليهم
طالب التوحيد
.




هناك تعليقان (2):

  1. شكر الله سعيك ووفقك الله لمايحب ويرضاه واخلص نيتك وعملك للتي هي أزكى
    أخيك في ولاية مولى النور
    مصطفى الساعدي

    ردحذف
  2. اخي وحبيبي الغالي
    احبك بالله
    انت ومن عشت بكنفهم
    لقد جاء كتابك بلسما في زمانه ومكانه
    وسعدت بالعرفان والتوحيد الذي ملئت إناءك به
    فثبتني
    ودلني
    وحدد بوصلتي إلى الله تماما
    بعدما وصلت إلى نفس معاني من بحوث كثيره
    ثبتكم المولى وسيدي
    يسعدني صداقتك واخوتك وتبادل الاحاديث معك
    لقد فاض جمال نور من صدرك فاغرقني
    بمد من نوره علمني
    الكلام فيض في صدري لاينتهي اليك
    لكن وجب عدم الاطاله عليك
    أخيك من جنوب سوريا
    سلام على أهل السلام

    ردحذف