بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلي على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تخيّل حياتك كرحلة في نهر فكيف ستتصورها؟
؟
؟
؟
- نهر وضفتين، وعلى الضفتين سنشاهد مشاهد مختلفة هي جميع
مشاهد حياتنا، حياتنا نحن
* نحن من؟
- نحن الذين نركب القارب ونبحر به وسط النهر منذ أول
وجودنا حتى نهايته
* نهايته؟ وكيف هي نهايته؟
- إركب وسترى كيف ستكون نهايته، لا تستعجل
* أركب؟ سأرى؟
- نعم، إركب وسترى
* ولكن كيف أركب، وماذا أركب؟ ومع من أركب؟ ألا أحتاج دليل
في رحلتي هذه؟ من هو دليلي؟ ومن ..
- قلت لك لا تستعجل إركب وسترى بنفسك؟
* جيد كما تريد؟ سأركب، ولكن ماذا سأركب؟
- لك مطلق الحرية في ذلك، يكفي أن تتصور ما تريد أن تركبه
وسيكون لك ذلك
* كلا سأترك لك التصور وأتولى الإحساس بما ستتصوره لي
- لا مانع عندي، ولكن يجب أن تتحمل جميع تصوراتي حينها،
فبعضها ربما ستكون المشاعر بها مبالغ بها
* ولماذا تقول ربما؟
- لا أعرف، ولكنني سأتصور مشاعر جديدة عليّ كليّا ولم
أختبرها من قبل، وأريدك أنت بعد أن أتصورها لك أن تشعر بها ثم تعود لتنقلها لي
لأعرف نوع طبيعة تلك المشاعر
* حسنا، ولكن ترفق بي لو سمحت
- كما قلت لك، سيكون التصور أحيانا جديد عليّ تماما كما
أنه جديد عليك، ولست متأكد من أنه سيكون جيدا أو غير جيد، فمهمتي هي أن أتصور وأنت
مهمتك هي أن تشعر
* وكيف تقترح أنني سأشعر بما ستتصوره أنت لي ثم أنقله لك
بعد ذلك؟
- حسنا سأتصور لك زورقا يرافقك في هذه الرحلة فتجلس به
طوالها
* أنه لأمر ممل أن أبقى في زورق واحد طوال هذه الرحلة
- لا تقلق، سأزيد لك خلال الرحلة من طوله وعرضه، ومن قوته
وضعفه، وإذا أحببت أن أتصور لك رفيقا بهذه الرحلة سأزيد من مقاعد زورقك بعدد من
سأتصورهم لك، فلا تقلق أبدا، فسأتدبر لك جميع أمورك صغيرها وكبيرها حتى نهاية
الرحلة، ودورك هو فقط أن تنقل لي مشاعرك التي ستشعرها من خلال وجودك في ذلك القارب
لكي أستطعمها وأعرف حقيقتها
* حسنا اتفقنا دعنا نبدء إذن
- حسنا كيف تريدني أن أتصورك؟
* تتصورني؟
- نعم أتصورك، فالمفروض أنني وايّاك سنكون جزئين متممين
لبعضنا البعض، أنا أتصور وأنت تشعر
* حسنا لن أعتدي على اختصاصك من البدء، فبما أننا اتفقنا
على أنك أنت من ستتصور، فهيا تصورني كما تشاء
- مممم، حسنا سأتصورك على شكل فتاة صغيرة وسأتصور قاربك
الذي تركبه قارب صغير وجميل مرسوم عليه عينين وشفتين وشعر جميل ويستطيع أن يتحدث
ويحتك ويخالط جميع ما سأتصوره لك من المشاعر والمناظر
* ألا يمكنك أن تتصورني رجلا؟
- كلا، فأنا أريد أن أشعر بما تشعر به الفتيات، ثم ألم نقل
أنني من سيتصور وانك من سيشعر وأننا لا يجب أن نتدخل بشؤن بعضنا البعض؟
- حسنا، كما تريد، دعنا نبدء إذن
في تلك اللحظة وجدت نفسها تجلس في زورق صغير جدا ومربوط بخيط قوي بزورق كبير
به مقعدين يجلس به رجل وأمرأة وهما يجدفان بكل قوتهما
بدورها كانت تجلس بذلك الزورق الصغير تراقبهما متعجبة وهي تسمع صوتهما
يتنهدان من التعب أثر التجديف القوي
* ألا يفترض أن تكون الرحلة في النهر سهلة؟ فما بالهما
متعبان إذن؟ والمفروض أن تكون الرحلة في النهر مسلية ولكنني لا أرى علامات الرضى
على وجهيهما، فلماذا؟
حسنا سأنظر من حولي لعلي أفهم سبب إرتهاقهما،
رفعت رأسها قليلا لتنظر من حولها، يا إلهي إنها آلاف الزوارق من حولنا
وجميعها تجدف بقوة، بعضها بمقعد وبعضها بمقعدين وبعضها تسحب من خلفها زورق صغير أو
اثنين
تفحصت وجوه الزوارق، يا إلهي كم هي متعبة تلك الزوارق، آه، لقد كنت أحسب أن
الرحلة في النهر ستكون سهلة وممتعة، ولكن يبدو لي الآن أنها ليست كذلك، ولكن لماذا
هم متعبون هكذا؟
نظرت لليمين ثم لليسار ثم للأمام والخلف، ثم أعادت دورة النظر هذه مرات
ومرات غير مصدقة لما تراه
* إنهم جميعا يجدفون عكس التيار
أرادت أن تنادي أباها ولكنها تفاجئت أن القارب هو الذي تكلم مناديا إيّاه:
* بابا، بابا
القارب الكبير يحدثها:
- ماذا تريدين يا بنتي العزيزة؟
((هنا أدركت أن دورها هو فقط الإحساس بما سيقوم هذا الزورق الذي هي
ساكنة به في جميع تحركاته فالمتصور يتصور والزورق يتلقى تلك التصورات وهي ستشعر
بما سيصلها من المشاعر من خلال ارتباطها الفيزيائي بالقارب))
حينها رفعت رأسها تخاطب المتصور،* أنت تتصور، والقارب
يستلم تلك التصورات وأنا أشعر من خلال ارتباطي بأجزاء وأعضاء الزورق بمختلف
الأحاسيس والمشاعر، أليس كذلك؟
- نعم، نعم، ولكن استمري بالشعور فلقد بدأت أستمتع بالحركة
وفيض المشاعر الواصلة منك إليّ.
* بابا، بابا، لماذا تجدفون عكس التيار؟
- وماذا تفهمين أنت يا صغيرتي من النهر لتسألي هذا السؤال؟
* بابا، بابا، التجديف مع التيار سيكون أسهل بكثير، ألا
ترى ذلك؟
- يا بنتي عندما تكبرين ستفهمين النهر ومشاكل ومتاعب النهر
* بابا، بابا، جدف مع التيار، صدقني بابا، جدف مع التيار
وسترتاح
- أصمتي يا طفلة، ألا ترين تلك الآلآف من القوارب وكلها
تجدف بنفس اتجاهنا، هل تعتقدين أنهما جميعهم مخطئون
* بابا، بابا، لا أعرف، ولكنني متأكدة أن التجديف مع
التيار أسهل بكثير
- يتنهد من أثر التجديف هـ هـ هـ، حسنا حسنا، إنتظري قليلا
حتى تكبري لتعرفي حينها فقط معنى التجديف في النهر وكم هو متعب، ولكن حتى ذلك
الحين سأهتم أنا وأمك بالتجديف وما عليك الا بالإستمتاع بما ترينه، ويستمر
بالتجديف هـ هـ هـ
* إذن، كما تريد يا بابا، سأستمتع بمشاهدة ضفتي النهر
ومشاهدهما الجميلة، ولكن أرجوك أن ترخي لي الحبل قليلا لآن أصوات تنهدكما وأنتما
تجدفان تزعجني
حينها أرخى الزورق الكبير
الحبل قليلا فابتعدت عنهما مسافة كانت كافية لاختفاء اصواتهما المتعَبة والمزعِجة
عنها مما أتاح لها الإستمتاع بالمناظر الجميلة من حولها وكذلك بالتحدث واللعب مع
الزوارق الصغيرة الكثيرة من حولها والتي تسحبها الزوارق الكبيرة بكل حرص
مضت الأيام والزورق الصغيرة تتمتع بالمشاهد التي كانت تراها على ضفتي النهر،
كانت تلعب مع زميلاتها الزوارق الصغيرة غير عابئة بالزورق الكبير الذي كانت أجزائه
بدأت تتآكل وتتصدع سريعا من جراء تجديفه عكس التيار
مضت الآيام سريعا حتى جاء ذلك اليوم الذي خاطبها به الزورق الكبير قائلا:
- لقد كبرت يا زورقتي الصغيرة وأعتقد أنني أستطيع أن أفك
رباطك بعد أيام قلائل
* ماذا تقصد؟
- أقصد أنك ابتداءا من الغد ستتعلمين أن تجدفي لوحدك في
النهر
* ولكنني لا أريد التجديف عكس التيار بابا
- لا تقلقي عزيزتي ستعتادين ذلك سريع
* ولكنني لا أريد ذلك
- الأمر مفروغ منه عزيزتي، وابتداء من الغد ستجدفين لوحدك
بجانبي وسأراقبك حينها وسأعلمك كيف يمكنك أن تتغلبي على مصاعب الطريق ومشاقه، وبعد
أيام قليلة سأحررك من الحبل الذي يربطك بي
* ولكنني لا أريد التجديف يا أبي
بصوت حازم وشديد قال لها:
- هيا هيا لكي تنامي قليلا فغدا هو أول أيام حياتك الحقيقية، فلقد كبرت وأصبحت يافعة قوية وتستطيعين مساعدة نفسك ومساعدتي وأمك كذلك
- هيا هيا لكي تنامي قليلا فغدا هو أول أيام حياتك الحقيقية، فلقد كبرت وأصبحت يافعة قوية وتستطيعين مساعدة نفسك ومساعدتي وأمك كذلك
* ولكن ماذا يوجد هناك حيث تجدفون عكس التيار يا أبي؟
لماذا تتعبون أنفسكم بالتجديف عكس التيار؟
- يا زورقتي الصغيرة، لقد خُلقنا لكي نتعب، ونكد، ونعيل
أنفسنا ولكي نصل الى أعلى النهر الذي جئنا منه، نعم يا زورقتي الصغيرة، مكتوب
علينا أن نعود إلى مصدرنا، ومصدرنا هو هناك، فوق، في أعلى النهر، ثم إن التجديف مع
التيار سيقودنا لمنحدرات قوية وشلالات خطيرة لا طاقة لنا بها، فمن الأسلم لنا أن
نتجه للأعلى
* وما أدراك يا أبي أن في الطريق نحو الأعلى لا توجد مصاعب
ومنحدرات وشلالات خطيرة، وربما ستكون أخطر من تلك التي ستواجهونها مع التيار
- يا زورقتي الصغيرة، إن التجديف مع التيار هو طريق الكسالى
وطريق من لا طموح لهم في هذا النهر، إنه طريق الإتكاليين وعديمين الطموح
ألم ترينهم كيف يغلقون أعينهم ويستلقون على سطح النهر بكل كسل، إنهم عديمين
الإحساس بالمسؤولية، إنهم فئة منبوذة من مجتمع الزوارق ونحن لا نخالطهم أبدا
* لكنني لم أرى أحدا منهم حتى الآن يا أبي
- نعم بالتأكيد، فلقد كنت مشغولة باللعب واللهو
والإستمتاع، فلم تلاحظي هؤلاء المسوخ الزورقية وهي تمر نائمة من بيننا، ولكن لا
تقلقي، ستشاهدينهم غدا، وسترين كيف أننا سنمر من عليهم سريعا ونتركهم خلفنا نائمين
غافلين عن هذا النهر العظيم وخيراته ومشاهد ضفافه الجميلة وعن الهدف الحقيقي من
وجودهم به غافلين عن انهم ذاهبين إلى حتفهم
وبصوت أجش زاجر قال لها: هيا، إذهبي الآن للنوم ولا أريد أن أسمع منك كلمة
أخرى، هيا، هيا
بصمت توجهت نحو ضفة النهر واتكأت عليها ووضعت رأسها على الرمل الرطب البارد
واستغرقت بالتفكير بما سيكون عليه الحال في الغد، فكرت وفكرت وفكرت حتى استغرقت في
النوم
المتصوّر لا زال يتصوّر للمستشعر جميع ما يراه ويعيشه ويحس به، ولكنّ
المستشعر من فرط استغراقه في اللعب واللهو نسي أنه لا يزال مرتبطا بجزئه المتصور،
بل ونسي كذلك حتى وجوده وأنه يمكنه مخاطبته والتنسيق معه في تفاصيل هذه الرحلة
النهرية
أما المتصور فلقد ارتاح لهذا الوضع، فنسيان جزئه المستشعر له ولوجوده وللعقد
المبرم بينهما قد جعله في حلّ من الرفق به، وسيمكنه بذلك أن يتصوره في مختلف
الأوضاع وفي شتى المواقف التي قد يرغب بالإحساس بها وبدون أن يتوقع منه أي معارضة
أو تلكّئ أو ممانعة
لا بأس سأبقيه غافل بعض الوقت لأستشعر مشاعره وهو يسير عكس التيار وكيف أنه
سيرى ويقيم رحلة النهر حينها، فحتى الأن أنا أسمع بقية الزوارق تتحدث عن تلك
المشاعر وبدوري أنقل لجزئي المستشعر تصوراتي لهم ولمشاعرهم، ولكنني لم أعرف بعد
وحتى هذه اللحظة حقيقة تلك المشاعر التي يشعرون بها في هذه الرحلة،
نعم لا يزال علمي بتلك المشاعر هو علم حصولي، فأنا أنقل له تلك المشاعر
وأصورها له في عالمه على وجوه تلك الزوارق من حوله وبدون أن أعرف حقيقتها، ولكي أشعر
بها يجب أن يستشعرها جزئي المستشعر أولا لكي يصبح علمي حينها فقط بتلك المشاعر علم
حضوري حقيقي
نعم سأتركه يعيش الرحلة
عكس التيار قليلا قبل أن أذكره بي وبالعقد الذي بيننا وسأقوده وأرتب له الوضع الذي
سيجعله يجدف مع التيار لكي أعرف حينها حقيقة المشاعر التي يستشعرها الذين يسيرون
مع التيار لا ضده
على غير رغبتها أشرقت الشمس سريعا بالنسبة للزورقة اليافعة ((لم تعد صغيرة)
في هذا اليوم حيث استيقضت على صوت أمّها الرقيق يخاطبها
! استيقضي عزيزتي، إستيقضي، فلقد أشرقت الشمس على أول أيام بلوغك
عزيزتي
* صباح الخير يا أمي العزيزة
! صباح الخير يا جميلتي
* لم أستطع النوم البارحة يا أمي
! ولماذا يا عزيزتي؟ فالمفروض أن تكوني كأقرانك فرحة لقدوم هذا اليوم
الذي ستتحررين به أخيرا من القيود التي تربطك بنا، فقريبا جدا ستنالين حريتك
أخيرا، ألاا تودين ذلك عزيزتي؟
* بلى، بل أود ذلك كثيرا، ولكنني فقط لا أرغب بالسير عكس
التيار يا أمي، إنني أجد ذلك مرهقا وبلا فائدة ترجى
! حبيبتي!!!!!!!! ألا زلتي تتذكرين هذه الكلمات؟ لقد قلتيها لنا في أول
يوم لولادتك!!!! فمن أين جئت بها؟
* لم أعد أذكر يا أمي، ولكنني لا زلت أشعر منذ أن وعيت على
نفسي أننا لو جدفنا مع التيار سنرتاح أكثر في رحلتنا في النهر، فأنت وأبي تجدفان
طوال النهار من دون توقف ولا يوجد عندكما بسبب ذلك أدنى وقت للإستمتاع برحلتكما
هذه في النهر، وذلك رغم جمال النهر وضفافه وجمال الأشجار والطبيعة من حولنا
فأنتِ طوال النهار تجدفين وتحدقين في النهر من أمامك، وأبي كذلك مشغول
بالتجديف الشاق والبحث عن أفضل المسارات في النهر بحيث أنه لا يمكنه الإستمتاع
بالمناظر من حوله ولو لدقيقة واحدة فربما يصطدم حينها بخشبة طافية في النهر فتتسبب
لكما بالألم الكبير لمدة طويلة
! كم هي متشائمة يا بنتي العزيزة نظرتك هذه للنهر ولرحلتنا فيه، فعن
نفسي ءُأكد لك عزيزتي أنني أستمتع به وبها بشكل كبير، خصوصا حين أشاهدك تنمين
وتكبرينن أمامي يوما بعد يوم، فأنت هو أملي وحلمي الكبير الذي أراه يكبر ويتحول كل
يوم الى حقيقة جميلة
* ولكنك تستطيعين الحصول كذلك على كل ذلك يا أمي حين
تجدفين مع التيار، بل وستستمتعين بكل لحظة به وبكل ما ستحصلين عليه كذلك
! هيا هيا عزيزتي استعدي واتركي عنك هذا اللغو وهذه الأعذار الواهية،
فتيار النهر لا يرحم من يتهاون به ولا يأخذه على محمل الجد
من الخلف جاء صوت الأب الذي سبقته رشات ماء بارد غمرتهما سوية فحسم به
النقاش وأنهى به الكلام
- يبدو أن زورقتي الصغيرة لديها ميول فلسفية، أتركي عنك
الفلسفة والفلفسة، فهما لا يسمنان ولا يغنيان من جوع، هيا هيا هيا هيا هيا، قال
تلك الكلمات مع رشات سريعة من الماء البارد غمرهما سوية بها
دقائق معدودة بدأت بعدها رحلتهم في النهر،
هذه المرة قام الأب بشد الحبل كثيرا حتى أصبحت الزورقة تحت مرمى طرف مجدافه
- هيا جدفي، جدفي أقوى، يجب أن تراقبي سطح الماء جيدا
فعليه يوجد ألد أعدائك، أخشاب وأشجار وزجاجات وعلب وأوراق طافية هنا وهناك، فان
اصطدمت بها ستسبب لك ألم كبير، بل وربما ستُعطبك نهائيا كذلك،
فراقبي النهر جيدا بل وفي كل لحظة كذلك، فغير تلك الأشجار والمواد الطافية
عليه يوجد كذلك تلك الزوارق الطفيلية المنبوذة من طرفنا، سواء المتوقفة منها أو
النائمة في وسطه، فمن سرعتنا قد نصطدم بها ان سهونا لمجرد لحظات عن الطريق
لا تنسي أن تبحثي عن رزقك، سمكة من هنا وسمكة من هناك، كلّ ذلك وأنت تجدفين
طبعا، فلا يجب أن تتوقفي نهائيا عن التجديف الى حين أن نرتاح في الليل على ضفة
النهر، وهناك فقط سيمكنك أن تتوقفي عن التجديف، وإلا فسيجرفك تيار النهر الى غياهب
الظلمات الشديدة، حيث العذاب والحرمان والخسران
فلقد قال لي أبي مرة حكاية سمعها عن ابيه عن جده عن جد جده أن نهاية هذا
النهر هي في وادي ملتهب وعميق جدا جدا جدا لا تُبقي نيرانه شيئا قط فيه ولا تذر،
وأن النهر يحاول منذ الأزل أن يطفئ نيران هذا الوادي الملتهب ولكنه لم يستطع ذلك
حتى الآن، بل وان الوادي لا يزال كل صباح يصيح هل من مزيد
الزورقة سألت أبيها وهي تتنهد من التجديف القوي وعيناها لا تزالان متركزتان
على سطح الماء وبدون حتى أن ترمشان خوفا من أن ترتطم بتلك المواد الشريرة الطافية
عليه
* وما أدراك هـ هـ هـ يا أبي هـ هـ هـ أن نيران ذلك الوادي
لم تنطفئ وأنها لا تزال متقدة؟ هـ هـ هـ
- هـ هـ هـ ألم تسمعيني أقول لك أنه وادي عميق جدا جدا جدا
هـ هـ هـ وأن نيرانه عظيمة هـ هـ جدا جدا هـ هـ هـ جدا
* ولكن هذا النهر كذلك عظيم جدا جدا جدا، هـ هـ هـ ولا بد
أن يأتي ذلك اليوم الذي هـ هـ هـ سيطفئ النهر به نيران ذلك الوادي الملتهب، والا
فما الحكمة من أن يخلق الله هذا النهر لكي يطفئ به نيران ذلك الوادي الملتهب إن
كان ذلك هذا النهر الذي خلقه لكي يطفئها به لا يستطيع أصلا أن يطفئها؟
الأب ليس عنده جواب على سؤال الزورقة
- لقد
قلت لك أتركي عنك الفلسفة والفلفسة هـ هـ هـ وأن لا تتعبيني بها، هيا هـ هـ هـ
جدفي، جدفي أقوى، وفجئة وبطرف مجدافه ضربها على مؤخرتها ضربة موجعة وهو يقول لها
هيا هـ هـ هـ لا تتأخري عنّي مقدار ذراع واحد هـ هـ هـ ولا تحاولي أن تتكاسلي
فتجعليني أسحبك بالحبل المربوط بيننا، هياااااااااا جدفييييييييييييي
لقد أنهت تلك الضربة القوية الكلام من بدايته،
لماذا لا يفكرون بكلماتي لهم؟ هل لأنني صغيرة؟ أم ربما هم فعلا على حق؟ هـ
هـ هـ ربما هم فعلا على حق وأنا المتوهمة هنا، ربما فعلا أن التجديف مع التيار
سيقودني للوادي المحترق، ربما فعلا أن نجاتي وخلاصي من تلك النيران المستعرة هي
بالتجديف عكس التيار،هـ هـ هـ هـ هـ هـ
تفكر وتفكر وتفكر فسرحت بخيالها للحظات ففترت مجاديفها قليلا عن التجديف
لتتفاجئ بضربة ثانية قوية وقعت على ظهرها من مجداف أبيها رافقتها صيحة قوية
- قلت لك تابعي التجديف ولا تسرحييييي، فنحن في خضمّ النهر
العظيم، وأنت لا تريدين أن تموتي بسبب سرحانك هذا، إنتبهي كي لا تتحطمي، أنتبهي كي
لا تموتي، أنتبهي لي وتعلمي مني ومن والدتك كيف سيمكنك أن تكسبي رزقك وتجمعيه وأنت
تجدفين،
وما ان أنهى تلك الكلمات حتى أتبعها بضربة أخرى صائحا بها:
- قلت لك جدفي، أريد أن أراك دائما أمامي، أمام عيني، لا
أريد أن أراك بجانبي أبدا، تعلمي كيف تنظمين حركة جدفاتك وتواقيتها لتكسبي منها
أكبر قوة للإندفاع بعيدا وسريعا عن الوادي الملتهب نيرانا، لن أصبر عليك طويلا قبل
أن أفك قيدك وأحررك منه وأريدك جاهزة لذلك اليوم سريعا، فقد تعبت من سحبك أيتها
الكسولة المتفسلفة
الألم الناتج من تلك الضربات الثلاثة أصبح يلازمها في كل لحظة من يومها هذا
ومن باقي أيامها الاحقة كذلك، فلم تعد تفكر، ولم تعد تسرح، ولم تعد تتخيل، ولم تعد
تتمنى، ولم تعد بعد تلك الضربات الثلاثة كما كانت من قبلها أبدا
لم يمضي عليها سوى أيام قلائل حتى أصبحت بعدها محترفة بالتجديف، وانتفخت
واستطالت عضلات صدرها ومجاديفها، تجدف بقوة وعيناها مركزة على سطح الماء، تبحث عن
أعدائها الألداء الطافين فوقه، ولم تكتفي بتجنبهم فقط، بل كانت كلما مرت على أحدهم
تضربه بمجدافها ضربة قوية، خصوصا تلك الزوارق الكسالى من الطفيلين والغافلين ممن
ينامون وسط النهر غير عابئين بسلامة من يجدفون بوسطه
فكانت متعتها في أن تفاجئهم وهم نيام فتبرحهم بضربات سريعة كلما مرت من
جانبهم وتجدف بعد ذلك بعيدا عنهم وتتركهم وقد انقلبوا رأسا على عقب غرقى يتخبطون
وسط الماء،
وكانت تضحك كلما فعلت ذلك، وتضحك وتضحك وتضحك،
ههههههه كم هو جميل وممتع هذا الإبحار بهذا النهر
هكذا كانت تردد بنفسها بعد كل مرة كانت تضرب بها أحدهم فتضحك وتُضحك عليه
بقية الزوارق أيضا
إن ألم تلك الضربات الموجعة الثلاثة قد جعلها تجتهد وتجتهد بالتجديف حتى
أصبحت الأسرع من بين جميع الزوارق، والأخف حركة منها، ولكنها قتلت الخيال الخصب
الذي كان فيها وقتلت الحكمة التي كانت بوادرها قد ظهرت منها في طفولتها، وخلقت
منها زورق عديم الإحساس إلا بعضلاته وقوته وتفوقه
وكلما كانت الأيام تمر عليها كانت تنسى جزئها العلوي المتصور أكثر وأكثر،
وتنسى كذلك دورها كجزئ حساس مدرك أكثر وأكثر، حتى لم يبقى في الشعور ولا الوجود
إلا جزئها المتلقي لتصورات جزئها المتصور الذي أسعده تلقي فيض المشاعر الفيّاضة
المستمرة بلا انقطاع من جزئه الأول الحيّ الحساس القابع في الوسط بينه وبين جزئه
الثاني المتلقي
واستمرت الأيام واستمرت الأحداث متتابعة ومتكررة بلا مشاعر جديدة، فقرر
المتصور أن يأتي بأحداث وتصورات جديدة
في يوم من الأيام كانت الزورقة تتصدر باقي الزوارق ضمن مجموعتها بقوتها
ورشاقتها ونشاطها، فلاحظت من بعيد زورق يقف على جانب النهر ويشير لهم بالتوجه نحو
الضفة، فتأنت قليلا حتى اقتربت منه أكثر لتشاهد قربه مجموعة كبيرة جدا من الزوارق
تقف على الضفة وكأنها تنتظر شيء ما أو كأنها تخاف التقدم للأمام لسبب ما
أسرعت خائفة لأبيها تخبره بالحال وتستشيره ما العمل
الأب بدوره ابتسم وقال لها لا تخافي ودعينا نذهب إليهم، وبدورها أسرعت
للمقدمة مرة أخرى وبدأت تقود المجموعة نحو ضفة النهر قريبا من تلك الزوارق المصطفة
عليها بجانب بعضها البعض
كبير الزوارق اقترب منهم محييا لهم، ثم بدأ يشرح لهم سبب هذا التوقف
@ إننا نواجه جبل مائي مرتفع جدا ولن نستطيع فرادى أن نتسلقه
ونعبره
* وما العمل إذن؟
@ يبدو أنك يافعة وجديدة على قيادة هذه المجموعة
* نعم إنني كذلك
@ لا بأس سأشرح لكِ ما الذي ننوي فعله وهذا بالطبع بعد الإذن من
كبرائكم هنا
الأب يجيبه بأدب:
- تفضل، لا شك أنكم
تعرفون الوضع أكثر منا وذلك كونكم وصلتم هنا قبلنا
@ بالفعل، فنحن هنا منذ ما يقرب عشرة أيام، ولقد كنا أول
الواصلين للبقعة التي تتقدمنا مسافة ميل بحري، حيث أننا وجدنا هناك ذلك المرتفع
الذي أخبرتكم عنه قبل قليل
وحسب خبرتي في مثل هذه المواقف أعتقد أننا سنحتاج إلى أكثر من خمسة آلآف
قارب حتى نستطيع أن نتجاوز هذا الجبل المائي الضخم
الأب يسأل:
- وكم يوجد هنا حتى هذه اللحظة؟
@ أعتقد أن العدد قد تجاوز الثلاثة آلآف حتى الآن، وربما سيكتمل
العدد المطلوب بعد ثلاثة أو أربعة أيام، وحتى ذلك الحين إستريحوا والتقطوا أنفاسكم
واستجمعوا قواكم
أترككم بسلام حتى ذلك الحين
قال تلك الكلمات ثم استدار وتركهم ينظرون لبعضهم البعض
الزورقة لم تفهم ما القصة وعن ماذا تحدث كبير الزوارق، وما هو لزوم جمع أكثر
من خمسة آلآف زورق، وكيف سيعملون جماعيا على تسلق ذلك الجبل المائي الضخم
الأب انتبه لحيرتها فقال لها
- تعالي يا صغيرتي أشرح لك ماذا سيجري وكيف سيجري
* نعم يا أبي أتوق لمعرفة ما الذي يجري وكيف سيجري فالأمر
مبهم لي
- سننتظر يا زورقتي حتى يكتمل عددنا خمسة آلآف وأكثر ثم
نقوم بالإلتحام ببعضنا البعض مشكلين من التحامنا هذا ما يشبه حبل صلب وطويل جدا
جدا، وحين نفعل ذلك نبدء بالتجديف سوية وبوقع منتظم متوجهين نحو الجبل المائي،
الذين في المقدمة وفي خضم تيار الماء الدافع لهم من الأمام للخلف سيستفيدون
من فائض قوة الدفع الناتجة من دفع الآلف الخمسة من خلفهم، فهم حينها لا يصعدون
بمجهودهم فقط، ولكن بفضل مجهود ودفع المجموعة الكبيرة التي خلفهم
فمن هم بالمقدمة سيكتسبون قوة خمسة آلآف قوة إضافية تدفعهم من الخلف ستجعل
من عملية صعودهم على قمة ذلك الجبل المائي وتجاوزه سهلة يسيرة
وهكذا سيتقدمون صعودا زورقا بعد آخر وحين يبلغون للسطح المنبسط حيث التيار
السهل الهادئ بالأعلى سيقومون بدورهم بسحب من هم بالوسط والذين سيدفعهم وبنفس
الوقت من هم خلفهم كذلك
حتى إذا أصبحت أكثرية تلك
الآلآف المتحدة والملتحمة من الزوارق في المقدمة ستقوم بدورها بسحب البقية الباقية
في الخلف بكل سهولة، وهكذا ستتجاوز جميع تلك الزوارق هذا الجبل المائي الضخم وذلك
التيار المائي القوي الجارف بفضل اتحادها وتكاتفها وعملها من أجل بعضها البعض
لقد انتهت الرحلة اليوم مبكرا بالنسبة للجميع حيث أنهم دخلوا في حالة
الإنتظار والترقب لما سيحدث قريبا واصطفوا بكل هدوء وسكينة على ضفتي النهر
يستجمعون قواهم وينتظرون اليوم الموعود وإشارة البداية
إلا الزورقة اليافعة، فلقد كانت تشعر بالنشاط والقوة يملأن كيانها وأنها
تحتاج بدل الراحة الى الحركة والنشاط، فلم تخلد الى الضفة للراحة واستمرت بالتجديف
ذهابا وإيابا في المكان حتى خطر في بالها أخيرا أن تتقدم إلى حيث بداية ذلك الجبل
المائي الذي يتكلمون عنه
لقد أرادت أن تراه من قريب، فإنها أول مرة تقترب من تلك التجربة ومن ذلك
الشيء الذي تعرفه جميع الزوارق الكبيرة،
نعم سأتقدم للأمام قليلا حتى أقترب منه، هكذا قالت في نفسها ولكنها قررت أن
تخبر أباها بنيتها قبل أن تتقدم للأمام، أسرعت من حينها وأخبرت أبيها بنيتها
للتقدم حتى مشارف الجبل المائي والتيار الهابط القوي
في البداية حاول أن يمنعها ولكن تحت إصرارها أولا وثقته بقدرته وقوتها وافق
أخيرا بعد أن أكدّ عليها مرارا وتكرارا بالتزام الحيطة والحذر خلال تقدمها نحو
الجبل
بدأت من فورها بالتجديف للأمام وروح المغامرة تملأها وشغف أنتظار المجهول
يثيرها، وفي عقلها كانت تدور أفكار جديدة حول مغامرة جيدة، ومشاعر جديدة بالكامل
عليها ولم تختبرها من قبل
((جزئها المتصور يبتسم حين خطر ببالها ذلك الأمر))
العمل الجماعي والروح الجماعية والقوة في الاتحاد والكل للواحد والواحد
للكل، قريبا ستدرك كل تلك المعاني وستتذوقها مع كل ما سيتخللها من مشاعر، وستتحد
معها حضوريا وسيمكنها في ما بعد أن تتذكرها في كل لحظة من لحظات حياتها مع جميع
صور ذكرياتها
كانت قد قطعت أكثر من نصف المسافة حين لاحظت أن تيار الماء أصبح أقوى مما
كان عليه قبل قليل، فلقد بدأت تبذل مجهودا أكبر مع كل جدفة كانت تجدفها، ولكن ذلك
لم يثبط من عزيمتها فاستمرت بالتجديف بعزيمة حديدية للبلوغ حيث تريد
وفيما كانت مُجدة بالتجديف رأت من أمامها زورق نصفه في الماء ونصفه الآخر
فوقه، فأسرعت نحوه تريد إنقاذه، حين وصلت له أمسكته وصارت تسحبه بقوة نحو الضفة
القريبة منهما، وحين وصلت لها وأرادت أن تخرج نصفه الغارق من تحت سطح الماء تفاجئت
مما رأته
فنصفه الغارق كان قد ذاب في الماء وأطرافه الباقية مستمرةبالذوبان بدورها
وتتحول سريعا إلى قطرات ماء تتساقط مسرعة وتختلط بماء النهر، فالتفتت حينها مرتعبة
نحو القارب فوجدته ينظر إليها مبتسما، وبادرها القول بهدوء وسكينة:
منه خلقناكم وإليه نعيدكم ومنه نخرجكم تارة أخرى
وبصوت خائف مرتجف ومرتعب قالت له: هل هذا هو الموت؟ هل أنت في طريقك للموت؟
هل ستموت؟
مرة أخرى ارتسمت إبتسامة خفيفة على شفتيه لتسبق كلماته الأخيرة:
لا تخافي ولا ترتعبي أيتها الجميلة، فالماء هو الحياة يا عزيزتي، ولقد
خُـلقنا أحياءا من الحياة، وللحياة سنعود جميعا، ومنها سنرجع أحياءا تارة أخرى
أطرافه بدأت تتسارع وتيرة ذوبانها بين يديها وهي تنظر إليه والرعب يملأها،
لحظات صمت طويلة سادت الموقف حينها رافقتها هطول دموع غزيرة على سطح الماء، أخيرا
وقبل أن تقترب أطرافه الذائبة من شفتيه قال لها بصوت حنون: أُوصيك بأن تجدفي مع
التيار لا ضده، فحينها سترين ما هو أجمل منك أيتها الجميلة
وما لبث أن قال تلك الكلمات حتى تحولت بقيته إلى شلال صغير من الماء الذي
تساقط من بين أصابعها ليختلط بماء النهر ويجري معه الى المجهول،
أمّا الزورقة اليافعة
فكانت تراقب تلك القطرات وهي تنساب من بين أصابعها وهي مذهولة مرتعبة، وراحت تردد
من غير شعور تلك الكلمات القليلة التي سمعتها منه
منه خلقناكم وإليه نعيدكم ومنه نخرجكم تارة أخرى
منه خلقناكم وإليه نعيدكم ومنه نخرجكم تارة أخرى
منه خلقناكم وإليه نعيدكم ومنه نخرجكم تارة أخرى
مرت عليها تلك الدقائق التي قضتها تلتقط بها أنفاسها من هول ذلك الموقف الذي مرت به للتو وكانها ساعات طويلة طويلة، بعدها قررت أن ترجع إلى حيث الجميع، ولكن بعد تفكير بسيط قررت أنها يجب أن تستمر بالتقدم قدر استطاعتها لكي تستطيع أن تكون نظرة مجملة عما سينتظرها هناك بعد أيام قليلة
إستمرت بالتقدم أكثر وأكثر وزاد معه مجهودها أكثر وأكثر وإصرارها أكثر وأكثر، فإن معركتها القريبة ليست مع الماء وليست مع النهر وليست مع التيار ولكنّها مع الموت، فلقد شعرت أنها تريد أن تقهر الموت، لقد خافت من الموت بشدة بحيث أنها أرادت وقررت أن تقهر الموت بقوتها
تقدمت أكثر وأكثر، وصارعت التيار أكثر وأكثر، تقدمت وتقدمت
جدفت وجدفت حتى بدأت تسمع صوت المياه الهادرة من قريب،
لا يمكنني التقدم أكثر من ذلك، ثم أن النهر هنا بدء يتلوى ويتعرج أكثر وأكثر ولا أعرف ما الذي ينتظرني بعد هذا المنحنى الذي أقف به حاليا
حسنا سأقف هنا قليلا لأراقب الوضع وأقـيّمه بشكل صحيح
دقائق وقفت بها على ضفة النهر تراقب تيار الماء الهادر الذي تبدل لونه إلى الأبيض اثر هيجانه، دقائق مرت عليها طويلة وهي تفكر كيف سيمكنهم تجاوز تلك المنحنيات وكم سيموت منهم قبل أن يصلوا إلى القمة
وفي خضمّ أفكارها تلك سمعت أصوات صرخات وضحكات وكلمات هائجة تأتي من خلف المنحنى
ووااااااااااووو، هياااااا، سأسبقك، أحذر الصخور، وااااااااااو، هههههههه،
في تلك اللحظة ظهر من خلف المنحى القريب قارب يافع منفرد يصارع الأمواج بكل همة ونشاط وحيوية وهو يقهقه عاليا ويطلق صيحات نشوة غامرة وهو يحاول أن يبتعد عن الصخور حيث تقف الزورقة اليافعة،
في خضم محاولاته تلك وقعت عيناه في عينيها فتعلق بها وانشغل بالنظر لها عن التجديف، فدفعه التيار حينها بقوة نحوها ولكنه لم يأبه بذلك واستمر يتأملها وكأنه كان يخشى أن يفقد جمال تلك اللحظات
لحظات معدودة شُلُـت أطرافه بها عن الحركة إثر سحر تلك النظرات بينهما فكانت كافية لأن يدفعه التيار بقوة حيث كانت تقف تنظر إليه ليرتطم بالصخرة القريبة منها إرتطامة مدوية
ولكن ورغم قوة الإرتطام فإنه لم يحرك ساكن ولم يقطع حبل النظر الذي ربط عينيهما، ورغم أن تيار الماء أخذ يحركه بشكل دائري عنيف إلا أنه لم يأبه لذلك واستمر ينظر إليها كيفما دارت به الأمواج والحركات، واستمر ينظر إليها حتى اختفى أخيرا من أمامها عند ذلك المنحنى البعيد
لحظات أخرى مرت قبل أن تتبعه عدة زوارق أخرى كانت كلها تطلق نفس صيحات الفرح والنشوة والمغامرة، ولكنها ورغم وقوفها بنفس المكان لم يلحظها أي من تلك الزوارق الأخرى التي مرت من بعده،
لحظات هادئة مرت عليها قررت الزورقة اليافعة بعدها البدء برحلة العودة
بهدوء تركت مكانها وبدأت رحلة العودة، وهذه المرة لم تستغرق طويلا حتى اجتازت بسهولة مرحلة التيار القوي والمنحنيات لتصل بعدها هناك حيث النهر العريض والتيار الهادئ، ولتجد ذلك الزورق المغامر يقف في وسطه وكأنه كان ينتظر قدومها
في تلك اللحظة التي رأته فيها من بعيد توقفت عن التجديف ورفعت رأسها ونفخت
صدرها وتكتفت وكأنها كانت تنتظر منه أن يؤنبها لوقوفها في تلك الزواية وتسببها
باصطدامه بالصخور
تركت التجديف واستعدت نفسيا للعراك معه إن هو بدئه، طافية على سطح الماء
بدأت تتقدم نحوه بكل هدوء، وكلما اقتربت منه زادت نظراتها حدة وتحديا، وحين تعلقت
نظراته بنظراته لم ترد أن تخسر معركة تحدي العيون ولم تنتبه حينها أن التيار ساقها
نحوه حتى أوصلها أمامه تماما
تفاجئت بالاصطدام به صدمة خفيفة وذلك حين أصبحت أمامه مباشرة، لقد وجدت
نفسها أمامه وجها لوجه بحيث أنها شعرت بأنفاسه تختلط بأنفاسها الثائرة المتحفزة
للقتال والعراك،
حينها كانت تبحث في نظراته عن آثار الشر والإنتقام والغضب، ولكنها لم تجد
أيّ منها، ووجدت مكانها نظرات لم تستطع أن تفهم معناها، نظرات لم تصادفها حتى الآن
ولم تخبُر من قبل معانيها، إنها ليست نظرات غضب أو مكر أو طمع، إنها ليست نظرات
خوف أو رجاء أو هلع، إنها شيء جديد، ظاهرها لا يوحي بالخطر، وباطنها سر مستتر
لم تعرف حينها كيف يجب عليها أن تتصرف، فلقد استعدت للقتال وليس لأي موقف
آخر، خصوصا هذا الموقف الذي لم تعرف معناه، لقد مرت لحظات حتى الآن عليهما وهما
متواجهان وجها لوجه وأنفاسه الهادئة تتقاطع بها مع أنفاسها الهائجة،
((جزئها المتصور أعجبته تلك الحيرة التي وقعت بها الزورقة، وأعجبه فيض
تلك المشاعر الحائرة التي بدأت تنساب منها إليه فقرر أن يزيد من سحر اللحظة))
الماء بدء يدور بهما وجها لوجه وكانهما يطوفان متواجهين وسط دوامة هادئة
تتحرك بهدوء مع التيار في وسط النهر ومتجهة للأمام
وحين انتبهت الزورقة لنفسها أخيرا لم تعرف كم مر عليها من الوقت وهي بهذا الحال
ولكنها تصرفت بسرعة فوضعت مجدافها بصدر الزورق ودفعت نفسها بعيدا عنه وراحت تجدف
بقوة وكأنها تريد الهرب من هذا الموقف الذي لم تعرف معناه
كانت تجدف بقوة وتنظر للخلف وبدت حينها وكأنها كانت خائفة من أن يتبعها،
بدوره لم يفعل شيئا من ذلك بل استمر بالوقوف في مكانه والنظر إليها
بدورها استمرت بالتجديف بقوة وكذلك بالنظر للخلف لتراقبه، لحظات أدركت بعدها
أنها كانت تتمنى لو أنه أسرع خلفها ليتبعها، ولكنها استمرت بالتجديف بقوة حتى وصلت
أخيرا حيث تقف بقية الزوارق على ضفتي النهر فأسرعت الى حيث أبويها ووقفت بجانبهما
تصف لهما ما رأته هناك
كانت تحدثهما وهي تراقب النهر بطرف عينها وكأنها كانت تنتظر وصوله وتريد أن
تعرف كيف سيتصرف وماذا سيفعل
لم يطل بها الإنتظار فلقد رأته من بعيد وهو يطوف بهدوء على سطح الماء قريبا
من الزوارق الواقفة وكان من الواضح أنه يبحث بشغف واهتمام كبير بينها عن شيء ما،
إنه بالتأكيد يبحث عني؟ فماذا يريد مني؟ من الواضح أنه لا يريد العراك معي
فماذا يريد إذن؟ جزء منها كان يتمنى أن يعثر عليها، وجزء آخر كان يريد الهروب منه،
جزئها الذي يريد الهروب جعلها تسرع حين أقترب منها لتقف خلف أبويها محاولة بذلك
إخفاء نفسها عنه
أما جزئها الذي يريده أن يعثر عليها فقد جعل أباها حين أصبح ذلك الزورق
مباشرة أمامه جعله يتحرك بشكل مفاجئ مبتعدا عن مكانه، لتجد الزورقة نفسها مرة أخرى
تقف أمامه وجها لوجه، ولكن هذه المرة اختفت نظرات الشدة والحزم من على وجهها وحلت
مكانها نظرات الحيرة والإرتباك بسبب مفاجأة الموقف لها
مرت لحظات صمت بينهما كتلك التي مرت بهما قبل قليل، لكنها تداركت الموقف
وقالت له:
* ماذا تريد؟
+ لا أعرف
* وهل تعتبر هذا جواب؟ لا أعرف؟
+ نعم لا أعرف، حقيقة لا أعرف، كل ما أعرفه هو أن صورتك لم تفارقني منذ
أن رأيتك، فهل التقينا من قبل؟
* لا أعتقد ذلك، بل ذلك من غير المحتمل أبدا أبدا؟
+ ولماذا؟ فالنهر كبير والكل من المحتمل أن يلتقي به بالكل، فلماذا
تنفين حتى هذا الإحتمال؟
* ألا تعرف لماذا؟ فأنت من فئة الكسالى ومن فئة المنبوذين
والمحتقرين أيضا
+ ولماذا تقولين أنني من الكسالى؟ أما من المنبوذين فأعرفها وإن لم أكن
أعرف لماذا تنبذوننا، ولكنني أعرف إجمالا أنكم تنبذوننا،
ولكن لماذا تقولين أننا من الكسالى؟
* لأنكم تبحرون مع النهر ولا تجدفون الا قليلا وتقضون
أوقاتكم بدلا من ذلك بالنوم واللعب والتأمل
+ ههههه، نعم نحن لا نجهد أنفسنا كثيرا، ونبحر مع التيار، ونستمتع
بوقتنا وبالطبيعة من حولنا، وكثيرا ما نتأمل ، وغالبا ما يأتينا رزقنا من غير تعب
كبير، نعمم نحن كل ذلك، ولكن ما الضير في ذلك؟
* ما الضير في ذلك؟ تمضون حياتكم بالراحة وغيركم يتعب
ويشقى ويكد ويسعى وتقول لي ما الضير بذلك؟
+ ولكننا لا نأخذ من أحد أي شيء يخصه أو يخص غيره، غاية الأمر
أننا نعيش حالة التوكل والإتكال على النهر، فنحن خلقنا منه وهو قال لنا بشكل ما:
إتّكلوا عليّ حقق اتكالكم وسأكفيكم حينها عناء كل شيء
* ولكن غيركم يتعب ويشقى وأنتم مرتاحون؟
+ فليتوكلوا إذن على النهر كما نفعل، فما الذي يمنعهم من ذلك؟ ولماذا
الإصرار على الإبحار عكس تياره وبإمكانهم الابحار معه
ثم ماذا يوجد فوق في الأعلى، فكما ترين لقد جئت لتوي من هناك، وأنا أطوف منذ
مدة طويلة مع التيار ولا يوجد شيء مميز لا يوجد هنا، فعن ماذا تبحثون هناك؟
في تلك اللحظة عاد الأب ليجد هذا الزورق الغريب يتحدث مع زورقته الصغيرة
- من هذا الغريب يا زورقتي؟
* لقد كان يبحر مع التيار يا أبي وصادفته وهو نازل من
الجبل عند بداية الصعدة
- وماذا تريد أيها الغريب؟
+ لا أعرف، كل ما أعرفه أن صورتها لم تفارق عقلي منذ أن قابلتها عند
نزلة الجبل وحتى هذه اللحظة
حينها صمت الأب وبقي ينظر
للغريب تارة ولبنته تارة أخرى
لحظات أخرى مرت صامتة على الجميع لتقطعها الزورقة أخيرا فتقول:
* ماذا يا أبي؟ لماذا هذا الصمت وهذه النظرات الغامضة؟
- وأنت أيها الزورق اليافع، ألا تعرف معنى ذلك؟
+ أبدا، ولم أقصد شيئا، والأمر ليس بيدي ولا بإرادتي
- إنني متأكد من ذلك، فكلاكما صغيران ولا تعرفان معنى هذا
الموقف
إنه ماء النهر أيها اليافعان يقترح عليكما أن ترتبطان ببعضكما البعض، لكن
ومن حيث أن هذا الشعور موجود من طرف واحد، أي من جهتك فقط فمعنى ذلك أن لكما فرصة
مقدارها ثلاثة أيام تتحدث معها وتتحدث معك لتقررا بعدها إن كنتما تريدان الإقتران
ببعضكما وللأبد أم لا
* ولكنني يا أبي لا أفكر بتركك وأمي أبدا
- الأمر ليس بيدي الآن عزيزتي، فماء النهر عادة هو من يقرر
وهو من يقترح، فإن قرر فكلا الطرفان سيشعران حينها بنفس الشعور، وان اقترح عليهما
ذلك فقط، فلأن النهر يشير عليهما أنهما يلآئمان بعضهما البعض ولكن يجب على أحدهما
أن يبدل مسار حياته من أجل اتمام هذا الإقتران، ولا يمكن لأحد أن يقرر ذلك له إلا
هو
* ماذا تقصد يا أبي بتبديل مسار حياته؟
- في حالتكما هذه أعتقد أن المسار الأهم والمطلوب تغيره هو
مسار تجديف أحدكما، فإما أن تغيري أنت مسارك فتجدفي معه مع التيار نزولا وتسافلا
وشقاءا نحو الحضيض ونيران الوادي الملتهب، أو أن يغير هو اتجاهه فيجدف معك ضد
التيار صعودا وتساميا ورقيا نحو الأعلى
+ لماذا تفترض سيدي أننا نتسافل وانكم تتسامون؟ ألا تحتمل العكس أبدا؟ ثم ما
قصة هذا الوادي الملتهب؟
- كان بودي أن أخوض معك أنا هذا النقاش وكنت سترى حينها
كيف أنني سأبين لك ضلالك كالشمس الساطعة في رابعة النهار فأجعلك حينها تبدّل رأيك،
ولكن للأسف، هذا النقاش يجب أن تخوضه معك صغيرتي بنفسها ومنفردة وبدون أي تاثير
خارجي مني أو من غيري
+ إذن فهذه كانت هي فرصتك الأخيرة لكي تشحنها ضدي، أليس كذلك؟ فأنا أتسافل
نزولا نحو الحضيض وأعيش الشقاء، وانت تتسامى وتترقى علوا نحو السماء
فان اختارت طريقك ستترقى وتسعد، وان اختارت طريقي ستتسافل وتشقى، أليس هذا
ما تريد قوله؟
إنني هنا إذن وبسلطة ماء النهر العظيم ومشيئته المقدسة أمنعك أن تتكلم أنت
أو أمّها معها للأيام الثلاثة القادمة
- آهاا، يبدو أنك تتعلم بسرعة، أليس كذلك؟
+ سيدي نحن نعيش حياتنا كلها لننفذ مشيئة ماء النهر بكل صورها، ويكفي أن
أعرف أنه شاء أن، أو انه يقترح عليّ مجرد اقتراح أن أرتبط بكريمتك الزورقة، لكي
أفهم أنني يجب عليّ أن أسعى بكل قوتي لتنفيذ مشيئته هذه
- كما قلت لك، ليس عليك أن تتناقش معي لتقنعني برأيك هذا،
بل مع ابنتي العزيزة وزورقتي الجميلة وأمل حياتي ونورها ومناها
+ لا زلت تبعث بإشاراتك الحيادية جدا، إليس كذلك؟
- حسنا حسنا، لن أتكلم معها أكثر من هذا بعد الآن، وأنتي
يا زورقتي الجميلة، تنفيذا لإرادة ماء النهر أأمرك أن تمتنعي منذ الآن عن الحديث
معي أو مع والدتك حتى تأخذي قرارك النهائي أو أن يأخذ هو قراره النهائي، وأن تمضي
الأيام الثلاثة القادمة تتحاورين معه لتقرري بعد ذلك طريقك الذي تريدينه،
وتذكري أننا قد نضطر لترككما قبل الايام الثلاثة أيضا، فلن نستطيع أن نؤخر
مسيرة الآلآف من تلك الزوارق الصاعدة حتى تنهين أيامك الثلاثة، لكن إن قررت هذه
الجموع التحرك قبل مضي الآيام الثلاثة القادمة فاننا سننتظرك بالأعلى عشرون يوما
أخرى فإن لم تلتحقي بنا بعدها مع المجموعة اللاحقة فسنعلم أنك قد قررتي تغيير
اتجاهك والتحقت به وسنستمر حينها برحلتنا نحو الأعلى
* إطمئن يا أبي، لن يستطيع أبدا تبديل رأيي وعقيدتي التي
ربيتني عليها لأتبع ضلاله وكسله، بل لن يستطيع اقناعي بالاقتران منه كذلك، فلا هو
سيأتي معي ولا أنا سأذهب معه، فأنا أريد أن أبقى معكم أكثر من أي شيء آخر
- حسنا يا عزيزتي لقد حان وقت الوداع، وأوصيك الحذر ثم
الحذر، وأستودعك النهر ومائه يا عزيزتي وأرجو لقائك بعد ثلاثة أيام أو قبلها ان
أمكن
قال تلك الكلمات ثم استدار مبتعدا عنهما ليتركهما وحدهما ينظران لبعضهما
البعض بكل صمت
الزورقة بادرته بالقول وهي تنظر له بغضب وعدائية
* والآن ماذا تريد مني؟
+ لا شيء على الإطلاق
* لا شيء؟
لا شيء وأنت تريد أن تقلب حياتي رأس على عقب؟
لا شيء وأنت تريد أن تبعدني عن أهلي وأحبابي ومعارفي؟
+ مهلا مهلا، فالماء هو من وضعنا بهذا الموقف، فهل تريدين الإعتراض على
الماء؟
* وما دور الماء في حياتي لكي أعترض أو لا أعترض عليه؟ إنني أتكلم عن نفسي
وعن إرادتي وعن حياتي وعن قراري الشخصي؟
+ إنني مثلك أيضا أرغب أن أتحرك خلال بإرادتي وأتبع قراراتي الشخصية كذلك،
ولكن كما قال أباك قبل لحظات، أن الذي أوجدنا يقترح علينا أننا نلائم بعضنا البعض،
وأننا قد نجد السعادة إذا ما اقترنا ببعضنا البعض، فالماء هو من أوجدنا وهو يعرف
الأنس لنا، أليس كذلك؟
* ولكنني لا أريد أن أذهب معك ولا أن أقترن بك ولا أن أترك أهلي قبل كل ذلك
+ من قال أنك يجب أن تذهبي معي؟ فربما أذهب أنا معك أخيرا، وربما لن نتفق
فكريا مع بعضنا البعض، فالماء يقترح علينا أن نتعرف على بعضنا فإذا اتفقنا على كل
شيئ فحينها فقط سنقرر أن نقترن ببعضنا البعض وللأبد
وأنا الآن حين أنظر للإختيار الذي اختاره الماء لي وهو أنت راودني الشك أنني
على الطريق الصحيح وأنه قد اختارك لي لكي أنتبه وأعود للطريق الصحيح، فربما فعلا
أنتم على صواب ونحن على خطأ، وأننا يجب أن نجدف نحو الأعلى وضد التيار بدل أن
ننساب مع التيار انسيابا نحو الأمام
* هل تقصد أنك لا تمانع بالابحار معنا ضد التيار؟
+ حاليا أنا لا أمانع ولا أوافق، فموقفي حتى ينقشع لي الحق هو موقف محايد،
هكذا علمني والدي أن أكون دائما
* وماذا علينا أن نفعل الآن؟
+ لا شيء، عندنا ثلاثة أيام سنمضيها نتحدث سوية،
فتروين لي أجمل ما تشعرين به وأنت تبحرين صعودا للأعلى، وأحدّثك بدوري عن
أجمل ما أشعر به وأنا أبحر نازلا مع التيار
عندنا ثلاثة أيام سنكتشف بها وبعيدا عن أية ضغوط من أهلك وأهلي الذين آراهم
يقفون الآن على الجهة الأخرى من النهر وهم ينظرون إلينا
قال تلك الكلمات ثم أشار لها نحو مجموعة من الزوارق تقف على الجهة الأخرى
تنظر إليهم بترقب
+ أعتقد أننا يجب أن نذهب إليهم أولا لكي نعلمهم بأمر الأيام الثلاثة
* هيا بنا
بهدوء تقدموا من تلك الزوارق والتي ما أن وصلوا إليها حتى بادرهم كبيرهم
قائلا:
++ لا بأس، لا بأس، سننتظركما هنا ثلاثة أيام، لقد عرفت ذلك من نظراتكما
+ حسنا يا أبي يبدو أنك قد قرأت الموقف جيدا
++ كلا يا عزيزي، ولكن التاريخ يعيد نفسه هنا، ولكن بالعكس، فأمك كانت هي
التي تبحر مع التيار وأنا كنت من يبحر ضده، وهي من اختارتني أولا وأنا من تبعتها،
فكما ترى فلقد مررت وأمك بهذا الموقف من قبل
* فأنت لا تمانع إذن إن تبعني إبنك؟
++ بالتأكيد لن أفعل ذلك، فالماء قد خَلقنا أحرارا لكي نفعل ما نشاء ولأن
نختار من نشاء، وبالأساس ما خَلقنا الماء أحرارا إلا لكي نكون أحرارا في كل
وجودنا، كله وبدون استثناء، فالسعادة هي أساسا مصاحبة للشعور بالحرية أولا وقبل كل
شيء،
فبدون الحرية لن يكون هناك معنى للسعادة حتى لو أبحرنا بأنهار من اللبن
والعسل المصفى والكافور والسلسبيلا، فالحرية أجمل من كل ذلك، ولكنها معها ستصبح
بالتأكيد أكمل وأجمل وأكثر جمالا بأضعاف مضاعفة
* إذن كن مستعدا لأن تودع ابنك أيها الزورق الجليل
++ كيفما وإينما وجد ووجدت سعادتكِ أيتها الزورقة الجميلة فأوصيه وأوصيكِ
كذلك بأن تتبعوها، فالماء قد خلقنا لا لكي يعذبنا، بل لكي نستمتع بكل لحظة نبحر
فيها فيه، بل وبكل جدفة نجدفها ونحن نبحر فيه،
فالوجود فوق الماء بحد ذاته هو سعادة ليس فوقها سعادة، كما وأن سعادة
الإبحار فوق سطحه هي سعادة أكبر من سعادة الوجود به فقط، فسواء أبحرنا مع التيار
أو ضده، فسيمكننا دائما أن نستشعر بحنان الماء وهو يحيط بنا ويغمرنا في كل لحظة من
لحظات إبحارنا فيه
* يبدو لي أن كلماتك لا تزال محايدة
++ لا مصلحة لي به إذا صحبني ولا مضرة عليّ إن تركني، فلا أحتاجه لكي يرعاني
بالمستقبل، ولم يتعبني منذ أول يوم لولادته، ولا يتعبني حاليا برعايته، فالماء كان
ولا يزال يحمله تماما كما يحملني، ولا يزال يرعاني ويرعاه بدون قيد أو شرط، فإن
تركني فالماء سيبقى يحملني معه كيفما جرى وسيبقى النهر يرعاني حتى يوم مماتي
* حسنا سنذهب الآن بعيدا عنكم تنفيذا لإرادة الماء والنهر كذلك
بهدوء توجها نحو وسط النهر، وهناك وقفا للحظة ليقررا في أي إتجاه يجب أن
يسيرا، مرت لحظات قبل أن تقول الزورقة
* يبدو أننا لا طريق أمامنا سوى التجديف مع التيار فالطريق في الإتجاه الآخر
حاليا مغلق بذلك الجبل
+ حسنا، ولكننا لن نجدف، وسنكتفي بالركود على سطح الماء ولفترة قصيرة سنتركه
يقودنا حيث يريد
* حسنا سنفعل ذلك
تشابك مجدافه الأيمن بمجدافها الأيسر ببعضهما البعض وأخذ التيار يحركهما
بهدوء وسكينة على سطحه متجها بهما حيث يريد
المتصور أراد أن يضيف
أجواء خاصة على الموقف فأرسل بعض الغيوم فتلبدت الأجواء سريعا ثم بدأت قطرات المطر
تتساقط من السماء عليهما، فأسرعا يحتميان بظل بعض تلك الأشجار التي تغطي فروعها
وأوراقها ضفاف النهر، وما أن وصلا تحت أحدها حتى بدأت الأمطار تنهمر بقوة على سطح
النهر الذي بدء يتراقص على أنغامها وعلى أوراق الأشجار التي راحت بدورها تتمايل
على أنغام دقات المطر على أوراقها، أما الطيور والفراشات والحشرات فلقد لجأت لتلك
الأشجار لتحتمي بها من البلل
إستغرقت الزورقة في تلك
اللحظات بتأمل تلك المناظر الجميلة التي انتبهت لها لأول مرة في حياتها
وبينما كانت الزورقة
مستغرقة بتأمل تلك المناظر والمشاهد الجميلة كان الزورق اليافع ينظر لها وهي غافلة
عنه، ولكن،، لم تمر سوى لحظات قليلة حتى انتبهت الزورقة لنظراته إليها فباشرته
قائلة:
*لماذا تنظر لي هكذا؟
+أبدا، كنت أقول في نفسي
ما الذي تتميزين به فجعل ماء النهر يقترحك كقرينة لي
*إن كنت تتعجب فعجبي
أكبر!!
+ كلا كلا، وعفوا أيضا إن
فهمت مني أنني متعجّب من اختياره لك لي، فأنا صدقا لم أكن أتعجب على الإطلاق، بل
كنت أتسائل فقط،
*وما الفرق بينهما لكي
تعتذر؟
+ التعجب ينتج عادة من
نظرة استعلاء، أمّا تسائلي فنابع من نظرة رضى، والمتعجب يبحث عن المساوئ أمّا
الراضي فيتسائل ويبحث عن المحاسن في من ينظر إليه، وكنت أقول في نفسي أن النهر
يُحبني بالتأكيد وهو حين اختاراك لي لا بد أنه يريد أن يسعداني أكثر وأكثر
*ولماذا تعتقد أن النهر
يُحبّك؟ لماذا لا يكون غاضب عليك لكسلك وقلة همتك مثلا؟
+ ربما يكون كذلك، ولكنه
بالتأكيد سيكون غاضب عليّ لأنه يحبني أولا وأخيرا، فهو حينها وإن غضب عليّ فلن
يرسل عليّ شيئا يزيد به من سبب غضبه علي، بل سيرسل لي سببا يزيل به عنّي سبب غضبه
عليّ
وعليه فسبب اختياره لك لي
لا بد أن يكون سبب جميل، سواء كان غاضب عليّ أو راضي عني، فإن كان غاضب فهو يريد
أن يزيل بك سبب غضبه عنّي، وإن كان راضي فهو يريد زيادة رضاه عني، وسواء اختاركِ
أنتِ بالذات لهذا السبب أو لذاك السبب فأنا راضي عنه ولا أعترض
*طيب ماذا عن اختياره لي
بالذات لك أنت بالذات من جهتي أنا؟
فهل هو راضي عني أم هو
غاضب منّي؟
+ كما قلت لك قبل قليل،
فسواء كان لهذا السبب أو ذاك فبالتأكيد أنه يحبك ويحبني، ولأنه يحبك فقد اختارني
لك واختارك لي، أما كيف ستسعديني وكيف سأسعدك فهذا ما يجب أن نكتشفه بأنفسنا،
فالمهم أن نؤمن أن النهر يحبنا ولأنه يحبنا فقد اختارنا لكي نقترن ببعض وأن نعيش حالة
الرضى باختياره وأن نبحث في بعضنا عن أجمل ما فينا وكيف أنني سأعينك وأنك ستعينيني
*اسمع جيدا واترك عنك هذا
الكلام المعسول، فأنا لن أترك أهلي وعشيرتي أبدا أبدا أبدا، ولن أترك مبدء حياتي
وحياة آبائي وأجدادي من أجلك أبدا أبدا أبدا، ولن أرمي بنفسي بالتهلكة فأسير
بإرادتي نحو الوادي المحرق الملتهب نارا، ولن أفعل ذلك أبدا أبدا أبدا
+ إذن هذا هو سبب تجديفكم
عكس النهر؟ وهذا هو سبب تعبكم وشقائكم طوال حياتكم؟
فلأنكم تخافون أن يلقي بكم
النهر أخيرا بالوادي الملتهب تجدفون طوال حياتكم ضد التيار هربا من ناره، فأنتم
تعتقدون أن النهر يجري نحو محرقة عظيمة هي التي تهربون منها بطريقة تجديفكم هذه
*لا يوجد شيء سهل بهذه
الحياة، أليس كذلك؟ ونحن نعتقد أن السعادة الأبدية موجودة هناك في الأعلى على
القمة، ونحن نسعى في كل حياتنا للوصول لتلك القمة العالية
+ فأنتم إذن تتخذون من
الخوف طريقا للسعادة، او تتخذون من الخوف دافعا يدفعكم دفعا نحو الأعلى ونحو تلك
القمة حيث ستجدون السعادة، إليس كذلك؟
*لا شيء سهل برحلة الحياة
النهرية هذه، أليس كذلك؟ فهل تريد الحصول على السعادة بدون تعب وشقاء؟ وهل تريد
الوصول للقمة بالكسل والرضى فقط؟ أي خيال هذا الذي تعيشونه وتمارسونه؟
+ لا تنسي أننا كنّا
بالأعلى هناك حيث تريدون الذهاب، وقدومنا من الأعلى يدلنا على أننا كنّا فعلا في
القمة، ربما لا أتذكر تلك اللحظة التي كنت فيها بالقمة ولكن والدي كانوا أقرب
إليها مني، ووالديهما كانوا أقرب إليها منهما، ووالدي والديهما كانوا كذلك منها
أقرب، وجميعهم كانوا يجدّفون مع التيار، وتستطيعين أن تقولي أن عائلتنا قدمت جد عن
من الأعلى وجدّنا الأكبر الأكبر الأكبر كان هناك على القمة وقد توارثنا كلماته
التي وصف بها تلك القمة
*حقا؟ وماذا قال لكم عنها؟
+ عن أبي عن جدي عن جده عن
أجداده عن جدنا الأكبر الأكبر الأكبر أنه قال: أنها ليست قمة واحدة وأنها قمم
متعددة وسهول هضاب متعددة سنصلها تباعا واحدة بعد الأخرى، وكل مرة نبدء بها رحلتنا
في النهر لينتهي بنا أخيرا الى بحر عظيم وكبير مختلف عن البحر الذي سبقه
في النهر سنعيش رحلتنا
فوقه، وفي البحر سنعيش رحلتنا في جوفه، وعلى سطح النهر سنعيش أعوام معدودة، وفي
جوف البحر سنعيش ملايين السنين الممدودة، ثم أنه بعد تلك الملايين الممدودة من السنين
سنفارق ذلك البحر الأزرق فنرتفع في جو الفضاء ونطير في الهواء ونناطح قمم السماء
وننتقل به من عالم إلى عالم إلى عالم إلى عالم حتى يأتي النداء أخيرا من خالق
النهر والماء أن انزلوا على إحدى قممي أو على أحد سهولي أو هضابي نزلة أخرى وعيشوا
حياة أخرى تختبرون بها حبي لكم وترون بها جميل صنعي فيكم ولكم
* وأين هو ذكر الوادي
الملتهب؟ ألم يذكره جدكم الأكبر الأكبر الأكبر؟
+ بل ذكره لنا، ولكنه ليس
كما تتصورونه
* وكيف هو إذن؟
+ إنه الخوف منه، فالخوف
من النار هو النار، والخوف من العذاب هو العذاب، والخوف من الحرمان هو الحرمان،
والخوف من الشقاء هو الشقاء، فالشعور بالخوف يلغي الشعور بالأمان، ويجلب التعاسة
وكل مشاعر البؤس وكل البؤس أيضا،
والخوف هو نفسه ذلك الوادي
الملتهب، ومن يخاف الوادي الملتهب ونيرانه هو يعيش بذلك الوادي ولكنه لا يشعر
بذلك، واللهب سيحيط به حينها فعلا ومن كل جانب ولكنه لا يشعر لأنه يعيش دائما في
وسطه ولا يعرف غير طعمه واحساسه
فالذي يخرج من النور لا
يدخل الا في الظلمة، والذي لا يكون في النور لن يكون حينها الّا في الظلام، والذي
يولد في النار لا يعرف أن النار تحيط به من كل جانب، فهو يعيش وسطها ويأكل ويشرب
منها
ومن يعيش كل حياته خائف من
النار فهو قد ولد بها ويعيشها ولكنه لا يشعر بذلك أيضا
* ولكن كيف له أن يشعر
بها؟ ومتى سيشعر بها؟
+ من يولد في الظلام ويعيش
به لن يعرف طعم النور حتى يتذوقه، تكفيه لحظات قصيرة يخرج فيها من الظلام ويدخل
بها في النور لكي يدرك حينها فقط معنى النور ومعنى الظلام على حقيقتهما
وحين يتذوق معنى النور لن
يستطيع بعدها أن يعيش في الظلام أو أن يرجع إليه، وسيصبح ذلك الظلام الذي كان يعيش
به بطمأنينة، سيصبح بالنسبة له كعذاب دائم ومقيم، لأنه سيشتاق دائما وأبدا الى أن
يغمره ذلك النور من جديد، ولأنه عرف الفرق بين النور والظلام
وكما أن الذي عاش كل حياته
خائفا من النهر هو بالتأكيد لم يشعر بحياته ولو للحظة واحدة كم أن النهر يحبه حبا
غير مشروط على الإطلاق ولا يمكن أن يؤذيه على الإطلاق، فإن من سيعيش حالة الحب هذه
سيعيش حينها في القمة دائما وأبدا، وسيعيش في الفردوس الأعلى أينما كان
ألم تسمعي هذه المقولة من
قبل: إن للنهر أسماء من أحصاها وصل للقمة؟
* بلى سمعتها؟
+ وبالتأكيد أنك قد
فهمتيها أن من سيحصي تلك الأسماء سيصل القمة بعد موته، أليس كذلك؟
* نعم، هكذا فهمتها
+ أما نحن فقد فهمناها أن
من أحصاها فقد وصل فعلا إلى القمة، وهو الآن فعلا على القمة، وكما أنه يعيش بيننا الآن
فأنه هو الآن على القمة كذلك، فالقمة ليس مكانا نذهب إليه، بل هي حالة نعيشها، ومن
سيعيشها لحظة واحدة لن يرضى عنها بعد ذلك بدلا
تماما كما أن الوادي
الملتهب ليس مكانا تذهبون إليه بل هو حالة تعيشونها، ومن سيعيش الوصول للقمة ولو
للحظة واحدة سيستحيل عليه أن يعود لذلك الوادي الملتهب من جديد
* أتريد أن تقول أننا من
حيث أننا نجدف ضد التيار خوفا من الانجراف الى الوادي الملتهب فإننا نعيش في
النار؟ وأنكم من حيث أنكم تجدفون مع التيار فإنكم تعيشون في القمة؟
+ نحن لا نجدف أبدا، نحن
نطوف فوق الماء وننتظره لأن يأخذنا حيث يريد وكيفما يريد، فثقتنا بها وبحبه لنا
عالية جدا وأنه لن يفعل ولن يقدّر لنا إلا ما به صالحنا فقط،
نعم يوجد ممن يمشون مع
التيار من هم يجدفون دائما وأبدا، فهؤلاء يريدون الوصول بسرعة إلى حيث ينتهي
النهر، فهم يعتقدون أن القمة التي يبحثون عنها ويريدون الوصول إليها هي موجودة عند
نهاية النهر، ولذلك ترينهم دائمي التجديف، أما نحن فلا نجدف إلا نادرا وفقط عندما
نجد المتعة في ذلك،
مثل أن نكون في خضم شلال
متوسط أو قوي أو مستحيل، فنحن نعتبر أن مواقع هذه الشلالات هي للمغامرة وللعيش
بداخلها وليس بما حولها كبقية مواقع النهر،
ففي بقيتها نحن نستمتع حين
نمر من خلالها بتأمل وملاحظة تلك المناظر المختلفة التي سنشاهدها حينها من حولنا
وعلى جانبي النهر، أمّا بتلك الشلالات فنحن نستمتع بما هو بها من مغامرة وتحدي
غافلين عن ما هو خارجها
أمّا أولآئك الذين يجدفون
وهم يجرون مع التيار فحالهم لا يختلف كثيرا مع حال من يجدفون وهم ضد التيار،
فكلاهما منشغل بالتجديف عن جمال تلك اللحظة التي هم بها وعن مغامرة تلك اللحظة،
والفرق الوحيد بينهما هو أن أحدهما يجدف مع التيار والآخر ضده،
ولو دققتي ستجدين أن
كلاهما يعيش حالة الخوف ولكن الأول يعيش الخوف من السقوط في النار والآخر يعيش
حالة الخوف من التأخر والتخلف وعدم الوصول
أما نحن فنعتقد أن المسير والحركة
ليست مهمتنا وليست واجبنا أصلا، ومهمتنا الوحيدة هي أن نراقب ونتمتع ونتعلم، وأن
النهر هو من سيتكفل بالحركة كلها، تستطيع أن تقول أننا عمليا نقف في مكاننا ثابتون
وأن كل ما حولنا هو الذي يتحرك جيئة وذهابا وصعودا ونزولا
فنحن بذلك لا نعيش
الهواجس، وأقصد كلاهما، فلا هواجس الخوف من النار ولا هواجس التأخر وعدم الوصول
قبل الموت، والوقت بالنسبة لنا غير مهم على الإطلاق، والمهمّ الوحيد الذي نعيشه هو
شعورنا بوجودنا في النهر، فمجرد وجودنا به سنفهم منه أننا باقون ما بقي النهر
* وماذا عن الأخلاق
والأعمال؟ فهل كل هذه هي غير مهمة أيضا، وفقط الخوف هو المهم، فهو النار وهو
الوادي الملتهب؟
فأي منطق أعوج هو هذا
المنطق؟
+ إن الخوف والطمئنينة هما
أصل جميع الأخلاق والأعمال
فالخوف يدفع للبخل والكذب
والخيانة والنفاق وكل مساوئ الأخلاق والأفعال
ومع الطمئنينة يكون الصدق
والأمانة والكرم والشجاعة وكل مكارم الأخلاق والأفعال أيضا
ولو دققتي جيدا ستجدين أن
الخوف هو رأس كل رذيلة، وأن الطمئنينة هي أساس ونبع كل الحسنات وكل جميل
في تلك اللحظة هوت الزورقة
بمجدافها الأيمن على رأس الزورق اليافع بضربة قوية أوقفت بها سيل كلماته المتتالية
لحظات صمت سادت المكان ثم
أتبعتها ضربة من شمالها على ظهره مصحوبة بصرخة قوية ونظرات غضب بينما كان هو ينظر
إليها بدهشة كبيرة متسائلا عن السبب لكل ذلك ليعود الصمت من جديد يلف المكان
+ هل لي أن أعرف لماذا؟
*سأجلب لك بها السعادة
التي تستحقها أيها اللسان
+ لسان؟ أنا لسان؟ ماذا
تقصدين بذلك؟
*أقصد انني لن أستطيع
التغلب عليك سوى بعضلات يدي هاتين، فيبدو لي أن اختفاء العضلات من جسمك النحيل
سببه أنها قد تركزت جميعها في فمك وحول لسانك
+
هههههههههه هههههههه هههههههه
*وما المضحك في الأمر؟
+ هههههه لقد جلبت السعادة
لي فعلا بقولك هذا، ههههههه هههههه هههههه
*بنبرة غاضبة وهي تهم
بالحركة نحوه قالت له: حسنا ما رأيك بضربتين إضافيتين لأزيد سعادتك بها أكثر
وأكثر؟
+ مهلاً مهلا ً وعلى رسلك
أيتها القوية، لم تكون أول مرة ولن تكون الأخيرة أيضا
*ماذا تقصد؟
+ أقصد اننا نتلقى هذه
الضربات على الدوام حين نمر بأولآئك اللذين يجدفون عكس التيار، ويبدو أنهم
يستمتعون بذلك حقا
*وماذا عنكم؟ هل تستمتعون
أنتم بذلك أيضا؟
+ نحن وإن كانت تلك
الضربات تؤلمنا أحيانا ولكننا كنّا نستمتع بها ولا نزال، ففي كل مرة نتلقى بها
إحدى تلك الضربات ندرك أننا خارج ذلك الواقع المألوف الذي يعيش به أولآئك الذين
يضربوننا، وأننا قد تحررنا من سورهم الذي بنوه بأيديهم حول أنفسهم ثم جعلوا من
أنفسهم بعد ذلك حرسا على تلك الأسوار فلا يسمحوا لمن أراد منهم أن يخرج من ذلك
السور بالخروج منها بحجة أن خارجها لا يوجد الا الموت والهلاك
فنعم اننا فعلا نشعر
بالسعادة لأننا خارج سورهم هذا ولأنهم لا يملكون حيال ذلك شيئا سوى أن يضربوننا
كلما استطاعوا، ونحن مع كل ضربة نتأكد أكثر وأكثر أننا لا نزال خارج أسوارهم
المتينة والعالية مما يبعث فينا شعور الرضى
*حسنا يبدو أنني سأزيد من
جرعة ضرباتي لكم في المستقبل لكي أزيد من سعادتكم أكثر وأكثر
+ هل أفهم من ذلك أنك ممن
يعتدون على من يجدفون عكس التيار؟
*كلا أبدا، أنا لا أعتدي
عليهم، بل أُسعِـدهم وأجلب لهم السعادة فقط
+ حسنا، لقد حان دوركِ لكي
تستعرضي عضلات لسانك يا ملاك السعادة
*وماذا تريدني أن أقول؟
+ ماذا؟ ممم، حسناً، ما
رأيك بأن تصفي لي شعورك وأنت تضربين هؤلاء المساكين، ولماذا تضربينهم، وشعورك في
أول مرة ضربتي بها أحدهم، ولماذا قررتي أن تضربي أحدهم مرة أخرى، ولماذا أنت
مستمرة بهذا السلوك حتى اليوم، وما الفائدة التي ستجنينها شخصيا من الهجوم عليهم
وتعريضهم للأذى،
إجمالا أريد أن أسمع منك
كل ما يمكنك وصفه لي لا على الحصر أو التحديد ابتداء من الدوافع أو الشعور ما قبل
وما بعد فيضك عليهم بأسباب صور هذه السعادة المؤلمة كما يبدو لي الآن
*هل تود بالمزيد منها؟
+ ههههههه، شكرا شكرا،
سأكتفي بما تفضّلت به اليوم عليّ منها
*حسنا، ربما تكون أول
الأسباب هي أنني أراهم مرتاحون أكثر من الطبيعي
+وما هو تعريفك للطبيعي؟
*لا تقاطعني رجاءا، ودعني
أكمل كلامي حتى أنهيه فلساني ليس بسلاطة لسانك وقوته وطلاقته
حينها رفع الزورق اليافع
طرف مجدافه من فوره ووضعه في فمه وعضّ عليه، فيما كانت عيناه تدور محلقة في السماء
وكأنه ينظر للغيوم
*بنبرة متشنجة قالت له:
شكرا،،،،واستمرت لالحديث قائلة: نعم ربما لإنهم مرتاحون أكثر من
الطبيعي، والطبيعي حسب فهمي هو أن يبذلوا ولو بعض المجهود لكي يساهموا في بناء
مستقبلهم ومستقبل أبنائهم وعوائلهم ومجتمعاتهم الزورقية وأن يعينوهم بعض الشيء
كذلك، فهذا هو سبب وجودنا في النهر، ولهذا السبب أوجَدَنا النهر من الأساس كأفراد
مجتمعة وليس كأفراد منفردة، وذلك لكي نعيش حالة التعاون والتكافل فيما بيننا وندرك
طعم الحياة مجتمعين، ولو كان هدف النهر أن نعيش فرادى لخلقنى فرادى ولم يجعلنا
شعوبا وقبائل مختلفة من الزوارق
ولكنهم وفيما نحن نتعب
ونشقى ويموت الكثير منا إثر هذا التعب والشقاء والمخاطر المتعددة، وفيما نحن نمر
بجميع تلك الصعاب أجدهم غير مبالين بنا وبما نشعر به، بل ربما هم لا يشعرون أصلا
بوجودنا وتبعا بما نعانيه في النهر من المتاعب، ويكتفون بالإستلقاء على سطح النهر
مسترخين ولا يفعلون شيئا للمساعدة وكأننا لسنا من جنسهم ولا نهمهم بشيء أبدا
فلذلك كله عندما رأيت
أحدهم أمامي ولأول مرة مغمض العينين على سطح النهر غير مبالي بما يمكن أن يسببه
لنا من الضرر إن هو اصطدم بنا أو اصطدمنا نحن به شعرت برغبة قوية في أن أسبب له
الألم لعله يتعلم درسا او يصحو من غفلته تلك فتوجهت نحوه وضربته ضربة إنقلب وجهه
على إثرها في الماء وصار يتخبط به من المفاجئة التي حلّت فوق رأسه
في تلك اللحظة شعرت براحة
عجيبة، وبفرح يغمر أجزاء بدني وبشعور لم أختبره من قبل، فورة من النشاط، فورة من
القوة، فورة من الشعور بالإستعلاء والسيطرة والشعور بأنني صاحبة الحق الحقيق وأنني
على الحق المبين، لقد أدركت في تلك اللحظة أنني لا بد أن أكون أنا المحقّة وليست
تلك الزوارق الخاملة التي لا فائدة ترجى منها لمجتمع الزوارق العاملة المكافحة
ثم انها كانت من تلك
اللحظات الجميلة التي كنّا نحصل عليها فنتمتع بها بالضحك وبتبادل النكات الطريفة
عنهم وعليهم خلال أوقات التجديف الطويلة، وما جعلني أتأكد من أنني على الحق ومحقة
بضربهم هو سكوت أبي وأمي على عملي هذا، بل وبفرحهما به حالهم كحال بقية عشيرتي
الزوارقية
أه كم أشعر بالارتياح حين
أضرب أحدكم
لحظات صمت سادت المكان
كانت بمثابة الإذن للزورق اليافع للحديث
+ حسنا يسرني أنك تشعرين
الآن بالراحة أكثر من السابق
*حاول أن تحافظ على
استمرار شعوري هذا بالراحة لبقية أيامنا الثلاثة
+ بل سأعمل في هذه الأيام
الثلاثة على أكثر من ذلك أيضا، فسأعمل على استمرار شعورك هذا بالراحة لبقية حياتك
وحياتي أيضا، نعم سأعمل على أن تقبلي بي وتقبلي أن تجدفي معنا مع التيار
*سيتحقق ذلك في أحلامك فقط
+ لماذا؟ ألم تقولي للتو
أنك تحبين الشعور بالراحة؟ كما وقلتي قبل ذلك أننا مرتاحون أكثر من الطبيعي، فنحن
إذن تجسيد حقيقي لما تحبينه وليس لما تعيشينه، فأنت تحبين الراحة وتعيشين الشقاء
ولكي تشعري بالراحة داخل شقائك تعملين على اخراج غيرك من راحتهم وادخالهم بشقائك
متوهمة أنك ترتاحين حين تخرجينهم من راحتهم لتدخليهم في شقائك
فحالك تماما كحال النار،
فالنار الحقيقية لا ظهور لها وهي ملتهبة من ذاتها وبدون أن تتحد مع شيء آخر ولا
ظهور لها ولن تظهر أبدا إلا اذا أحرقت شيئا ما قد اتصلت به، فهذه النار تبحث دائما
وأبدا عن أشياء تحرقها لكي يتحقق حينها ظهورها هي، لأنها لو لم تجد شيئا تحرقه فلن
تظهر وإذا ظهرت مرة فإنها ستبقى تبحث دائما وأبدا عن أشياء جديدة لتحرقها لأنها لو
لم تجد ما تحرقه فسوف تخمد أخيرا وتنطفئ وينمحي أثرها وهي لا تريد ذلك لنفسها
فلذلك أقول لك أنك الآن
تعيشين في النار وأن النار محيطة بك وأنك بضربك لنا أو لغيرك ومحاولة زجه في تعاسة
او شقاء من أي نوع فإنك تحاولين إبقاء تلك النار المشتعلة في داخلك مشتعلة متوهجة
عبر انتقالها منك لغيرك ومنه ستحاول أن تنتقل لغيره
فالنار الحقيقية ليست شيئا
محترق، ولكنها شيئا مُحرق، شيئا يُحرق، النار الحقيقية المُحرقة الحارقة ليس لها
ألسنة من اللهب، وألسنة اللهب هي أثار إحتراق ذلك المُحترق بالنار الحقيقية، فيوجد
هناك نار، ويوجد هناك نار ذات لهب، والفرق بينهما هو أن النار التي لا لهب لها لا
وجود خارجي لها وليست متحدة بوجود خارجي،
أما النار ذات اللهب فلها
وجود خارجي ولها اتحاد مع موجود خارجي هو الذي يحترق وألسنة اللهب التي تتصاعد منه
هي منه وليست من النار التي أحرقته، ولكنها ((أي النار)) اتحدت معه حتى صارت تلك
الألسنة اللهبية مثال لها وصورتها في عالم الظهور، فعندما نقول نار ذات لهب فإننا
نصف ظهور النار في عالم الظهور، وعندما نقول النار فقط فنقصد منها حقيقة النار
المحرقة، حقيقة النار الحارقة، حقيقة النار قبل عالم الظهور وقبل أن تتحد بموجود
خارجي لتصبح حينها فقط نار ذات لهب
وأنت تشعرين بالراحة حين
تضربين أحدهم أو أحدنا لأنك بذلك الفعل تكونين قد أخرجتِ بعض ناركِ من داخلكِ
وتخلصتِ منها، ونفّستِ عن بعض مشاعركِ المُحرقة، عن بعض مشاعركِ الحارقة، ونقلتِ
بذلك الفعل ناركِ منكِ لغيركِ فأطفئتِ ناركِ مؤقتا لتشعليها في غيركِ
*ماذا تقصد بــ مؤقتا؟
+ أقصد أن النار الحقيقية
التي ليست ذات لهب لا تزال موجودة داخلكِ، إنها ليست شيئا ملموسا، إنها شيء كامن
في نفسكِ، ولكي أكون أكثر وضوحا أقول لكِ أن النار الحقيقية التي لا لهب لها هي
تلك الأخلاق التي تنطلق منها تلك الأفعال السيئة، وتلك الأفعال هي بمنزلة ألسنة
اللهب، فالأخلاق هي مصدر الأفعال، والأفعال السيئة هي ذلك اللهب الذي ستحرق
الزوارق بها بعضها البعض،
فالأفعال أساسها الأخلاق،
والأخلاق هي باطن الأفعال، فما لم يظهر الباطن السيئ بالظاهر السيئ، ((أي الخُلق
السيئ بالفعل السيئ)) لن تظهر ألسنة لهيب النار في المجتمع الزورقي، وحينها ستحل
محلها وبكل تأكيد صور أفعال أخرى مصدرها الحقيقي هو أخلاق أخرى حسنة وجميلة
وهذه الأخلاق السيئة أو
النيران ليست خلق واحد أو نار واحدة ولكنها أخلاق متعددة أو نيران متعددة، يمكننا
أن نصفها جميعها بصفة واحدة وهي أنها شر، ولكن هذا الشر ظهر بصور متعددة هي تلك
الأخلاق السيئة او هي تلك النيران، وتلك النيران ستظهر فقط حين ستحرق من تتحد به
وستظهر من خلاله على شكل أفعال أو على شكل ألسنة من اللهب، سمِّيها ما شئتِ
والشر وصوره أو النار
وأصحابَهَ وأصحابُه يرجعون لأصل واحد هو الجهل، الجهل بعظيم منزلة النهر والماء
وخالقهم وسوء الظن بهم، ويمكننا أن نشبه جميع ذلك بأن الشر هو كشجرة خبيثة ثمرها
خبيث وتلك الثمار هي نيرانها أمّا أوراقها فهي لهيبها وأما الجهل هو منبتها الذي
لا هو في أرض ولا هو في قرار
ولذلك قلت لكِ من قبل أن
النار أو الوادي الملتهب الذي تخشونه هو ليس مكانا تذهبون إليه بل هو حالة تعيشونها،
فأنتم لا تثقون بالنهر وتعتقدون أنه يجري بكم الى حيث عذابكم وهلاككم ولذلك تجدفون
عكس التيار، فأنتم تجهلون مدى كرم صاحب النهر وحبه لكم وكيف أنه قد خطط لكم ورسم
لكم ووضع لكم جميع ما به سعادتكم وفرحكم على جانبيه، ثم جعل تيار مائه طائعا
يحملكم على ظهره ليجري بكم بكل سهولة ويسر في مجراه الذي رسمه لكل واحد منكم بكل
دقة فاعتنى بكل منحنياته ونزوله ووقوفه وسرعته وبطئه ليوصلكم أخيرا إلى بحوره
الكبيرة الجميلة لتبقون فترة على سطحه ثم ليحتضنكم بعد ذلك داخله فيريكم جميل
باطنه وظاهره
وبدل ذلك كله ظننتم به ظن
السوء فجلبتم لأنفسكم الشقاء بسوء الظن هذا، فصرتم تجدفون ليلكم ونهاركم عكس تياره
فأنهككم تجديفكم أيما انهاك فأنشأتم بظنكم السيء هذا في أنفسكم شجرة خبيثة تحاول
أن تحرقكم فتنتقل منكم لغيركم لتحرقه أيضا
فيما كان الزورقان يتكلمان كان المتصور خلالها قد قرر أن يُـدخل شخصيات أخرى وأحداث أخرى في هذه القصة لكي يستشعر من خلالها بعض المشاعر والاحاسيس التي كان يعتقد ويؤمن بها ويتوقع نه سيحصل عليها من خلال عيشه لتلك المواقف، فعمل اتصالاته من فوره مع متصورين آخرين من حوله ورتب معهم نوع وتفاصيل تلك الأحداث والمشاعر التي يريد كل واحد منهم الحصول عليها واستشعارها من خلالها، طبعا تم الاتفاق بينهم على جميع تفاصيل تلك الأحداث ومقاديرها خلف الكواليس، وسيظهرون صور ما اتفقوا عليه من المواقف قريبا جدا على خشبة الأحداث فيها لكي يُظهروا ويستشعروا عليها مشاعر وأحاسيس تلك المقادير التي قدروها في ما بينهم واتفقوا عليها.
.......
كانت الزورقة تستمع هذه المرة إليه بذهن منفتح، وتحاول أن تفهم وجهة نظره للحياة، ويبدو أن سكوته سابقا فيما كانت هي تتكلم، وقدرتها بذلك أن تعبر عن نفسها بكل حرية قد جعلها أكثر قبولا للإستقبال من ذي قبل لما يريد أن يقوله، فصمته وعدم مقاطعته لها خلال حديثها واصغائه لها حتى الأخير قد جعلها تلبس بدورها حين بدء هو يتحدث نفس القالب الذي لبسه بالصمت حين كانت هي تتحدث.
حين سكت الزورق لبضع لحظات أدركت أنه يطلب منها التعليق على ما سمعته منه فقالت:
*إذن فأنت تعتقد أنه لا يوجد هناك من وادي ملتهب في نهاية النهر وفي الطرف الآخر منه، بل انه موجود هنا وهناك وفي كل مكان وزمان أيضا، ومتوازيا كذلك في وجوده مع وجود القمة هنا وهناك وفي كل مكان وزمان، فكلاهما حسب اعتقادك مجرد حالة شعورية وإننا من خلال معايشتنا لأي حالة شعورية منهما نكون حينها وكأننا دخلنا الوادي الملتهب أو وصلنا للقمة، أليس كذلك؟
فـهل تريد القول بذلك أننا نعيش السعادة والشقاء في حياتنا هذه فقط، وفقط خلال ابحارنا في النهر، وأنّه ما بعد الموت لن يوجد هناك وادي ملتهب ولا نيران تنتظرنا، وأنه لا توجد هناك قمة ولا سعادة؟
فأنا يسعدني جدا أن أعتقد أن لا وادي ملتهب ينتظرني بعد الموت ولا شقاء، ولكنني سيؤلمني جدا أن أعتقد أنّ لا قمة توجد هناك ولا سعادة تنتظرني هناك أيضا،
فهل هي فقط حياتنا في هذا النهر وفي هذا الدار فقط والذي مماتنا فيه أيضا، والفناء ينتظرنا من بعدها؟
هل هذا هو قصدك؟
أم انني قد أسأت فهم كلماتك؟
+ بل هي دور كثيرة، ومراحل كثيرة، ونحن ننتقل دائما وأبدا من أحدها إلى الأخرى، والذي سيحدد صورة الدار التالية هو نوع تلك الأحاسيس والمشاعر والأخلاق التي اتصفنا بها وملكناها في دارنا وحياتنا هذه وانتقلنا بها أخيرا الى الدار الأخرى،
وهذه المشاعر والأخلاق سأبحث عن من يؤمن بها مثلي وأجتمع معهم في عالم أستطيع ويستطيعون به أن يحققوا به مثلي جميع اعتقاداتهم ويستشعروها ويتصورونها مثلي أيضا، سنتصورها على شكل عالم يناسب حقيقتها، فإن كانت جميلة أو قبيحة!!!!!!
لحظة، لن أعبر هنا عنها بجميلة أو قبيحة، بل سأقول عنها إن كانت موجبة أو سالبة فسيكون العالم على تلك الصورة الموجبة أو تلك الصورة السالبة، فلا يوجد من سيتصف بإرادته بخلق هو يعتقد أنه ليس بخلق جميل بل قبيح، فالذي سيتخلق بالسالب فهو يعتقد بأنه جميل ولذلك تخلق به، وكذلك الذي سيتخلق بالموجب فهو يعتقد أيضا أنه جميل ولذلك سيتخلق به، فكيفما كانت صورة تلك الدار التي سننتقل اليها فلا بد أنها صورة كنت أريدها هي بالذات وليس غيرها، وإلا لما استطعت بها أن أختبر تلك الأخلاقوالإعتقادات كـمشاعر مفصّلة تفصيلا دقيقا بما يرضيني تماما
ولذلك عندما سينتقل من سينتقل منّا بعد الموت للدار التالية لن يتفاجأ بما سيشاهده فيها، فجميع ما فيها هو مشابه لما عملناه في حياتنا في هذا لنهر، وانما أوتينا بها بصور مشابهة لأعمالنا وأخلاقنا ومشاعرنا،
فهناك سيمكننا الغوص عميقا بـتلك المشاعر والاعتقادات، وبالإتحاد وجوديا معها أكثر وأكثر
*لم تصلني تلك الصورة التي تريد وصفها لي بالكامل، فهل
لك أن تصفها لي بشكل آخر
+ حسنا، أستطيع ذلك بنحو ما لا يمكنني شخصيا أن أفهمه،
يمكنني أن أتصوره فقط تصورا لأنني أملك بعضا من مفاهيمه لا كلها
*وكيف ذلك؟
+ نحن نعيش سوية هنا في عالم نهري مفاهيمه مختلطة،
فـبعضها مفاهيم موجبة وبعضها الآخر مفاهيم سالبة، أو لنقل بعضها مفاهيم عقل وبعضها
الآخر مفاهيم جهل، وسنبقى في هذا العالم النهري فترة من الزمان نستطيع به أن نميز
بشكل واضح بين تلك المفاهيم الموجبة وتلك الأخرى السالبة، بمعنى سنميز بينهما من
خلال ما سيجلبه لنا فعل أيّ من تلك المفاهيم من فرح وسعادة أو ألم وشقاء، فإذا جلب
لي فعلي لـبعض تلك المفاهيم سعادة أستشعرتها بوعيي الذاتي كحالة جميلة
محببة فبالتاكيد سيجلب لي فعل أفعال أخرى منطلقة من المفاهيم المضادة لها حالة
مضادة لحالة السعادة التي جلبتها لي أفعالي المنطلقة من المفاهيم الاولى
مثلا، جربت مرة وفي موقف ما أن أكون صادقا، وشعرت
حينها بالسعادة والراحة، فبالتأكيد عندما أجرب الكذب في موقف آخر وأكذب فـلن أشعر
حينها بالراحة التي شعرتها أول مرة حين صدقت في قولي
وما سيشعرني فعلي له بالراحة عندما أفعله سأعمل جاهدا
على أن أجعله جزء من وجودي وأفعالي الدائمة، وذلك لأنني أحب نفسي قبل كل شيئ، وأحب
بسبب حبي هذا لنفسي بـالشعور بالراحة والسعادة الدائمة
فإذا كان الصدق يجلب لي السعادة سأحرص على أن أبحث
دائما وأبدا عن مواقف يتطلب مني فيها أن أكون صادقا، وسأصدق حينها لا طلبا لشيء
سوى الراحة والسعادة التي سيجلبها الصدق لي، طبعا بعض الحالات المتقدمة ستحب
الاتصاف بـالصدق من أجل الصدق فقط لا من أجل الشعور الذي ستشعر به بسببه، ولكن هذه
حالات قليلة جدا ولاسباب ربما سنتطرق لها لاحقا
وإذا كان الكذب يجلب لي السعادة حين أكذب، سأحرص على
أن أجعله جزء مني وأن أبحث دائما وأبدا عن مواقف يتطلب مني فيها أن أكون كاذبا،
وسأكذب حينها لا لشيء مادي سأنتفعه من الكذب، بل لمجرد حالة الراحة والسعادة
المعنوية التي سأشعر بها حين أكذب، ففعل الكذب نفسه هو من سيشعرني بالراحة،
وسيسعدني جدا كذلك أن تسميني بقية الزوارق كذابا يطير صواريخ وسيجعلني هذا اللقب
أشعر بالراحة والسعادة الكبيرة أيضا
وهكذا يمكنك أن تتصوري بقية الصفات السالبة أو الموجبة
التي نحبها ونحب فعلها والاتصاف بها كذلك
مرحلة الابحار في هذا النهر سننهيها جميعا وكل واحد
منا قد اختار مجموعة معينة من تلك الصفات وتلك الافعال لكي يحبها ويميل إليها
ويتمنى أن يستشعرها دائما وأبدا،
ولنفرض أنكِ أو أنني قد أنهيت هذه المرحلة النهرية وقد
اخترت لنفسي بها مجموعة كبيرة من الصفات الموجبة أكبر من الصفات السالبة بشكل كبير،
لنقل بنسبة 90% موجبة، و10% سالبة، ولكنهما كلاهما أشعراني بالراحة، يعني كنت
حينها أشعر بالراحة حين أكذب وحين أكون كريما، فحينها حين أنتقل بالموت للمرحلة
التالية سأنتقل حينها لـعالم أجد به الراحة النفسية بنفس النسبة الكبيرة، أي 90%،
راحة، أمّا الباقي أو النسبة القليلة الباقية من الصفات السالبة فسيظهر لها وجه
آخر سـيؤلمني حين أتصف بها فعلا، أي بـفعلها
وقبل أن المضي بالحديث يجب أن أوضح شيء ما، وهو أننا
وجميعنا في هذه الحياة النهرية لم يخلقنا النهر به فرادى، بل خلقنا أزواجا، فكل
واحد منّا مـتكون من جزئين، فجميعنا عبارة عن أزواج من النفوس
*من جزئين؟ أزواج من النفوس؟ إن هذا الأمر عجيب، هل
أنت متأكد من ذلك؟
+ نعم من جزئين، ولكنهما مرتبطان ببعضهما البعض بجزء
ثالث وهو جزء محايد بينهما ووضيفته هي الربط بينهما من الى والى من، والجزئين
يعملان كجزء واحد ما داما كلاهما موجودان، فكل جزء منهما له وضيفة خاصة به
*وما هي وضيفة كل جزء منهما إذن؟
+ إن وضيفة الجزء الأول هو أن يتصور مشاعر وأحاسيس
يرغب بالإحساس بها ويخطط لذلك الهدف صور ومشاهد وأحداث تحدث بها تلك التصورات
والمشاعر والأحاسيس، ووضيفة الجزء الآخر هو أن يعيش تلك الخطط والتصورات بكل
صورها، وأن يستشعرها بكل تفاصيلها التي تصورها وخططها الجزء الأول ثم يرسلها إليه
مرة أخرى، أي يرسلها للجزء الأول،
وحينها فكلا النفسين ستعيشان جميع الاحداث كنفس واحدة
رغم أنهما زوج منها،
*هل تقصد أن جزئي الآخر وجزئك الآخر قد اتفقا على أن
يرتبطا ببعضها البعض من خلالنا هنا؟ ههههه
+لا أستطيع الآن أن أجزم أنهما قد قررا أن يرتبطا
ببعضهما البعض من خلالنا للحصول على مشاعر وأحاسيس يتوقعان أن يحصلا عليها من
خلالنا، وكل ما أستطيع قوله حتى الآن أنهما قد تصورا وخططا لأن نعيش هذه اللحظات
الحالية وكذلك لأن يدور هذا الحوار الذي يدور بيننا في هذه اللحظات أيضا، أمّا
ماذا سيحصل بعد ذلك فذلك هو ما سنقرره نحن لهما من خلال هذا الحوار، فهما حتى هذه
اللحظة ينتظران تلك المشاعر والأحاسيس لأن تصلهما منّا فيقرران على أساسها فقط ما
إن كانا سيستمران على نفس تلك التصورات والخطط السابقة أم إنهما سيجريان بعض
التعديلات البسيطة عليها أو حتى ربما تعديلات جذرية وكبيرة، فلا شيء ثابت في
مخططاتهما ولا يمكن تغيره، وأهم ما بها هو أن يصلا لاهدافهما واستشعارهما لـتلك
المشاعر والاحاسيس التي تصوراها وأحبا الوصول إليها، سواء كانت موجبة أو سالبة،
وهما فقط من سيحددان أيهما هو الموجب وأيهما هو السالب بالنسبة لهما، فالتي
سيتشعران معها بالراحة والسعادة ستكون موجبة بالنسبة لهما، والتي ستجلب لهما مشاعر
غير محببة سيعتبرانها مشاعر سالبة،
وعلى هذا فقد تكون المشاعر الموجبة خليط من
مفاهيم العقل ومفاهيم الجهل لأنها تجلب السعادة والفرح لحاملها المتصف بها، وقد
تكون المشاعر السالبة كذلك خليط من مفاهيم الجهل ومفاهيم العقل لجلبها الشقاء
والتعب لحاملها والمتصف بها، فلذلك عندما أقول بنسبة 90% موجبة، و10%
سالبة فلا أقصد أن الـ 10% سـتجلب للزورق الشقاء، بل انها ستجلب له أيضا الفرح
والراحة والسعادة حين يفعلها مرارا وتكرارا ويموت أخيرا وهو راضي عن نفسه لأنه كان
يفعلها،
*حسنا لقد قلت لي في البداية أنك تستطيع ذلك بنحو ما
لا يمكنك شخصيا فهمه تماما ويمكنك أن تتصوره تصورا فقط لأنك تملك بعض مفاهيمه فقط
وليس كلها، فهل يمكن أن تجمل القول الآن وتبين لي لماذا أنت تملك بعض مفاهيمه فقط؟
+ الأمر بسيط، وهو أننا في هذا العالم وفي هذه المرحلة
نعرف الأشياء بأضدادهاا، أي أننا نعرف الجيد بالرديئ والكبير وبالصغير والغالي
بالرخيص والظلمة بالنور والقوي بالضعيف والصادق بالكاذب وغير ذلك من الصفات
بأضدادها من الصفات
أما في المرحلة التالية فلن يكون هناك أضداد، بل ستوجد
حقائق ونحن سنتعرف بتلك المرحلة التالية على الحقائق، وسنعيش بها الحقائق التي
آمنا بها واتصفنا بها قولا وفعلا في المرحلة السابقة، أي في مرحلتنا هذه
ولا أقول أننا في المرحلة التالية سنعيش نور خالص أو
ظلمة خالصة، بل سنعيشها أيضا بخليط من النور والظلمة، ولكن سنعيش حقيقة الظلمة
وحقيقة النور، وسنعيش حقيقة الصدق وحقيقة الكذب، وحقيقة الكرم وحقيقة البخل،
وحقيقة الشجاعة وحقيقة الجبن،وفي المرحلة القادمة سنكتشف حقيقة الاعتقادات التي
اخترناها ووجدنا السعادة هنا حين اتصفنا بها قولا وفعلا
فاذا أحببت الكرم والكذب في هذه المرحلة وكنت أجد
السعادة والراحة دائما وأبدا حين أعطي وحين أكذب، ففي المرحلة القادمة سأكتشف
حقيقة الكرم وحقيقة الكذب،وسأعيش وأستطعم وأستشعر حقيقة الكرم وحقيقة الكذب، وهناك
ستعاد الكرة مرة أخرى،
*ماذا تقصد بأن الكرة ستعاد مرة أخرى؟
+ أقصد أنه قد تستمر نفسي حينها باستشعار الراحة حين
أكذب وحين أستطعم وأتذوق حقيقة الكذب، وأنزعج وأتضايق كذلك حين أعطي وأتصف بالكرم
فأذوق حينها وأستطعم حقيقة الكرم، أي قد أتضايق من حقيقة صفة الكرم
وربما بالعكس أيضا، أي ان نفسي قد تستمر بالارتياح
وتطمئن حين تفعل الكرم، وتنزعج وتتضايق حين تفعل الكذب
وفي الحالتين ستسعى نفسي حينها للتخلص من ما يضايقها
من الصفات والأفعال
*وهل يمكن أن تكون حقيقة الصدق والكرم مؤلمة ومزعجة
فأنزعج وأتألم منها؟
+ لم أقل أن الحقيقة هي المؤلمة، ولكن ما قلته هو أن
النفس هي التي قد تتألم منها، وهي التي قد تنزعج منها وتريد الخلاص منها لذلك
*هل تعتقد أن الكريم والصادق في هذه المرحلة قد ينقلب
الى بخيل وكاذب في المرحلة القادمة لأنه يتألم من حقيقتهما؟
+ لم أقل أنني أعتقد بهذا، ولكن قلت أن هذا الاحتمال
وارد، ولولا وروده ووجود هذا الاحتمال في المرحلة المقبلة لأصبح الأمر فيها جبرا
لا اختيار فيه، وربما صعوبة فهم أو قبول هذا الفهم او هذا المنطق يعود لطبيعة
فهمنا الدارج للموت ولما بعد الموت وللجنة والنار والقمة والوادي الملتهب وغير ذلك
من هذه المفاهيم التي نتداولها فيما بيننا بدون أن ندقق في أصلها ومعانيها
الحقيقية
فالوصول الى القمة أو إلى الجنة والدخول في النار أو
في الوادي الملتهب لا ينتظرنا مباشرة بعد الموت، وإنما هناك حياة أخرى وأخرى وأخرى
ومراحل متعددة حتى نصل للقمة أخيرا أو ننزل للقعر، وكل فئة ستنظر حينها للآخرى على
أنها في القعر وأنها هي في القمة، فكلا الفئتان ستشعر حينها أنها هي التي في القمة
لأنها ستشعر بالسعادة والراحة بسبب اتحادها مع حقائق صفات تحبها وترتاح لها حين
تتصف بها، وتخلصت كذلك بنفس الوقت من صفات وحقائق صفات أخرى كانت تشعر بالضيق
والتعب حين كانت تتصف بها وتتحد مع حقيقتها
بتعبير آخر سيشعر كلاهما بأنه هو الذي في القمة أو هو
الذي في الجنة، وذلك ببساطة لأنه يشعر حينها بالراحة والسعادة النفسية وهي تملأ
وجوده وكيانه، ويعتقد معها أن الآخر هو الذي في النار أو في العذاب لأنه يتصف
بصفات كان يشعر هو بالألم يعصف به وبوجوده حين كان يتصف بها
فـقبل الوصول للقمة أو للقعر أو للموجب النقي أو
السالب النقي يجب أن تمر كل الزوارق قبلها في عوالم ومراحل متتابعة كلما انتقل
الزورق بها من مرحلة سابقة الى مرحلة تالية، زادت نقاوة تلك الصفات المتضادة
وحقائقها وزاد انفصالها عن بعضها البعض في كيان كل زورق من الزوارق،
ولكل زورق الحرية الكاملة في اختيار ما يريد أن يتصف
به من الصفات وفي ما يريد فعله من الأفعال خلال جميع تلك المراحل والعوالم
المتتابعة، ويمكنه أن يعيد في أي لحظة وأي مرحلة اصطفافه إلى جانب أي من الفريقين
ويكمل طريقه معهم
*ولكن ما الذي يجعل الزورق يشعر بالسعادة حين يتصف
بصفات أو يفعل أفعال سالبة أو سيئة؟
وكذلك لماذا يشعر بالتعاسة والضيق حين يتصف بالموجب ويفعل الموجب؟
+أعتقد أن السبب يعود للبدايات الاولى ولما جرى بها
*وماذا جرى بها؟
+حسب علمي أن كل زورق أو كل نفس زورق قد اختارت في
البداية الأولى التخطيط الاساسي لنفسها، أي اختارت الصفات الرئيسية التي تريد أن
تتصف بها وأن تختبرها وتشعر بها، وما المراحل التالية الا لكي تملاء ذلك التخطيط
الأساسي الذي اختارته بنفسها لنفسها من تلك الصفات ومشاعرها وحقائقها، وستبلغ قمة
السعادة حين تكمل ملئ ذلك التخطيط الأولي بحقائقه التي ستختبرها بنفسها وتختارها
بنفسها حقيقة تتلو حقيقة وشعور بعد شعور ومرحلة بعد مرحلة حتى تملئ جداول تخطيطها
الاساسية تماما كما خططتها منذ البدء
ونوع ذلك التخطيط غير مهم، وسواء ملأته بالموجب أو
بـالسالب هذا لا يهم أيضا، فسعادتها مرتبطة بتمكنها من ملئ مخططها الأساسي بما
يلائمه من الصفات الموجبة كانت أم السالبة، وطبعا حتى هذا المخطط يمكن لكل نفس أن
تبدله وتغير به ما تشاء، لا يوجد شيء ثابت لا يمكن تبديله نهائيا، فحرية الاختيار
مضمونة ومكفولة على طول الخط وفي جميع المراحل، وكلا الطرفان حين يتحدان مع تلك
الحقائق سيشعران بالسعادة وسيبلغان القمة كذلك، ولكن سعادة أحدهما لا تشبه سعادة
الآخر، بل ان سعادة أحدهما هي تعاسة الآخر وشقائه،
*يدور في ذهني سؤال أتمنى لو أجد عندك له إجابة
+ تفضلي وأتمنى أن أستطيع أن أجيبك عليه
*لماذا تعتقد أن النهر يقترح أننا قد نناسب بعضنا البعض؟ فأنا لا أرى أنه
يوجد بيننا أي تشابه بلميول أو حتى أي توافق فكري، وأرى أننا مختلفان تماما عن
بعضنا، فكيف من المعقول أن يختارك لي ويختارني لك؟
+ربما لهذ السبب تحديدا يعتقد النهر أننا نلائم بعضنا البعض
*وكيف يكون ذلك؟ أقصد كيف يكون الاختلاف سبب للتوافق والتلائم
+ ليس من الضروري أنه يريد التلائم بيننا، ربما هو يريدنا أصلا أن نختلف مع
بعضنا البعض
*ماذا تقول؟ يريدنا أن نختلف مع بعضنا البعض؟
+ لا أقول أنه يريد ذلك حتما ولكن أقول ربما هو يريد ذلك
*ولماذا قد يريد ذلك؟
+ بالإضافة الى أن الاختلاف قد يكون سببا لإخراج أجمل وربما أقبح ما فينا
فانه قد يريد أيضا أن يعيش من خلالنا لحظات الاختلاف فيتذوقها ويعيشها من خلال
أبصارنا وأسماعنا وحواسنا
*وماذا تقصد بأنه يريد أن يعيشها من خلال أبصارنا وأسماعنا وحواسنا؟
+ أقصد أنه سيعرف نوع الشعور الناتج من حالات الاختلاف والاتفاق التي سنمر
بها خلال حياتنا معا
*وكيف سيعرف النهر نوع الشعور الناتج من حالات الاختلاف والاتفاق التي سنمر
بها خلال حياتنا معا؟
+ لا تنسي أن النهر هو رمز للماء فعندما أقول النهر فإنني أقصد الماء
بالدرجة الأولى، ولكن حصل أن النهر هو رمز عظيم من رموز الماء، ونحن كما تعرفين
مخلوقين من الماء وليس نحن فقط بل كل شيء حي لا بد أن يكون له علاقة قوية وأساسية
بالماء، ونفس المشاعر والأحاسيس مرتبطة بالحياة أي أنها مرتبطة بالأساس بالماء
الذي هو نبع الحياة ومصدرها، وبما أننا مخلوقين من الماء فمشاعرنا كلها متصلة
بالماء، فإذا شعرنا بأي شعور فالماء سيشعر به معنا لأننا فعلا مخلوقين من الماء
ونشعر ونحيا ونتحسس بفضل الماء الذي نحن منه مخلوقون، فكل شعور وكل احساس وشعور
يحسّ ويشعر به أي شيء حيّ فإن الماء يشعر ويحسّ به معه أيضا
*ماذا عن الأشجار والحشرات والطيور والأسماك والغيوم والهواء؟ فهل يشعر
الماء بما تشعر به ويحسّ كذلك بما تحس به؟
+ بالتأكيد نستطيع أن نقول ذلك، ونستطيع أن نقول أن كل حي مهما كانت صورته
هو بمثابة عين من عيون الماء، والماء يرى ويشعر بالحياة وطعم الحياة وأحاسيس
الحياة جميعها من خلال عيونه جميعها، فالماء يعرف شعور الدودة في باطن الأرض من
خلال نفس الدودة، ويعرف شعور واحساس الطير في السماء من خلال نفس احساس الطير
وشعوره، ويعرف شعور الأشجار والزهور والنباتات والخضار والحشائش والأشواك من
خلالها نفسها، ويعرف شعور القارب والقاربة، والزورق والزورقة، والمتزوج والمتزوجة،
والأرمل والأرملة، والمذنب والمذنبة، والتائب والتائبة، ويعرف شعور المجاهد وشعور
المرتزق، وشعور الظالم والمظلوم، ويشعر بألم السقيم وغفلة المتعافي، وبغضب المظلوم
وتعالي الظالم، وبشكر الشاكر ونكران المنكر، وكل ذلك يكون من خلال كل فرد منهم
فلذلك أقول لك أن النهر ربما يريدنا أصلا أن نختلف مع بعضنا البعض وذلك لكي
يستشعر من خلالنا بمشاعر جديدة ناتجة من اجتماع شخصيتين فريدتين
*تقصد أنك وانني فريدان من نوعنا؟
+ كلا أقصد أن كل مخلوق حي هو مخلوق فريد من نوعه، حتى لو تشابه مخلوقين أو
حتى الملايين من الخارج فان كل فرد منهم هو فريد من نوعه في الحقيقة من حيث
التفكير والاختيار والارادة
ويوجد ......
*أكمل ماذا يوجد أيضا؟
+ يوجد هناك احتمال آخر أيضا ولكنني لا أريد ذكره لكي لا تفسري ذلك على أنه
محاولة مني للتأثير على قرارك
*لا عليك لن أبدل رأي بسبب أي شيء قد تتفوه به، فقل لي ما يجول برأسك
+حسنا، انه يقول لنا حين اختارنا لبعضنا البعض أننا من نفس واحدة، أي اننا
كلانا من نفس واحدة
*من نفس واحدة؟ ماذا تقصد بذلك؟
+ أقصد أن لنا نفس واحدة وكلانا ننتمي لها بالأصل
*وكيف لذلك أن يكون؟ كيف يمكن أن نكون نفسين منفصلتين ومختلفتين أيضا ولكن
من نفس واحدة في نفس الوقت؟
+ الأمر شائك بعض الشيء ولكن يمكنك أن تقولي أن مثلنا ومثل النفس التي نحن
منها مثل الذراع وأصابعها، فنحن الأصابع والنفس التي نحن منها هي الذراع
للحظات صمتت الزورقة بها، فيما كان المتخيل يراقب الموقف باهتمام واستمتاع
شديد، هل ستتذكر الاتفاق الذي تم بيننا؟ هل ستتذكر دورها الذي وافقت بإرادتها على
أن تلعبه، ليتها تتذكر ذلك، فحينها، فحينها، ستتقبل برحابة صدر جميع ما أتخيله لها
من المواقف، حينها سأستطيع معها ومن خلالها وبأقصر مدة أن أختبر أكثر عدد من
المشاعر والأحاسيس والتجارب الزورقية
حسنا يبدو أنه قد حان وقت المباشرة بالترتيبات وإدخال الشخصيات الجديدة مع
زورقتي الصغيرة في هذه الأحداث
يتبع إن شاء الله
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جميييلة القصة جدا جدا واحببت طريقتك بسرد القصة لتوضيح انواع الانفس بذكاء .. سأبحث عن بقيتها بالمدونه وان لم تسرد بعد فأنا انتظرها بكل شوق وشغف 😍💚✨ ممتنة
ردحذفجميلة و معبرة مشكور .الحياة اختلاف و تكامل و تشابه و لكل دوره
ردحذفالحياة تشابه و اختلاف و كل شيء متكامل مع بعضه و يؤدي دوره للخير
ردحذفالتشابه والاختلاف والتفرد وغيرها هم من يدفعو الحياة للتقدم نحو هدفها ...وكما يقال كلو خير
ردحذفكما يقال ..كلو خير مهما كان ظاهره
ردحذفشكرا جزيلا على التعبير الجميل ❤❤
ردحذف