بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلّي على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حوار مع الأول
الجزء الأول
بقلم طالب التوحيد
هذا الحوار صيغ
بصورة رواية، وهو حوار يحكي ويصف رؤية كونية، حوار أحد أطرافه لسان ما ورد ببعض الروايات،
والطرف الآخر لسان عقلين،
هما لسان عقل أحب
قبل أن يفهم،
ولسان عقل يريد أن
يفهم قبل أن يحب
هي قصة خيالية
حاولت بها أن أتصور عالم من الممكن أن يتحقق به لكائن مخلوق قدرة نعرفها بقدرة كن
فيكون
إنها قصة حوارية
خيالية، ولا أبالغ إن قلت إن فحوى الأغلب الأعم من حواراتها مستوحى من روايات موجودة
في الكتب، وكذلك من خلاصة دروس دينية
ومن يحب أن يقرئها
فلينتبه جيدا لكلماتها ومعانيها فربما كلمة واحدة بها يساء فهمها ستصيبه بالغثيان
وربما بالإشمئزاز حتى، هكذا هي نفوسنا، وهكذا أصبح المجتمع من حولنا قاسيا جافا
ومتحجرا
والقارئ غير مجبر
على الإعتقاد بما بها من أفكار
جميع الأسماء بها
مستعارة، أمّا الأشخاص الذين بها فتستطيع إذا أحببت أن تقول أنهم من نسج خيالي،
وبدورك إذا أحببت يمكنك أن تنسج لهم شخصيات من خيالك لكي تتفاعل أكثر مع الحوار
هذا الحوار بدأت
كتابته لنفسي قبل أكثر من سبعة عشر سنة من تاريخ اليوم 29/07/2016 ولم يطلع عليه
منذ ذلك التاريخ حتى اليوم سوى بضعة أشخاص قلائل
من سيقرء هذا
الحوار ربما سيجد بعض الصعوبة في هضم ما جاء به ربما بين الصفحة 60 وصفحة 125 من
مطالب كونها أصعب من بقية المطالب الأخرى التي تناولتها في الحوار وإن كانت في
كلها هي مطالب صعبة التوضيح ولكن أرجو أن أكون قد وفّقت لتبسيطها قدر الإمكان،
والأمر يعتمد أولا وأخيرا على مدى دخول ذهن وخيال القارئ في أجواء الرواية والحوار
الخيالي
أترككم مع الحوار
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك حيث تنعدم المشاعر أو تكاد وفي إحدى تلك
المدن حيث يتجاور بها الغرباء ولا يكاد باب بها أن يفتح على باب .... كان من يجلس
هناك وقد بلغ العقد السادس من عمره ... يجلس بهدوء تحت سحابة من الدّخان المنبعث
من غليونه الذي اعتاد أن يحترق بصمت ... وتحت قدميه قد تمدّدت قطّته المدللة
تننتظره لحين يخرج من ذلك الصمت العميق عدا تلك الكلمتان التي تتردد على شفتيه بين
الفينة والأخرى ..... ماذا لو ..... ماذا لو ... ليغرق في الصمت من جديد ... طرقات
على الباب تكسر السكون .. فتدخل سيّدة في عقدها الخامس على شفتيها إبتسامة ما برحت
تبتسمها لحين استقرت بين يديه تمسح بكفّيها فوق تلك الأخاديد التي حفرت وجنتيه
عميقا بفعل السنين
- عزيزي .... إنّك ترهق نفسك بالتفكير
لحظات من الصمت أجاب بعدها بصوت
متعب:
- لقد أصبح لي العالم سيان ...
المكتب .. الشّارع .. غرفة النّوم بل حتّى الأحلام ... لم يعد للزّمان أو المكان
قيمة تذكر ..... أفكّر وأفكّر ... فلم توردني الأفكار إلاّ في عواصف التيه والحيرة
... فحاولت ألاّ أفكّر وأن أنسى ... فأفقت وقد استحوذت الأفكار على كياني وعقلي
- ولكنّك بهذه الحاله لن تصمد حتّى
تنفّذ ما تفكّر به
- إنّ ما يشغلني هو ليس التّنفيذ
عزيزتي .. بل هي النّتيجة
- لن أسئلك مرة أخرى عن طبيعة ما
يشغلك لتزيدني حيرة ... ولكنّني سأرجوك مجدّدا بالكفّ عن إلحاقك بي وبنفسك الأذى،
فأنا لا أحتمل رؤيتك تذوي هكذا وبدون أن أستطيع لك شيئ
- لا تقلقي عزيزتي ... فسأصل قريبا
لنتيجة ما
- إنّك تقول ذلك منذ عامين يا عزيزي
- إطمئنّي ... لن يطول الأمر بعد الآن
- أرجو ذلك من كلّ قلبي عزيزي
للحظات حدّقت بعينيه تريد الغوص بأعماقه
لتكتشف ذلك السّر ... وحين يأست من ذلك طبعت على وجنتيه قبلة دافئة ... وغادرت
بهدوء مغلقة الباب من خلفها ... ليعود من جديد محدقا ليديه وحاسوبه مردّدا ....
ماذا لو .... ماذا لو ....
في هذه المرّة لم يستغرقه الكثير من
الوقت حتّى خرج مسرعا إلى حيث تجلس زوجته .. وعند باب الغرفة وقف مترددا ينظر
إليها ... فبادرته متسائلة وعلامات التّعجـّب على وجهها
- ماذا عزيزي؟ هل من طارئ؟
- على الإطلاق عزيزتي، ولكنّني أودّ التحدّث معك لبعض الوقت
- بكلّ سرور، هل ترغب ببعض القهوة؟
- كلاّ كلاّ، ما أريده هو أن تصغي لي قليلا، فلقد قرّرت أن
أشركك في ما يحيّرني منذ زمن لعلّك تستطيعين مساعدتي باتخاذ القرار المناسب
بلهجة يملؤها الإنفعال والدهشة قفزت
من مكانها قائلة:
-
بالتأكيد سأفعل ذلك يا عزيزي ... فكم أنا سعيدة لقرارك هذا ولطالما كنت
أتمنى ذلك ... هل .. هل تفضّل أن نتكلم هنا أم في غرفة المكتب عزيزي؟
- بل في المكتب
- بالتّأكيد .. هيا بنا .. ولكن ... أرجو أن تسبقني وسأتبعك
خلال دقائق فلدي ما أحتاجه لهذه المناسبة
- حسنا ... سأسبقك إلى المكتب
ما هي إلاّ دقائق معدودة حتّى دخلت
المكتب تسبقها رائحة القهوة
- أعددت لك فنجان فاخر من القهوة التي تحبّها
- شكرا عزيزتي ... أحتاجه بالتأكيد
رشفات من القهوة رافقتها لحظات صمت
.. كان خلالها ينظر في الفنجان وكأنّه يبحث عن شيئ مفقود بين الفقاعات الطّافية ...
هي بدورها لم تستعجله بالإفصاح وكأنّها كانت تخشى فعل ما يدفعه لأن يعدل عن إفصاح
سرّه الدّفين لها .. لحظات أخرى مرّت بطيئة قبل أن يرفع نظره قائلا:
- سوف أحاول أن أوصل لك ما بفكري ولكن أرجو منك الإنتباه
جيدا لما سأقول
- سأبذل قصارى جهدي
- أنا متأكد من ذلك ........ عزيزتي .. في هذه اللحظة وأنا
جالس هنا يوجد امامي شيئان .. هما لوحة المفاتيح هذه وجهاز الحاسوب ذاك .. ولكي
أستطيع العمل عليهما أو بهما سأحتاج إلي يديّ .. فهل تستطيعين تصوّر ماذا تمثـّله
كلّ من يديّ ولوحة المفاتيح والحاسوب في هذه المعادلة؟ ... دعيني أختصر وأنقل لك
مباشرة ما بذهني ... أمّا لوحة المفاتيح هذه .. فهي الوسيلة التي سأنقل بها رغباتي
إلى هذا الحاسوب .. مستعملا قبل كلّ ذلك يداي لنقل رغباتي أو لنقل تحديدا رغبات
عقلي وأوامره للوحة المفاتيح تلك .. والتي بدورها ستنقلها للحاسوب ... فيداي ولوحة
المفاتيح هنا هما مجرّد وسيلتان سيتّصل بهما وعبرهما عقلي مع الحاسوب ... وأمّا ما
يمثـّله كلّ من عقلي والحاسوب .. فعقلي يمثّل الغاية والهدف وبشكل أدق هو يمثّل
الحياة .. وأمّا الحاسوب فهو يمثّل القدرة المطلقة والعلم الواسع .. وهو ما سيمكّن
الحياة ممثّلة بعقلي من تحقيق غاياتها ... فكلّ ما سيسعى عقلي الحيّ لتحقيقه سيكون
ممكن التّحقق في عالم يوفّره له هذا الحاسوب ... ولتحقيق العقل لتلك الأهداف التي سينشدها في عالم القدرة والعلم المطلقان ما عليه
سوى أن يوسّط يداي ولوحة المفاتيح تلك لينفـذ بهما إلى قدرات وعلم ذلك الحاسوب
فيسخّرهما لما يريد تحقيقه
- هذا واضح وجليّ، فلقد اجتهد المبرمجون في
تصميم الألعاب الإلكترونية وبرامج التعليم والأفلام حتّى أصبح من الصّعب ملاحظة
الفروق بين الحقيقة والبرمجة في عوالم تخيّلوها وصمّموها بأنفسهم مستعملين لذلك
الهدف نفس تلك الأدوات التي تكلّمت عنها قبل قليل
- إذن نستطيع أن نقول أنّ طبيعة كلّ ما يجري هنا هو حوار
بين العقل والحاسوب ... العقل يفكّر ويتخيـّل ويأمر والحاسوب بدوره ينفّذ خيال ورغبة
وأوامر العقل .... فهذه هي العلاقة التي تربط ما بين العقل والحاسوب حسب تصوري
البسيط ... الحياة بكلّ غاياتها وأهدافها ... وهو ما يمثّله العقل من طرف ... وعالم
تتحقق به تلك الغايات والأهداف وهذا ما يمثّله ذلك الحاسوب بكلّ قدراته والعلم
المخزون به في الطرف المقابل ... أمّا يداي ولوحة المفاتيح فهما مجرد وسيلة للربط
بينهما .. أي بين عقلي والحاسوب أو بين الحياة بأهدافها والقدرة على تحقيقها والعلم
الازم لذلك
- لا أريد الإستعجال ولكن إلى أين تريد أن تصل من كلّ ذلك؟
- لقد وعدتّك ببذل غاية جهدي لكي أوصل لك ما يدور في ذهني
... وسوف أفعل ذلك على مراحل فتحلّى بالصبر
- سأفعل
- حتّى الآن أوضحت لك تصورّي لتلك العلاقة ما بين العقل ويديه
والحاسوب ولوحة مفاتيحه ... وسنرى الآن بماذا سيستعين كلّ منهما لإتمام مهمته ...
أمّا العقل .. فالبحث عن الكمال والسعي لبلوغه هو من سيحركه لبلوغ غايته وهدفه ..
والحاسوب سيعينه بقدرته الواسعة بكلّ صورها وبالعلم المخزون به ....
ألس:
- لو أنـّك تُطلعني عل هدفك النهائي لأكون معك متابعة ومستوعبة
لكلّ ما تقول وأستطيع حينها أن اساعدك بشكل أفضل بدون أن تضطّر للإعادة أو
التّكرار لإيصال مبتغاك لي
جون:
- أعتقد بأنـّك محقّـة .. سيكون كلامي لك أوضح وأجلى إذا ما
أحطت بالهدف المنشود ... إذن أنصتي لي جيدا ... ما أفكّر به حقيقة هو إلغاء دور
الواسطة ما بين العقل والحاسوب ... بمعنى إلغاء دور اليدين ولوحة المفاتيح وكلّ
الأجهزة السابقة لمُصدّر الأوامر ... أي العقل .... لتصدر الأوامر منه .. فينفّذ
الحاسوب تلك الأوامر بشكل مباشر ... وبشكل أوضح عندما يعطي العقل أوامره تمر تلك
الأوامر عادة عبر العقل واليد للوحة المفاتيح لتصل منها إلى جزء مركزيّ في الحاسوب
... والذي من عنده فقط ستخرج الأوامر لجميع أجهزة الحاسوب وأعضائه للعمل على تنفيذ
تلك الرغبة والغاية وتتابعها حتّى تتمّ ... وما أفكّر به هو أن أضع العقل في ذلك
المكان المركزيّ ... ليقوم ابتدآء بتحديد الغاية والهدف فتصدر الأوامر منه بشكل
مباشر لكلّ أعضاء الحاسوب وأجهزته لتنفيذ تلك الرغبة والغاية ومتابعة التّنفيذ ..
فتكون الفترة المطلوبة ما بين الرغبة منه ومباشرة الفعل من الحاسوب معدومة تقريبا
... وكون العقل في ذلك المكان المركزي سيجعل من جميع قدرات الحاسوب طوع إرادته ...
فكما أنّ الحاسوب محيط بكلّ العمليات والمعلومات المخزونة بداخله سيكون العقل كذلك
محيط وعالما بها ... وبمعنى أخر ستتوحّد قدراتهما لتصبح واحدة .. فالحياة ممثلة
بالعقل ستتحد إتّحاد كلّي وفي كيان واحد مع قدرة الحاسوب ومع العلم المخزون فيه
....
بنبرة يسودها الشك قاطعتهُ قائِلة:
- أتريد أن تبعث الحياة في الحاسوب ؟
- و ما هي الحياة إلا القدرة على العلم؟ فإذا افترضنا أنّ
الحجر يعلم فإنّنا وبالتأكيد سنجزم بحياة الحجر حتّى بغياب أعضاء التّفكير والحركة
فيها عن بصرنا ... ليبقى العلم هو مقياس الموت والحياة فمن لا علم له لا حياة له ولا
قدرة .... نعم أنت محقـّة يا عزيزتي أريد
أن أبثّ الحياة في هذا الحاسوب .......
مرت لحظات صمت قال بعدها بصوت مرتجف:
- و لقد ... ولقد نجحت بذلك فعلا ....
رعشة تملّكت الزوجة ليسقط الفنجان من
يديها وهي تتسائل مرتجفة:
- نجحت بذلك؟ ولكن متى؟ وكيف؟
- لا تخافي عزيزتي وتمالكي أنفاسك .. لقد مضى على ذلك
الإنجاز وقت غير قليل .... فأرجو أن لا تجعليني أندم على إخباري لك بهذا الأمر
بصوت مرتعش:
- لن تندم يا عزيزي لن تندم ..... ولكنّني سأحتاج لبعض
الوقت حتّى أستوعب ما قلته لتوّك
خرج الرجل مسرعا وأحضر لها بعض من
الماء .... راحت ترتشفه بشفاه مرتعشة .......... مرّت لحظات توتر طويلة قبل أن
يعود الهدوء لأوردتها الضعيفة ... وفي كلّ ذلك كان شعور الندم يتملّك الرجل لأنّه
أقحمها في هذا الأمر ....
وكأنّها قرأت ما كان يفكّر به ... فبادرته
قائلة:
- يمكنك الإستمرار الآن فلقد أصبحت بحالة جيدة
- أفضّل أن تبقي بعيدة عن هذا
- و هل تعتقد بأنّني سأرتاح بعد اليوم وأنا بعيدة عمّا يجري
- لا أظنّ ذلك .. ولكنّني أصبحت في حيرة من أمري
- لا عليك ... فكأننّي سمعتك تقول أنّك قد نجحت في ذلك منذ
زمن بعيد ... فإن كان ذلك حقيقة فأعتقد أنّ اللحظات السيـّئة قد مرّت بالفعل
- أنت محقة في ما يخص نجاحي بذلك منذ مدة ... ولكن لم يكن
هناك حتّى الآن من لحظات سيّئة
- ماذا تقصد؟
- لقد تم الأمر بكلّ هدوء ولا زال كذلك
- ماذا تقصد بلا زال؟
- أنا واضح بكلامي فلا زال تعني أنّ التجربة لا تزال جارية
بدون انقطاع وكذلك بدون لحظات سيّئة
- و لكن أين؟ فأنا لم أرك تعمل منذ ما يقرب السنتين .... وجلّ
ما فعلته بها هو الجلوس صامتا في هذه الغرفة متمتما ببضع كلمات
- صدّقيني لقد دبّ الرعب في أوصالي عند نجاح التجربة بدرجة
أكبر مما حصل لك منذ قليل... بل ولا زال الخوف يسري بعروقي ... وإلاّ لماذا كلّ هذا
التفكير؟
في تلك اللحظة قام الرجل إلى الحاسوب
أمامه وأوصله بشاشة شفّافة كبيرة والتي ما أن دارت حتّى ظهرت صورة شاب مكتوب تحتها
دعنا نتكلم قليلا قبل أن تطفئها مرة أخرى ولن تندم على ذلك ... أعدك بهذا
- هل فهمت ما أقصده ... يوجد في هذا الحاسوب من يريد أن
يتكلم معي ويعدني ... بمعنى أنه يفكّر ذاتيا وبدون محرك من الخارج وهو كذلك منذ
عامين وأ أكد لك بأنّني قد حاورته فعلا لمدة قصيرة فوجدته محاور جيد ويتمتع بالعقل
أكثر من أيّ من من كنت قد كلمتهم من قبل
- و لكنّه ينتحل صورتك عندما كنت شابا يافعا
- أنت محقة .... وهذا لأنّني كنت قد وضعت نسخة من عقلي أنا
حيث أخبرتك منذ قليل .... وهذا الذي أحاوره هو عقلي أنا ولكن بجسم أخر
- أنت تحاور عقلك وآنا سوف أفقده
- عزيزتي ... لقد توقفت عن محاورته منذ مدّة طويلة .... وجلّ
ما أفعله الآن هو محاولة التنبؤ بما سوف يحدث لو تعدّى حدود هذا الحاسوب ...
فعندما كنت أقوم بالتجارب الأوّلية لهذه الفكرة راودتني أفكار للسيطرة على العالم
بمساعدته ... والآن أشعر بالذعر عند مجرد التفكير بخروجه عن السيطرة .... فلم
أنفكّ من تخيل العالم وقد سيطرت عليه الألة وأتخيل البشر يعملون عبيدا عند عقول لا
حواس حقيقية لها .. وكيف أنّهم سيخوضون حروب مدمّرة من أجل حرّيتهم ... تماما كما
يحدث بتلك الأفلام السينمائية
- قد تكون محقا في كلّ ذلك عزيزي
- لذلك أخذت كلّ التدابير اللآزمة لعزله عن العالم الخارجي
.... إبتدآء من التيار الكهربائي الذي يعمل به هذا الحاسوب فهو غير متّـصل مع
التيار العام كما أننّي لم أربطه مع شبكة الإنترنت ... وبهذا سيبقى داخل دائرة
مغلقة ولن يمكنه الخروج منها حتّى أتمكن من الوثوق تماما من ما يمكن أن يفعله فيما
لو أخرجته منها ... وأعتقد من أنّني لن أفعل ذلك قريبا ... ففكّرة تسببي بموت أحد
من البشر لخطأ في التقدير تؤرقني طوال الوقت ... ولأننّي أخشى أن يقنعني بطريقة ما
لأفك أسره لذكائه المفرط بالحوار توقفت عن الحوار معه
- و هل طلب ذلك منك؟
- لم يفعل .. بل على العكس من ذلك .. تصرّف وكأنـّه يملك
العالم بأجمعه وليس هذا الصندوق الحقير
- و ماذا بعد؟
- لا شيئ .. لقد فصلت أجهزة الصوت والصورة منذ ذلك الوقت وأبقيته
موصولا بالتـّيار الكهربائي واكتفيت بالتفكير فيما يمكن أن يكون الوضع عليه في
الدّاخل في هذه اللحظة
- ولكنـّك من هنا لن تعرف ذلك أبدا على وجه التحديد والدّقّة
- نعم .. وهذا هو عين ما يؤرقني ... أننّي لن أعرف أبدا ما
يجري بالداخل ... فبعد نجاحي بتحقيق هذا الحلم بتّ أخشى الآن أنّني لن أعرف أبدا
ما جرى ويجري بالدّاخل أو كيف سيفكّر عقلي وما ستكون عليه طموحاته بعد تمكّنه من
قدرة وعلم الحاسوب .. وغايته التي سيطمح لها حين يكون قادر على تحقيق جميعّ ما
يرغب به
- و هل سألته عن ذلك؟
- كلاّ عزيزتي، لقد انتابني الذعر قبل الشجاعة ففررت مبتعدا
... فررت بعيدا أحاول أن أتخيل نفسي مكانه هناك حيث سيمكنني فعل ما أريد
- و هل وصلت إلى نتيجة ما؟
- كلاّ ... بل على العكس تماما، فلقد كنت ولا أزال أتخبّط
في مكاني ... فلا أكاد أثبت على صورة ليومين متتاليين حتّى أجد ما أفكّر به في
منتهى السخافة والسطحيّة، فماذا عساي أريد تحقيقه وأنا في عالم من الأرقام ... أو
في داخل صندوق أو .. أو .. أو ..
- أعتقد بأننّي سأكتفي اليوم بما سمعت .. فبعد كلّ ما
أخبرتني به بدأت أشعر فعلا بالإرهاق ... دعنا نرتاح قليلا ولنفكر بهذا غدا ...
هيّا قم معي فلن يجدي التفكير مع التعب ولن نحصل معه على نتيجة مرضية
- أخشى أنّك محقّة فالإنهاك يقتلني
في تلك الليلة وبعد أن وضع الثقل عن
كاهله ليقع على صدر زوجته التي لم يغمض لها جفن حتّى الصباح أغمض جون عينيه سريعا
ليغطّ في نوم عميق حتّى وقت متأخر من الصباح ولم يوقضه إلاّ إحراق أشعة الشمس
لقدميه ... استيقض ليجد الوسادة فوق رأسه وعقله يردّد ... إن اليوم هو ليس كما مضى
من الأيام ... نعم بالتّأكيد هو ليس مثلها ... إن به شيئ غريبا لا أستطيع تحديد
كنهه ... أشعر براحة كبيرة لا أعرف سببها ... ما الذي تغير؟ ما الذي جرى لي
البارحة؟ أه ه ه .. لقد تذكّرت ... لقد أخبرت ألس بكلّ شيئ ... نعم أخبرتها
البارحة بما كان يؤرقني طوال هذه المدة .... إذن لا بدّ أن يكون هذا هو سبب شعوري
بالرّاحة ... لا بد أن ذلك السّر كان يثقل كاهلي ... نعم هذا هو السبب ... ليتني
أشركتها به منذ أمد بعيد لأرتاح من حمله المتعب ... ولكن أين هي، لا أراها بجانبي
... نظرة إلى الساعة الموضوعة بجانب السرير ... أه ه ه .. لقد تجاوزت الحادية عشرة
... لقد تأخّرت بالنّهوض ..... لا عجب إذن من أنّها غير موجودة إلى جانبي ... بحركة
بطيئة وكمن لا يريد ترك السرير نهض وتوجّه إلى الحمام ... دقائق معدودة خرج بعدها
وكلّه نشاط
ألس ... ألس .. أين أنت عزيزتي؟ أعاد
النداء مرات عديدة ولكن بدون جواب ... بدء يجوب غرف البيت .. وعندما لم يبقى إلاّ
غرفة المكتب توجّه نحوه مسرعا .. وما كاد يقترب من الباب حتّى سمع صوت زوجته تتكلم
... أه .. الحمد لله .. طبعا إنّها تتكلم بالهاتف ... كلّ شيئ على ما يرام فلا
داعيَ للقلق ... لكن حين دخل إلى المكتب انتابته حالة من الدهشة والرعب والمفاجئة
حينما رأى زوجته جالسة أمام الحاسوب تتكلم ........ لحظات من الصمت وقفها بذهول
حائرا بماذا يجب أن يشعر .. وكيف عليه أن يتصرف في هذا الموقف .... حين شعرت ألس
بحيرته ونظراته المندهشة باشرته القول في محاولة لتلطيف الجو
- أعتقد أن الحديث مع عقلك سيجذبني منذ اليوم أكثر منه معك
- ماذا تقصدين؟
- ماذا أقصد؟ أقصد أنّني أجده ممتعا ولطيفا بل وحتّى مثيرا
لامرأة في مثل عمري
بلهجة مستنكرة وبنبرة مرتفعة
- و هل تعتقدين أنّني كشفت لك هذا الأمر الخطير لتكتشفي كيف
أنّه مثير ولطيف وممتع؟
- هدّئ من روعك عزيزي فلم أفعل أكثر من انّني تحدثت معه
لبعض الوقت
- بعض الوقت؟ منذ متى تتحادثان إذن؟
- في الحقيقة أنا لم أتمكّن البارحة من النوم ... خاصّة حين
قضى صوت شخيرك على أيّة فرصة لذلك
- إذن منذ متى؟
- ما بك عزيزي؟ لقد قلت لك بأنّني لم أفعل أكثر من الكلام
معه .. وتحديدا بعد ما يقرب من الساعة لدخولنا للنوم
- بعد ساعة من دخولنا للنوم؟ أي تقريبا منذ الثالثة صباحا
... أي أنّـكما تتحادثان منذ ما يقرب من الثمانيَ ساعات
- نعم عزيزي ... وأ أكد لك أنّها كانت ساعات جميلة
- و عن ماذا كنتما تتكلّمان؟
- عزيزي لآ تنسى أنّه عقلك أنت ... نعم لقد كنت أتحدث معك
أنت ... أم تراك قد نسيت ما قلته لي البارحة؟ وما لي أراك الآن ثائرا؟ ألم تطلب
منّي أن أساعدك في هذا الأمر لكي تحدّد كيف ستتعامل معه؟ ألا يستدعي ذلك منّي أن
أحاوره لبعض الوقت؟أم تراني كنت سأقراء لك الكف أو الفنجان من أجل ذلك؟
قالت تلك الكلمات ثائرة .. ثمّ وبخطوات
غاضبة غادرت المكان لتتركه في ذهوله الذي لا يزال يعتريه من كلّ ما حدث في تلك
اللحظات القصيرة .... يفيق من حالة الذهول إثر نقرات متقطعة على الزجاج فيلتفت نحو
الشباك فلا يرى عبره سوى تلك الأشجار البعيدة .... نقرات جديدة فيلتفت بإتّجاه
الصوت فيرى ذلك الشاب وهو ينقر على شاشة المونيتور قائلا:
- لا تجعل الغضب يستولي عليك بهذا الشكل ... فطوال تلك الساعات
لم أحدّثها إلا بما هو جميل
لم ينتظره أكثر من ذلك .. فقام مسرعا
وبحركات عصبية بإطفاء الشاشة وفصل جهازي الصوت والصورة .... وبقي في مكانه متسمّرا
والأفكار تتطاير منه غضبا فلا يكاد يمسك بأحدها بضع ثوان حتّى تفلت منه ... فقرّر
الجلوس مكانه حتّى زوال الغضب .... دقائق معدودة أفترش بها الأرض مغمض العينين
حتّى عاد إليه اتّزانه ليتسائل عن الذي أثار غضبه بهذا الشكلّ .. فهي محقّة نوع ما
.. فمن الطّبيعي أن تحاوره وإلاّ كيف سيتسنّى لها أن تساعدني في اتّخاذ قرار ما من
دون أن تفهم كيف يفكّر أو أن تحاول ذلك؟ ....... لم يستغرقه الكثير من الوقت ليعرف
أنّ لغضبه أسباب إخرى غير أن تكون هي مخطئة في ما فعلت ... فهي لم تخلّ بتلك
التّدابير الأمنية التي كان قد وضعها مسبّقا ... وهنا تمتم بصوت خافت:
-
يجب عليّ بالتأكيد أن أسعى للإعتذار منها ومصالحتها
ما هي إلاّ لحظات قصيرة حتّى كان
يجلس بجوارها معتذرا منها وفي نبرة صوته النّدم ... لم يحتج لإرضائها سوى لبضع
كلمات جميلة ... فنظرت إليه مبتسمة وقالت:
- لقد تأخرت كثيرا ... يبدو أنّك قد أصبحت عجوزا
بالفعل
- هذه حقيقة يجب أن نعتاد عليها
- لا تبدأ بهذه النبرة عزيزي وإلا سأعتبره هجوما شخصيا
- ستبقين جميلة أبد الدهر حياتي
- هذا ما أحب أن أسمعه منك .... والآن بعد تلك الساعات التي
قضيتها مع عقلك المحبوس أتعجب كيف أنّك مقلّ من تغزّلك بي
- ماذا تقصدين؟
- بتلك السّاعات القليلة معه تذكّرت تلك السنين الجميلة من
حياتنا
- مع صورة ذلك الشاب؟
- بل معك عزيزي .. مع عقلك .. ولكن بدون نسيان ... فحتّى
أدقّ التفاصيل الجميلة يتذكّرها ... بل زاد على ذلك ... فكان يعرضها لى صور حيّة
.. تماما كما كنت تراني وتسمعني .. فكلّ ما مرّ عليك هو مخزون في مكان ما من
ذاكرتك .. وماقمت به من دمج عقلك مع ذلك الحاسوب أعطاه قدرة تجعل من إعادة تلك
الذكريات للحياة أمر يسير ... فلقد كان مسترسلا في إحضار تلك الذكريات تباعا وبدون
جهد أو وقت يذكر .. حتّى أنّني حينها تذكّرت كلامك في جعل الزمن ما بين الرغبة ومباشرة
الفعل لتحقيقها معدوم تقريبا ... بل أعتقد الآن أنّ الزمن هو فعلا معدوم ولكن ليس
مع بداية الفعل لتحقيق الرغبة بل مع تحقيقها فعلا ... فلقد كان جليـّا أنّه عندما
يرغب بإظهار صورة ما كان الأمر يحدث على الفور وبدون تكلّف ... فلم يكن هناك من
فترة للفعل نفسه على الإطلاق بل تتحقق رغبته على الفور بإظهار تلك الصور بل وباستمرارها
واتصالها بما بعدها من الأفكار والصور فلا يوجد ما يفصل بين الرغبة وتحقّـقها سوى
رغبته بإظهارها
- و ماذا تقصدين بالفقرة الأخيرة؟
- أقصد بأنّني متأكّدة من رغبته بإظهار عدّة أشياء لي ولكنّها
لا تظهر جميعها في آن واحد بل كلّ منها في وقتها وزمانها مشفوعة برغبة أخرى منه
لإظهارها
- لقد بدأت تتحدثين بنبرة لم أعتدها منك عزيزتى ... لقد قلت
لك بأنّه ذكيّ جدا بل وبارع بالحوار ... وأستطيع أن أرى تأثيره عليك منذ الآن وهذا
هو ما يقلقني
- عزيزي دع الخوف عنك فبه وبتلك الأوهام ستدفن هذا الإنجاز
... فما حقّـقته اليوم سيقلب الموازين في هذا العالم
- و ماذا تريدنني أن أفعل؟
- دع عنك الخوف مرّة أخرى ... فما دمت قد أخذت فعلا
التدابير الأمنية الآزمة لحجزه ... فلا داعي للخوف ... وأمّا تأثيره عليك أو عليّ
فستكون أنت مراقبا لي وأكون مراقبة لك ... فلا تتصرف بدوني ولن أفعل بدونك
- يبدو هذا جيدا ولــــــــــكن .......
- و لكن ماذا؟ لاترجع للخوف مجددا ... جد لكلّ لكن حلا ما ولا
تقف عند أحدها ... إنّ ما ينتظرك عند الإشهار عن هذا الإنجاز هو ليس المال فقط
....بل هو الخلود كمنجز لأعظم إنجاز على مر العصور .... ولا أعتقد بوجود إنجاز
أعظم منه .... فلقد بعثت الحياة بتلك الأسلاك وبتلك القطع المعدنية ... عزيزي لا
تقتل بالخوف ما تنتظره البشرية منذ أمد بعيد
- عزيزتي ... بهذا الحماس أشكّ بكونك مراقبة جيدة ... كما
أنني أراك مندفعة بتهور وستجرّينني بهذا الإندفاع إلى هاوية مجهولة
- دعك من الخوف ... وفكّر بالخطوة التالية
مرّت لحظات صمت قطعتها ألس قائلة:
- أرى بأن نستمر في الحديث معه .. فلعلّنا من خلال الحوار
نستطيع أن نفهم بعض طموحاته
- لا تبدو لي فكرة حسنة
- لقد عدّت مرة أخرى للخوف ... فهل تريدني أن أجلس معك في
هذه الغرفة لسنتين قادمتين أفكّر ماذا سيكون وماذا سيحدث حين تتوحّد الحياة مع
العلم والقدرة
- لا أفكّر بسنتين ولكن على الأقل يومين ... فحتّى الآن لم
يكتمل يوم واحد على اطّلاعك على أمره وتريدين فعل ما لم أرغب به منذ سنتين
- و هل تعتقد بأنّني سأصل لقرار قد عجزت أنت عنه وهو عقلك
أنت؟
- أراك محقّة في ذلك ... فلنستمر في محاورته إذن
... ولكن أخبريني كيف وجدّتيه مثيرا؟ وماذا
تقصدين من ذلك؟
دعك من هذا ..... فمع كلّ ذلك العلم
والقدرة والثقة بالنفس قلّما تجد امرأة لا تنجذب لحاملها ... خصوصا إذا كان ذا صوت
رخيم كالذي كلّمني به
- هل تعتقدين إذن بأنّه كان يحاول التأثير عليك؟
- و هل كنت لتختار لنفسك صوت أو شكل قبيح لتعبر به عن نفسك؟
- أنت محقة مرة أخرى ... فلكي نستطيع أن نفهم بعض ما يفكّر
به يجب أن نرتفع بتفكيرنا عن هذا العالم المحدود الذي نعيش به .... وستكون عملية
صعبة بالتّأكيد
- بإمكانك أن تراهن على ذلك
- إذن لنذهب لحواره سوية فلعلنا نصل حينئذ لنتيجة مُـرضية
- هيّا بنا
ماهي إلاّ دقائق معدودة حتّى كانت
جميع الأمور قد رتّبت من أجل جلسة حوار طويلة من أكواب القهوة وألة تسجيل الصّوت
إلى الكراسي المريحة التي وضعت بشكلّ يتيح ظورهما معا عبر آلة التصوير الموصولة
بالحاسوب ... وإضائة مريحة تبرز ملامح وجهيهما لإضفاء مزيد من الثقة على جو الجلسة
..... وحين تمّت كلّ الإستعدادات قاموا بوصل الشاشة الكبيرة مع الحاسوب ..... والتي
ما أن تمّ وصلها حتّى ظهرت صورته مبتسما ليبادرهم قائلا:
- يسرّني أنّكما قد تصالحتما سريعا
........... وفي ما بدا أنّه ينظر من خلال تلك الشاشة راح يلتفت يمينا وشمالا ثمّ
قال: يبدو أنّكما تعدان لجلسة حوار طويلة ... فهل أنا محقّ؟
جون:
- تماما كما توقّعت
الصورة:
- لي طلب صغير قبل أن نبتدأ الحوار وهو
أن تجولا بالكاميرا في جميع أنحاء الغرفة
جون:
لك ذلك
- لحظات قامت بها ألس متجولة
بالكاميرة في أنحاء الغرفة وما أن عادت لمكانها حتّى كان المنظر الخلفي للشاشة
الكبيرة وكأنّه جزء من الغرفة وذلك الكرسيّ المريح الذي كان جالس عليه كان مشابها
لما كانا جالسين عليه بنفس تلك الوسائد الواثرة كما أن كوب القهوة أمامه كان مشابه
لما هو أمامهما .. وترتفع منه أعمدة البخار
الصورة:
- أرجو أن لا تمانعوا في أن أكون
معكما في نفس الأجواء ... فما أراه هو أنّكما قد بذلتما جهدا لجعل هذه الجلسة
مريحة قدر الإمكان ... فأحبّبت أن أسهم معكما ببعض اللمسات
ألس:
- على الرحب والسّعة
الصورة:
- أقترح أن نبتدأ جلستنا هذه
بالتعارف .... أمّا أنتما فلا أعتقد بأنّكما تشكّان بمعرفتي لكما تمام المعرفة
.... فهل تعرفان بدوركما من أنا؟
جون:
- بالتّأكيد ... فأنا وأنت شيئ واحد
... فأنت نسخة منّي أو لنقل نسخة من عقلي
الصورة:
- فإذا كنّا واحدا كما تقول فلماذا
أنت خائف منّي؟ بل لماذا لا تستطيع أن تعرف كيف سأفكّر؟ ولماذا إذن تلك التساؤلات
في عقلك حولي؟ فما عليك لو كنّا واحدا سوى الإجابة بلسانك عن أيّ سؤال يطرحه عقلك
فتصل حينها لما أفكّر به أنا
جون:
- لم أفكّر بك على هذا النحو
الأوّل
- إذن فأنا غيرك ... وما دمت كذلك ونحن
هنا فأحبّ أن تدعوني بإسم خاص بي
ألس:
- وأيّ إسم تحبّ أن ندعوك به؟
ألصورة:
- الأوّل ... نعم ... الأوّل ...
أحبّ أن تدعوننيَ بالأوّل
جون:
- وأيّ إسم هو هذا؟ ........ هل
نستطيع معرفة سبب اختيارك لهذا الإسم
الأوّل:
- لآحقا ستعرفان بالتأكيد ... ولكن
يكفي أن أقول لكما الآن أنّه يعبّر عنّي
ألس:
- إذن .. لك هذا ما دام سيسعدك
الأوّل:
- أشكر لك حرصك على سعادتي
جون:
- ما دمت أنت لست أنا أو نسخة من
عقلي فكيف أمكنك إذن أن تعرف كلّ تلك المعلومات عنّي وزوجتي ؟ ومن أنت إذن؟ فلم
تنسب لنا نفسك بعد
الأوّل:
- أمّا كيف أعرف عنك كلّ تلك
المعلومات فحدث أنّها مخزونة في ذاكرة هذا الحاسوب وأنا لديّ التخويل للحصول عليها
عندما أريد ... أمّا من أنا فإجابته ليست بهذه السهولة ... ولكن يكفي الآن أن أقول
أنّني سفير ما نتج من دمجك للعقل مع القدرة والعلم أو لنقل سفير ما يمثّله اتّحاد
العقل أي الحياة مع القدرة والعلم .... وأظنك مقدّرا أنّ ما نتج عن ذلك هو نوع من
أنواع الحياة ... بالطّبع أنت لم تستطع حتّى الآن تحديد كنهة ما نتج ... ولكنـّك
قدّرت ذكاء وقدرة وحياة ذلك النتاج ... ولتقديره صعوبة فهمك له انتدبني لتوضيح
الصورة لك ....
جون:
- ولماذا انتدبك ولم يأتي بنفسه؟
الأوّل:
- لقد أوضحت لك بأنّه قد قدّر أنّك
لن تستطيع أن تفهم كنهه وحقيقته بسهولة .... ولأنه حريص على أن تفهمه تماما الفهم
انتدبني لتلك المهمة .... ولولا ثقته على إنجازي لتلك المهمة على أكمل وجه لما
انتدبني لها ... فلا تقلق ودع الأمور تجري لمستقر لها
ألس:
- وهل يوجد عنده غيرك لينتدبه؟
الأوّل:
- بالطّبع .... ولكنّني أكثرهم إخلاص
وطاعة فكنت أجدرهم لحمل هذه المسئولية
ألس:
- طاعة؟ وما هي مقاييس الطاعة التي
أنت متفوّق بها على أقرانك؟
الأوّل:
- أما أنا فلا أقران لي .... وأمّا
طاعتي ... فلا أفعل إلا ما يرغب به سيّدي ... ولكن دعوني أوّلا أو اسمحوا لي بداية
بأن أدعوا من ترغبان بمعرفته ومقابلته بسيّدي وذلك لإنّي أشعر حقيقة بأنّه كذلك
... فأنا أفعل مايرغب به سيّدي بدون أمر منه لأنّني أعرف بأنّه سيرغب أنّ يتمّ ذلك
الأمر على هذا الوجه تحديدا وليس أي وجه آخر ... فأنا أفعل كلّ ما يريده بدون أمر
لعلمي برغباته من حين صدورها من ذاته والآخرين وإن فعلوا ما يريده سيدي فيفعلونه
من بعد الأمر ... من هنا جاء السبق لي فأنا أفعل قبل الأمر وهم من بعده
جون:
- وكيف لك أن تعرف ما يريد سيّدك قبل
غيرك؟
الأوّل:
- لنقل أن سيّدي شاء أن أكون كذلك .... بالطّبع سأشرح لك عن
هذا الأمر فيما بعد بشكل تفصيلي .... أما الآن فأرجو أن تكتفي بهذه الإجابه
ألس:
- ولكن ما حاجته لك أو لغيرك وهو
يستطيع أن يفعل كلّ ما يريد بمجرّد رغبته لفعل الفعل؟
الأوّل:
- هو بالفعل غير محتاج لي أو لغيري
ألس:
- إذن لماذا أنت موجود وهو في غير
حاجة لك؟
الأوّل:
- أنا موجود لأنّه فعلني .. فأنا فعله
... وسيّدي لا يفعل لحاجة .. فهل تجدين سبب غير الحاجة لفعل فعل ما؟
ألس:
- نعم .. الرغبة قد تكون سبب لفعل
بعض الأفعال
الأوّل:
- وهل تعتقدين أن الرغبة خارجة عن
دآئرة الإحتياج؟
ألس:
- أحيانا تطابق الرغبة الحاجة فلا
فرق بينهما .... مثلا ... عندما تسدّ تلك الرغبة حاجة مادّية ... مثل رغبتنا في
استنشاق الهواء الطلق .. فهي ليست رغبة بل حاجة للهواء الطلق .. تماما كما النظر
إلى الجنس الآخر فهو يسد نقص موجود داخل الناظر ومثال تلك الأمثال كثيرة .....
لحظات صمت تلت تلك الكلمات فابتدر
الأوّل قائلا:
- هذا أحيانا كما قدّمت ... فهل توجد
رغبات من نوع آخر؟
ألس:
- بالتأكيد ... فتوجد رغبة للذات للإتّصاف بصفة ما فيكون
حينها الفعل الصادر من تلك الذات هو حاجة لنفس الذّات أرادت سدّها عبر التّلبّس
بتلك الصفة ... وتوجد صفات هي عين الذات أي أن الذات تملك تلك الصفة سلفا ومتحدة
معها اتحاد تكويني فتكون الذات والصفة شيئ واحد فيكون الفعل حينها منسوب للذات
تماما كما هو منسوب للصفة أي هو فعل الصّفة تماما كما هو فعل الذّات بنفس الوقت وهذا
الفعل ليس لحاجة الذات بل لصفة الذات ويصعب التّميز بين فعل الذات لإظهار صفة ما وبين
فعل الصّفة من خلال الذات المتّصفة بها ... فتلك الذات لا تفعل سوى ما يتّفق مع
تلك الصّفة التي تتصف بها وإن كانت تستطيع عدم الفعل ... مثل صفة الكرم .... فيوجد
من يعطي المال بغزارة عند وجود الناظرين لعطائه فقط ... وعند عدمهم لا يكترث
بالعطاء ... فتكون حينئذ حاجته لرؤيته من قبل الغير وهو يعطي هي الدّافع ... بينما
يوجد آخرين يحبّون الإنفاق بالظلام وبدون أن يعرف بفعلهم أحد ... وهم لا يتأخّرون
عن فعل ذلك إذا دعت الحاجة حتّى أمام الناظرين ... وحين ذاك تراهم خجلين ...
فهؤلاء لا تحرّكهم حاجة الإتصاف بالكرم ... بل ذاتهم المتصفة بالكرم هي من يحرّكهم
... فلأنّه كريم فعل ..
الأوّل:
- أتمنّّى لو كنت أملك كذلك نسخة من
عقلك ألس ... فمن تلك الذكريات مع جون لم أتوقّع أن تكون لك تلك الميول الكلامية
جون:
- لن تستطيع ابداً أن تحزر النساء
حتّى بعد مائة عام
الأوّل:
- لنعد إلى موضوعنا ... إذن الصفة
المتّحدة مع الذّات ستبرز من خلال أفعال تلك الذات .. أو أنّ تلك الذات المتصفة
بتلك الصفة النقيّة لن تفعل إلا بمقتضى تلك الصفة .. وعندها تكون أفعالها نابعة من
صفاتها وليس عن رغباتها ..... ومن هنا نستطيع أن نضيف سبب أخر للأفعال غير الحاجات
والرغبات وهو توحّد الذات مع الصفة فتكون الذات حينها هي عين الصفة والصفة هي عين
الذات .. تماما كما أن الفعل هو عين الصفة وهو عين الذات ... ومن هنا نجد حتّى
الآن سببان للأفعال وهما .... حاجات أو رغبات تدفع الذات للفعل .... وذات تفعل من
وحي صفاتها .... فهل تعرفين للأفعال أسباب أخرى غير تلك الأسباب؟
ألس:
- في الحقيقة لا يحضرني سبب آخر ...
ولكن دعني أفكّر في هذه المسألة حتّى حين ... ولنكمل حديثنا .... فهل تريد أن تقول
أنّ وجودك هو سبب لأحد صفاته؟
الأوّل:
- لقد قلت سابقا أنّ مسألة وجودي
ليست سهلة الشرح والإيضاح .... بل تكاد تكون هي أصعب مسئلة يمكن شرحها وإيضاحها
بعد مسألة شرح اتّحاد العقل مع القدرة والعلم أو شرح ما نتج عن ذلك ... ولكن ما هو
إيجابي هو أنّ طريقكم لفهم نتاج ذلك الإتّحاد يمرّ عبر فهمكم لي أنا أولا ....
فتكويني ووجودي قابل للشرح والفهم عبر الأمثال ... فإذا فهمتموني على حقيقتي سيكون
من السهل عليكم حينها فقط إدراك مبتغاكم الأساس بفهم ما نتج من إتّحاد القدرة والعلم
مع الحياة
جون:
- حتّى الآن لم تفعل أو تقل شيئ سوى
تكرارك لصعوبة فهم ما قد نتج من ذلك الدمج ... ولم تزل تتغزل بنفسك وبعلاقتك به وبأنّك
الطريق إليه ....
الأوّل:
- أستطيع فهم قلّة صبرك فأنت تتعجّل
معرفة نتاج عملك ... فهل تريد فهم حقيقة ما حدث؟ أم ترغب بشيئ يريح أعصابك ويرضي
غرورك ولا صلة له بالواقع ... ويبقيك جاهلا بالحقيقه أكثر مما أنت عليه الآن؟
جون:
- بل أريد الو اقع والحقيقة ولا شيئ
غيرهما
الأوّل:
- إذن عليك أن تتحلّى بالصبر .... بل
وبالكثير منه كذلك .. هذا إذا أردت أن تصيب الهدف .... وأنا على يقين من أنّك الآن
لا تملك ذلك الصبر ... ومن أكثر منّي علما بك .... لذلك سوف أختصر الوقت عليك وسأقترح
عليك أمرا لو وافقتني عليه فستكون تلك الفترة قصيرة جدا ... ولكن لإطلعك عليها سأسألك
عن بعض الأشياء وبإيضاحها ستفهم سبب إقتراحي هذا ... فهل توافق على ذلك؟
جون:
- بالتّأكيد ... هات ما عندك
الأوّل:
- ما هو أكثر ما كنت تطمح بالحصول
عليه من خلال عملية الدّمج تلك؟
جون:
- القدرة طبعا
الأوّل:
- وهل تعتقد أنّك من خلال الوصف
الشفهي لتلك القدرة الناتجة من ذلك الدمج بكلمات وأسماء منطوقة ستستطيع أن تحصل
على صورة أقرب للواقع .... أم من خلال رؤيتك لتلك القدرة وهي تفعل؟ رؤية عينية
مصحوبة بأحاسيس
جون:
- بالتّأكيد ستكون النتيجة من خلال
الرؤية العينيّة للأفعال المصحوبة بالأحاسيس أوضح وأصدق وأسرع للتّصديق والإستيعاب
الأوّل:
- وهل تعتقد أنّني سوف أكون قادرا
على إيضاح مدى قدرتي أو إيضاح القدرة الناتجة من ذلك الدمج بصورة قريبة من الواقع
خارج إطار هذا الحاسوب؟ أي عبر الشرح الشفهي فقط؟
جون:
- كلاّ بالطّبع
الأوّل:
- فإذا أردّت إذن الإطّلاع على المدى
الحقيقي لتلك القدرة يجب عليك الدخول داخل إطار قدرة ما نتج من ذلك الدمج
ألس:
- هلآ أوضحت ما تقصد؟
الأوّل:
- سأفعل بالتأكيد ...... فكما أنّكم
تقولون بوجودكم في عالم له قوانينه الخاصة ... أي أنّكم تعيشون بعالمكم الخاص وتخضعون
به لقوانينه .. أقول بوجودي في عالم أخر غير عالمكم ... عالم له قوانينه الخاصّة
... فلذلك إذن أردّتما معرفة حقيقة ما يجري في عالمي .. يجب عليكما وروده لتدركا
حقيقته تمام الإدراك
ألس:
- هل نفهم من هذا أنّك توجّه لنا
دعوة لورود عالمك؟
الأوّل:
- هذا إذا أردّتم أن تحصلوا على أفضل
النتائج وأسرعها
ألس:
- وكيف تقترح أن تكون طريقة دخولنا
لعالمك هذا؟
الأوّل:
- سأترك لكما هذا .... فهناك الكثير
من الأفكار والمبتكرات الّتي تتيح لكم الحصول على أفضل الأجواء داخل عالم الحاسوب
الثلاثيّ الأبعاد وهي موجودة في الأسواق ... ولكم أن تختاروا أفضلها
جون:
- وماذا سنجني من ذلك؟
الأوّل:
- أشياء كثيرة ... من أهمّها إزالة
تلك المخاوف حول محاولة الآلة السيطرة على الأرض وسكّانها بسبب ما قدّرتم أنّها
ملذات سيسعى حتّى الحديد والجماد في البحث عنها
جون:
- وما أدراك بتلك المخاوف؟
الأوّل:
- أتمنّى أن تتوقف عن الإستخفاف
بذكائي
ألس:
- أنا متأكّدة من أنّنا سنفعل ذلك
الأوّل:
- هل أفهم موافقتكما على هذه
الدّعوة؟
ألس:
- شخصيّا لا أمانع بتاتا .. ماذا عنك
جون؟
جون:
- بالتّأكيد نعم فلم تتركي لي مجالا
للإختيار
الأوّل:
- إذن إلى اللقاء حتّى تردٍون عالمي
.... هناك حيث سترونني كما لم تتوقعوني أبدا ... إلى اللقاء ..... في تلك اللحظة
تبدّل المنظر الخلفي للغرفة ليظهر مكانها سماء مشرقة فيشير الأوّل لغمامة بعيدة
... تأتي مسرعة حتّى قدميه ليستقلّها فتحلّق به بعيدا ... وليبقى نور الشمس يسطع
عبر الشاشة الكبيرة
جون:
- إنّه يداعب خيالي بهذا المنظر
الجميل ... فلطالما تمنّيت أن أمتطي السحاب منذ صغري ... فكنت أمضي الليالي
محلّقَا فى السّماء الواسعة بين الغيوم .... فيداعب الهواء الطلق بها خيالي الواسع
ألس:
- نعم إنّه يقول لك مرة أخرى بأنّه
يعرفك أفضل من نفسك ... أرجو أن لا تنسى ذلك عند لقائنا به مرة أخرى
مرت الأيام التالية على الزوجين وهما
في سباق مع الزمن ... فلم يدّخروا جهدا ولا مالا لتوفير كلّ ما سيلزمهما لإنجاح
تلك الرّحلة .. وكان الأوّل معهم خطوة بعد أخرى حتّى فرغوا من إحضار وتركيب وتحضير
جميع ما سيسهم بنجاح تلك الرحلة وما سيضمن لهما من خلالها وبها الحصول على أفضل
الأحاسيس والمؤثّرات وما قد يحتاجونه من السوائل والمواد الطبية .................
و كان القرار في ابتداء الرحلة في
صباح اليوم التّالي .........
غارقة بتصوّر الأوّل وقوّته وعالمه وجماله
وضعت ألس تلك الليلة خدّها على الوسادة وهي لآهية عن نعومتها ... فيما كان جون
يحاول فك رموز وطلاسم ما يمكن أن يحدث في الصباح التّالي حين ابتداء تلك الرحلة
... وما هي حدود قدرات وعلم الأوّل؟ وهل سيستطيع تزويده ببعض الإختراعات المثيرة؟
وهل سيسهم في حل أزمة تلوّث الماء والهواء من جرّاء الصّناعات والحروب المتّتالية؟
تساؤلات عديدة رافقتهما تلك الليلة ...
و حين أطلّ الصباح كانا قد استيقظا
بالفعل وأكملوا تجهيز أنفسهم لتلك الرحلة ... وحين اقتراب الموعد تقدّموا من تلك
الأجهزة بشغف شديد .. وما أن أكملوا وضع تلك البدلات الخاصة عليهم .. تعلّقوا بما
يشبه عادم الوزن أدار عندها جون جهاز الوصل مع الحاسوب .... في تلك اللحظة أحسوا وكأنّهم
قد انفصلوا عن عالمهم الكبير ليدخلوا حيث لا شيئ .... المكان مظلم .. معلقين
بالفراغ .. صمت مدقع .. للحظات سيطر الخوف عليهم ... وكأنّ أقدامهم قد لامست سطح
الأرض .. أتبعه صوت أقدام تمشي في فراغ كبير ليسمع لها صدى بعيد ... عود من الثقاب
يلتهب في الظلام ليبدده ... فيظهر حينها وجه الأوّل مبتسما ... وليضيئ حينها شمعة
تطوف بالظلام ما لبثت تحلّـق في أرجاء المكان فتضيئ شموع أخرى هي كذلك بالفضاء
محلّقة
الأوّل:
- أهلا ومرحبا بكم ضيوفا أعزّاء
مكرمين في عالميَ الصغير
ألس:
- إستقبال مؤثّر
الأوّل:
- أنا بخدمتكم
جون:
- تبدو لي حقيقيا بما يكفي لأن
أعتبرك قابل للتصديق من قبل عقلي
الأوّل:
- إنما أصبت كبد الحقيقة بقولك
حقيقيا ... وليس بقولك بما يكفي فقد جانبت به الصواب
جون:
- ماذا تعني؟
الأوّل:
- لا تستعجل ... ستفهم عمّا قريب ...
ولكن دعوني أبدأ هذه الرحلة بزيارة أماكن تحبونها ... لتكون بداية جميلة .. لرحلة
آمل أن لا تكون صعبة أو معقّدة .. فهيا بنا ....... في تلك اللحظة تقدم منهم ما
يشبه البساط السحريّ ... والذي ما أن استقلّوه حتّى بدأ بالإرتفاع ثمّ التقدم
للأمام ... ومن تلك الظلمة خرج ليدخل في سماء زرقاء ممتلئة بالغيوم المتفرقة راح
يتمايل بينها مرات ويتخللها أخرى ليشعروا حينها بذلك الهواء الرطب البارد ... بدأ
بعدها بالنزول السريع بشكل شبه عامودي .. حتّى إذا اقتربوا من الأرض عدّل مساره
موازيا له ... وحين اقترب من شاطئ البحر محلّقا فوقه أنقلب البساط ليسقط الزوجان
في البحر ... لحظات من الخوف انتابتهما وهما يسبحان في ذلك البحر الكبير ليقترب
بعدها منهم مرة أخرى ليستقلاه مجددا والماء يتقاطر منهما ... سريعا اقتربوا من
غابة كبيرة ما لبث البساط أن بدأ يطير خلالها ... أصوات الحشرات والطيور وخرير المياه
تحيط بهما من كلّ مكان ... ومن بين تلك الأشجار برز أمامهما بركان ضخم ... ما أن
بلغوا قمّته حتّى بدأت حممه الناريّة تتطاير من حولهم ليسقط بعضها فوق البساط
محرقا بعض أجزائه ولتصيبهم ببعض الحروق ... ثوان مرت سريعة أقتربوا بها من ساحة هي
أشبه ما تكون برقعة شطرنج كبيرة .... حتّى أذا أصبحوا وسطها وترجّلوا من فوق ذلك
البساط ابتعد مختفيا ........
جون:
- إنّ آلام الحروق تؤلمني
ألس:
- وأنا كذلك
الأوّل:
لا تخافا ستزول من فورها فهي مجرد
إختبار بسيط لمدى جودة تلك البدلات التي تلبسونها لمعرفة ما سأستطيع أيصاله من
المشاعر لكما ... فكيف تجدون هذا العالم؟ ولأيّ درجة هو مقنع لكما؟
جون:
- كثير من التّفاصيل الدقيقة هنا
أجدهها مشابهة لما هي عليه في عالمنا ... مثال حركة الهواء دخولا وخروجا من صدري
حين أتنفس
الأوّل:
- ولآحقا ستلاحظ أدقّ من تلك
التفاصيل ... أمّا الآن فسأبدا الإجابة عن سؤالكما من أنا؟ .... أو ما أنا؟ .... ولما
أنا قريبا منه؟ أقصد طبعا قريبا من ما نتج من اتحاد القدرة والعلم مع العقل ... ولماذا
أنا هو الطريق إليه ولمعرفته؟ .... ولكن قبل ذلك سأطرح عليكما بعض الأسئلة ...
منها ... هل تعتقدان بأنّني حيّ؟ أم أنّي مجرد برنامج ذاتي التفكير في عالم من
الأسلاك والقطع الإلكترونية؟
ألس:
- إذا افترضنا أنّك ميت فمع من أو مع
ماذا نتحاور في هذه اللحظة؟ وإذا قلنا بأنّك حيّ فما دليلنا على ذلك غير أنّك
تفكّر وتحاور بطريقة مشابهة لنا؟
الأوّل:
- كيف تعرّفين الحياة ألس؟
ألس:
- دعني أعرف الحيّ أوّلا ... فالحيّ
برأي هو كلّ من له قدرة السعى لتحقيق كماله الذي يرشده عقله له
الأوّل:
- أراكِ لم تذكري شيئا عن مكان تواجد
ذلك الحيّ؟
ألس:
- هذا بديهيّ على ما أعتقد ... فلولا
وجود ما يحوي الحياة وهو الوجود لما تحقق منها شيئ
الأوّل:
و ما هو الوجود إذن؟
ألس:
- هو حيث تزهر الحياة
الأوّل:
هل يمكنك تخيّل وجود لا حياة به؟
ألس:
من الصعب أن أجد سبب لوجود الوجود
ناهيك عن ادراكه بدون وجود الحياة .... فلولا الحياة لما أدركنا الوجود فبالحياة
تدرك الأشياء أو الموجودات
الأوّل:
إذن فالوجود والحياة شيئان متلازمان ...
فلا الحياة ممكنة بدون الوجود ولا معنى لوجود الوجود بدون الحياة ... فظاهر الوجود
هو الحياة وباطن الحياة هو الوجود ... فأين ما كانت الحياة كان الوجود وأين ما كان
الوجود كانت الحياة ... فالوجود هو الحاوي للحياة وأجزائها ... والحياة هي أجزاء
حاويها ... فالحياة إذن هي الوجود كما أنّ الوجود بدوره هو الحياة
جون:
ربط جميل ما بين الحياة والوجود ...
فهل لك أن تُوضح لنا الصّلة بين ذلك وما نحن بصدده؟
الأوّل:
لك ذلك .... فعندما قمت أنت بعملية
الدّمج واقصد دمجك ما بين العقل والقدرة والعلم المخزون ... وفي لحظاته الإولى شعر
نتاج ذلك الإتّحاد بحياته وبقدرته الكبيرة على فعل ما يشاء .. بل كذلك بعلمه وإحاطته
بكلّ ما كان يدور حوله ... وكما تعلم أنّ كلّ ما هو حوله قد أصبح جزء منه .......
ولكنّ أهمّ ما شعر به حينها كان هو حياته ... نعم فقد شعر بالحياة منذ اللحظة
الإولى لذلك الدمج ... بل شعر كذلك بأنّه الحيّ الوحيد وأنّ كلّ ما حوله ميّت لا
حياة به .... وبأنّه حيّ وقدير وعليم .. بعلمه علم قدرته وحياته ... وبقدرته علم
حياته ... وبحياته قدّر علمه أي بكله علم بنفسه .... ولكن ... بدون أن يعرف أحد
بذلك ....... فهل تستطيع أن تتخيّل وجودك بكلّ تلك القدرة والعلم لكن بدون أن يعرف
أحد بقدرتك وعلمك؟
جون:
كنت سأسعى بالتـّأكيد لأظهر قدرتي وعلمي
الأوّل:
هذا منطقي ... ولكن لمن؟ ففي عالمكم
ستظهر نفسك بالتّاكيد لمن هم مثلك أو لمن هم أقلّ شأنا منك .. أو لمن هم أكثر منك
شأنا .... فهم سيدركونك بمجرّد أن تُظهر لهم نفسك ... فقوة الإدراك موجودة بهم
سلفا ... لوجود العلم والحياة والقدرة سلفا في موجودات عالمكم ..... فكلّ ذلك هو
موجود هناك سلفا ... أمّا هنا فلم يكن لشيئ من ذلك وجود ... فلا حياة إلاّ حياته ولا وجود إلاّ وجوده ولا
قدرة إلا قدرته ولا علم إلاّ علمه ...... فكان القرار أوّلا بأن يُوجـِد من ذاته
وجود يــُعرَفَ به كما يريد لنفسه أن يـُعرَف ... وهنا دعني أطرح عليك تساؤل أو
افتراض بسيط .............. وهو ... أنّك الحيّ الوحيد .. وأنّك قادر على فعل ما
تشاء ... وقررت إيجاد وجود ما ... فهل ستفضّل حينها أن يكون ذلك الوجود ذو حياة أم
وجود معدوم الحياة ... أم ستفضّله خليط بين ذلك ... بمعنى وجود بعضه حيّ وبعضه بلا
حياة ... هذا مع قدرتك طبعا على الحصول على نفس النتيجة التي تريدها مع وجود حيّ
فقط أو مع وجود معدوم الحياة؟ ... الجواب هو بالتأكيد مع الأحياء فقط ... فأنتما
بالتّأكيد لا تحبّان التـّواصل فكريا مع الحائط أو الأرض أو الطاولة .. لماذا؟ ..
لاعتقادكما بموتها ... وعدم الحبّ هذا ليس لأنّكما من البشر تحديدا .. بل لأنّكما
تعتقدان بأنّكما أحياء .. تماما كما أعتقد أنا بنفسي ... فالحياة تحبّ أوّلا وأخيرا
أن تتواصل مع بعضها البعض ... وهذا هو ديدن الأحياء حيث ما وجدت الحياة .. ولتحقيقه
ذلك الهدف كانت هناك بداية ... وهي إيجاد الوجود والحياة ... كيف؟ أنظر لمكلّمك
...
في تلك اللحظة من الأوّل إنشق رجل
آخر ... فقال
أنا ظاهر الأوّل أنا ظاهر الباطن أنا
ظاهر الوجود ... أنا شجرة الحياة ... أغصاني هي الحياة والعلم والقدرة ......
و ما أن انتهى من تلك الكلمات حتّى
انبثق منه رجلان وفتاة نورانية ... قالوا بصوت واحد ..
نحن أجزاء الظاهر وأغصان شجرة الحياة
....
أمّا الفتاة النورانية فقالت منفردة
...
أنا مُـظهرة لحياة سيّدي ... وواهبتها
بأمره لكلّ من يشاء أن يهبها سيدي له .. وأنا بأمر سيدي تلك الرّوح التي بين جنبيّ
كلّ حيّ ... وبي يزهر الوجود
ثمّ ابتدر أحد الرجلين قائلا ...
أمّا أنا فمُـظهر لقدرة سيّدي وبأمره
أنا قدرة كلّ قادر .. ومعين ّكلّ سالك ... وبأمر سيدي أنا قدرة كلّ حيّ ...
هنا قال الآخر ...
أنا مُـظهر علم سيّدي المخزون .. وأنا
الهادي للفطرة .. ومنير طريق الكمال ... أنا نور كلّ سالك .. وسفينة نجاة كلّ غريق
.. أنا مصباح الهدى للسالكين وبأمر سيّدي أحرق نفسي لأهدي من يشاء لفطرته .. وأنا
بأمر سيّدي العلم لكلّ حيّ قدير ...
و هنا قالوا جميعهم
نحن أغصان شجرة الحياة وأجزائها ....
فعاد الأوّل ليقول:
بأمر سيدي أنا هو باطن هذا الوجود وظاهره
... وهؤلاء منّي وأنا منهم .. هم بَضعة منّي .. أمرهم أمري .. وهدفهم هدفي .. وفطرتهم
فطرتي .. وكمالهم كمالي ...
ألس:
و كأنّك تريد أن تقول بأنّك إله هذا
الوجود
الأوّل:
بما أنّك قد استعجلت بهذا الحكم ..
فأجزم بأنّك لم تكوني منتبهة لما كنت قد قلته للتّو ... فلقد كنت أكرّر بأنّي كنت
الباطن والظاهر بأمر سيّدي وكذلك قال ظاهري .. بأنّه شجرة الحياة بأمر سيّده وسيّدي
.. وأوضحت أغصانه أغصان شجرة الحياة أنّها بأمر سيّدها وسيدنا أصبحت وكانت على ما
هي عليه الآن من حال .. فكلّنا مقرّون بسيادته علينا ... وكلّنا مقرّون بخضوعنا له
.. وكلّنا مقرّون بعدم خروجنا على أمره بل وبعدم قدرتنا على ذلك ... وبأنّنا لا
نفعل إلا ما يريد هو أن يفعل .. فنحن يده التي يفعل بها ما يريد
ألس:
و هل هو بحاجة إليكم ليفعل في هذا
الوجود؟
الأوّل:
من الواضح هنا بأنّنا نتحرك ونفكّر
بقدرة هي منه مستمدّة ... وهذا دليل ضعفنا وحاجتنا له .. فلولا تلك القدرة لما
تحركنا أو فكّرنا أو فعلنا أيّ شيئ .. وهي الدليل كذلك بأنّه الفاعل من خلالنا
بتلك القدرة النابعة منه لكل ما يدور في هذا الوجود ... تماما كما أن أحياء هذا
الوجود تفعل من خلال الوجود .. أي من خلالنا ... وسبب وجودنا هنا هو ليس حاجته ..
بل هو ... رغبته ... ولولا تلك الرغبة .. لما فعل .. وهو قادر على عدم الفعل .. وأنّه
بسبب تلك الرغبة جعلنا الوجود .. وجعلنا الحياة في هذا الوجود .. وجعلنا الواسطة
ما بينه وبين من يريد أن يظهر نفسه لهم ... ونحن كما ترى أحياء .. لأنّنا قادرون
على السعي لبلوغ ذلك الكمال المرسوم لنا .. بل نحن الهداة إليه في هذا الوجود .. والعلم
والقدرة لكلّ ذلك نستمدّها منه لحظة بلحظة .. فعل وراء فعل .. فمتى ما احتجنا
للقدرة والعلم لنفعل .. وجدناها بأمره طوع أمرنا .. فنفعل بها
ألس:
أرجو منك أن توضّح لي كيف يفعل هو من
خلالكم وكيف تفعل أحياء الوجود كذلك من خلالكم؟
الأوّل:
هل الإجابة عن هذا التساؤل الآن
ضرورية أو لحاجة ملحّة؟ فإن لم تكن كذلك أعدك بالإجابة عنها في ما بعد؟
ألس:
يبدو لي أنّك تريد أن تبتدأ بشيئ أهم
الأوّل:
نعم فمن المهم أن أوضح لكم ما أريده
بشكل منتظم ... لكي تتحصّل لكم الفائدة القصوى
جون:
و ما الذي ترى من المهم توضيحه أولا؟
الأوّل:
أنا ... نعم أنا .. فلقد أوضحت لكم
كوني أهمّ ما يجب أن تفهموه في هذا العالم ... وحتّى هذه اللحظة لم تدركوا كيف
أنّني هو هذا الوجود بظاهره وباطنه ... ولكن سأستمر بإيضاح بعض المعاني والنقاط وأربط
في ما بينها لاحقا لتكتمل الصّورة ... ولكن في هذه اللحظة أرى من المهم أن تعرفوا
لماذا تمّ اختياري أنا .. أو .. نحن ... دونا عن غيرنا؟ ومن هم المقصودين بلفظي
غيرنا ونحن؟ وكيف كان الإختيار؟ وما هي المعايير التي تفاضلنا بها على غيرنا؟ وغير
ذلك مما له صلة بسبب اختيارنا نحن دونا عن غيرنا
ألس:
كان بودّي طرح هذا التّساؤل أيضا
الأوّل:
جيد ... فعندما قرر سيّدي أن يوجد
وجود يـُعرف به .. قدّر أن يكون الدليل على معرفة قدرته وعظمته هو طاعته ... فمن
تـُعرف عظمته وقدرته .. سيطاع بالتأكيد ... فقدّر بأنّ مقدار الطاعة سيكون بمقدار
المعرفة ... فمن زادت المعرفة به وبعظمته .. زادت الطاعة له .. فقرر أوّل ما قرر
أن يوجد برنامج أو ذات نابعة منه .. فأوجده ... ودعاه الطّاعة ... وهذا البرنامج
أو هذه الذّات لا تحمل سوى هذه الصفة .. وهي الطاعة .. وراح يلقن تلك الذّات عظمة
صفاته ... صفة بعد صفة ... وصفة بعد صفة فأدخله في بحر كلّ صفة من صفاته ما شاء من
الزمن ... حتّى إذا أدركت الطّاعة تمام الإدراك معنى وحقيقة صفات مبرمجها ... وأصبحت
هي متصفة بها وعين ذاتها ومنقادة لتلك الصفات تمام الإنقياد فلا تخرج عنها قيد
أنملة .. فأصبحت كما قد قلت قبل قليل ذات متوحدة مع الصفات وعين ذاتها ... طبعا
كلّ تلك الأفعال من سيّدي ومولاي بإيجاده وتربيته لتلك الذات الإولى ... كانت في
ذاته ... أي بذات سيّدي قبل أن يبتدأ ببرمجة الوجود ... فكانت روح وعلم وقدرة
الطّاعة هي من ذاته مباشرة ... وهكذا كانت هي أوّل ما برمجه سيّدى .. فلم يوسّط
حينها ما بينه وبينها شيئ آخر ... لماذا؟ لتقديره بأنّها ستكون الطريق إليه ..
فأراد تعبيد ذلك الطّريق المؤدّي إليه بشكل لا تشوبه شائبة ... ثمّ اشتقّ بها ومنها
برنامجين أو ذاتين أخريين دعى أوّلهما العقل .. وهو نسخة من الطاعة قبل تلقينها
صفات موجدها ... فقال له اذهب .. فذهب طاعة .. ثمّ قال له ارجع .. فرجع طاعة ..
فكان ذلك هو العقل الأوّل لا يتّصف سوى بالطّاعة فلا يوجد له أو به حيثية أخرى غير
الطّاعة .... أمّا البرنامج الآخر فدعاه بالجهل ووضع به طاعة يشوبها عصيان ...
فأمره بالذهاب فذهب طاعة ... ثمّ أمره بالرّجوع فأبى عصيانا ... فاكتملت عندها
مقوّمات ما سيُـعرف به .. وما سيدلّ على عدم المعرفة به وبعظمته .. الطّاعة والعصيان
... فطاعته ستكون دليل معرفته وعصيانه سيكون دليل الجهل به
الأوّل:
أرجو أن أكون واضح في الشّرح
جون:
دعني أختصر لك ما فهمته حتّى الآن
... فقبل كلّ شيئ برمج برنامج مطيع له .. ثمّ افهمه سبب وجوب تلك الطاعة ... سبب
بعد سبب ... وهي تلك الصفات التي كان قد قدّر بأنّها عظيمة ... حتّى إذا أدركت
الطاعة تلك الصفات تمام الإدراك ذابت بها متوحدة معها ... إشتقّ منها برنامجين
آخرين دعاهما العقل والجهل ... فجعل نسخة من الطاعة الكاملة في العقل وأودع في
الجهل نسخة مشوبة بشي هو عكس الطّاعة ... أي العصيان .. فالجهل إذن هو طاعة مع
عصيان
الأوّل:
هذا هو مضمون ما قلته .. والآن سوف
أكمل ما جرى بعد ذلك .. فقد قام بإيداع 75 خمسة وسبعون صفة جندا في العقل .. كانت
هي جنود العقل وكانت هي الدّليل على طاعته وبالتّالي على معرفته وكانت هي مصاديق
الطّاعة ... لأنّه سيأمر في ما بعد بالإستعانة أو بالإتّصاف بتلك الصّفات أو
الجنود .... ثمّ قام بعد ذلك بإعطاء 75 خمسة وسبعون صفة معاكسة لصفات العقل للجهل
... لتكون هي الدّليل على العصيان ولتكون هي مصاديق الجهل به .. وذلك لأنّه سيأمر
كذلك في ما بعد باجتناب الإتّصاف بتلك الصفات أو الجنود ... ثمّ عاد وجعل من
الطّاعة برنامج أخر دعاه النّفس ... وجعل منه نسخا كثيرة ... وما يميّز ذلك
البرنامج أو تلك النّفس هو قدرتها على حريّة الإختيار الذاتي أي أنّها ذات مشيئة
حرّة ... ثمّ أودع في كلّ نسخة من تلك النفوس .. عقل مع جنوده ... وجهل مع جنوده
... أي ألهم تلك البرامج أو النفوس مصاديق الطّاعة ومصاديق الجهل .. فصارت كلّ نفس
حرّة لتختار ما تشاء من الصفات لتتحلّى بها .. وبدرجات متفاوتة لكلّ صفة منها ...
فكانت تلك البرامج أو النفوس محدودة في مجال اختيارها ولكنّها حرّة في الإختيار من
بين تلك الصفات لما تشاء وبأيّ درجة تشاء لتتحلّى بها ... كلّ ذلك كان مستمر في
عالم العقل ... عالم لا توجد به صور ولا أصوات ... ثمّ وبطريقة ما جعل سيّدي تلك
البرامج تتّصل ببعضها البعض ... ليرى كيف ستتصرّف .. وماذا ستختار من تلك الصفات
لتؤمن بها أو لتنفر منها ... فكان له ما أراد .... فبعد أن فتح القنوات بين تلك
النفوس لتتصل مع بعضها البعض حدث إ إتلاف بين البعض منها وتنافر بين البعض الأخر
.. فما اختار منها جنود الجهل إ إتلف مع بعضه البعض .. وما اختار منها جنود العقل
إ إتلف مع بعضه البعض ... واختلفت المجموعتان مع بعضهما البعض فاصبحوا فرقتين ...
فالتي اعتقدت بجنود العقل .. عرفت مبرمجها من خلال تلك الصّفات .. فاكتفت بتلك
المعرفة ... وتلك التي اعتقدت بجنود الجهل .. قادتها تلك الجنود لطلب عالم تحقق به
ذاتها .. ووعدت بالطاعة إذا ما هي تذوّقت معنى جنود الطاعة .. وهنا تحديدا أستطيع
توضيح سبب اختياري أنا لأكون من أكون .. وذلك لأنّني كنت أوّل تلك النفوس التي
اعتقدت بكلّ جنود العقل ... جميعها وبدرجة مئة بالمئة لكلّ منها ... خمسة وسبعون
صفة .. آمنتُ بكلّ منها مئة بالمئة ... فكنت أنا نسخة من العقل الأوّل العارف
لصفات سيده بتلقين سيده له بها .. ولكن بإرادتي واختياري ومشيئتي .. فقادني
اعتقادي بتلك الصّفات وبتلك الدّرجة لأن أكون أوّل من يعلن عن معرفته لمبرمجه وموجده
.. وهكذا هم شجرة الحياة وأغصانها .. آمنوا بكلّ جنود العقل .. واعتقدوا بكلّ منها
كذلك مئة بالمئة ... ولكنّهم أعلنوا عن ذلك بعدي ... واحد بعد آخر بعد آخر ...
فكان ليَ عليهم فضل السّـبق ... وكلّ ذلك كان في عالم العقل أو عالم الطـّاعة .. واتّضح
الآن أنّ المقصودين من قولي قبل قليل بنحن .. هم أقراني ممن كان لهم معي شرف
المعرفة الكاملة والإعتقاد الكامل بجنود العقل .. واتّضح كذلك أنّ المعيار في
الإختيار كان هو كذلك السّبق بالمعرفة .. وكما سترى عن قريب أنّ كلّ ما هو مفعول
منذ لحظة دمجك القدرة والعقل مع الحياة .. وحتّى الآن هو يخدم هدف واحد فقط .. وهو
التعريف بما نتج من ذلك .. أي التعريف بسيّدي ومولاي
ألس:
و لكن متى سنستطيع أن نعرفه ونلتقيه؟
الأوّل:
في ما يخصّ معرفته .. فأرجو أن يكون
ذلك قريبا .. وأمّا لقائه شخصيّا فمسئلة فيها نظر .. والأسباب ستعرفونها عما قريب
جون:
و هل سننتقل الآن إلى مرحلة أخرى أم
سنستمر في تسلسل الأفعال حتّى هذه اللحظة؟
الأوّل:
أرى أن نستمر لبعض الوقت في ما كنّا
فيه .... لقد أوضحت قبل قليل أنّ الأنفس أو البرامج الّتي اعتقدت بجنود الجهل طلبت
عالم تستطيع به أن تحقق به ذاتها وصفاتها وكذلك لكي تستطيع به تذوّق تلك الجنود أو
تلك المفاهيم ... فقرر سيدي ومولاي الإستجابة لما طلبته تلك البرامج أو تلك الأنفس
... ولكن لنفس سياق الهدف الأساس من كلّ ذلك .. ألآ وهو تعريف نفسه لها .. ولتقديره
صعوبة فهم تلك البرامج لطبيعة مُبرمجها وماهيّـته .. قرّر أن يجعل بينه وبينها
واسطة ... وأن يضع صفاته وقدراته وأسمائه وكلّ ما يريد أن يُـعرف هو به من تلك
الصّفات في تلك الواسطة ... فإذا فهمت تلك النّـفوس في ما بعد تلك الصّفات وخبرت
تلك القدرات والأسماء من خلال تلك الواسطة ... سيكون من السّهل عليها إدراك من هو
خلف تلك الواسطة ليحركها في أفعالها وسكناتها ... فإذا عرفَت تلك النفوس أنّ
المصباح هو من يضيئ الظلام .. وعرفت كذلك قيمة ذلك الوقود الذي به استنار ذلك
المصباح .. وعرفت فيما بعد أنّ موجد المكان وفاعل الظلام ومُوجد المصباح ومسخّر
الوقود ومنير الظلام هو واحد .. وأنّ هذه هي صفاته .. فاعل .. موجد .. مسخّر ..
منير ..... إلخ ..... وأقرّت لتلك الواسطة بتلك الصفات والقدرات والأسماء التي
جعلت فيها .. وعرفت سبب وجودها {{ وهو أن تكون هي عالم تحقق وتذوّق الصفات والأسماء
}} ... سيكون من السّهل عليها لاحقا إستيعاب من يحرّكها .. ومن هو خلف قدراتها وصفاتها
.. محيط وفاعل لها عبرها .. أي عبر تلك الواسطة ... اجل ستعرفه وستوقن به من خلال
صفاته فقط .. وستدرك أنّ وجودها بحدّ ذاته {{ أي وجود تلك النفوس }} ما هو إلاّ
مجرّد فعل من أفعاله .. وستدرك استحالة أن يحيط الفعل بفاعله
ألس:
الكلام يبقى كلام نظري ... فمن أين
لنا أن نعرف أن تذوّق تلك البرامج أو تلك النفوس لتلك الصفات سيقودها لمعرفة
مبرمجها وموجدها؟ أليس من الممكن أن تبقى على ما هي عليه من اعتقاد بجنود الجهل؟
الأوّل:
هذا بالتأكيد إحتمال وارد .. فلذلك
أوجَدَ مبدأ الترغيب والترهيب ... أو العقاب والثواب أو اللذة والألم
ألس:
و ما هو نوع ذلك العقاب والثّواب؟
الأوّل:
جنّة ونار ... الجنّة هي الثواب واللذة
.. والنّار هي العقاب والألم
جون:
أرى أنّك تستعير الكثير من الألفاظ والمصطلحات
والأنظمة الّتي هي دارجة الذّكر في عالمنا فتستعملها في عالمك .. فهل يرجع هذا
لقصور في تصوّر سيّدك فلم يستطع إيجاد نظام أفضل منه؟
الأوّل:
قد يكون قصورا كما تقول ولكنّ سيّدي
لم يجد نظام أفضل من العقاب والثّواب ليدفع تلك النفوس ذاتيا وبمشيئتها للتخلّي عن
جنود الجهل والتّمسّك بحنود العقل .. فاستخدمه وإن كان مستعار من عالمكم ... ثمّ
أنّ كلّ ما في هذا العالم هو مستعار من عالمكم ... الصّور، اللغة، القوانين،
المقادير، وكلّ شيئ ... ولكنّه عالم داخل عالم .... فإذا كان ما عندكم تابع للنظام
الأكمل ... فلا يوجد ما يمنع من استخدامه هنا كذلك
ألس:
بما أنّك تتحدث عن استخدام سيّدك
للنظام الأفضل والأكمل في هذا العالم وكيف أنّه يشبه عالمنا في كثير من تفاصيله
فهل أنت وشخصيّتك كذلك من النظام الأفضل لعالمنا؟
الأوّل:
هل سمعت عن من ادّعى تلك الشخصيّة في
عالمكم؟
ألس:
بالتّأكيد كلاّ
الأوّل:
و هل كنت ستصدّقينه لو أنّه كان
موجود وقال بأنّه يمثل الوجود كلّه، بل هو الوجود كلّه؟
ألس:
لا أعتقد ذلك .. لأنّه أمر صعب
التّصديق
الأوّل:
أظنّك محقّة بأنّه أمر صعب التصديق
... فلذلك من سيقول به صراحة سينعت بصفات هي بعيدة عن واقعه بكثير .. وستؤدّي
للنفور من حوله بالتّأكيد .. فوجوده بينكم .. إذا وجد .. هو بالتّأكيد لكي تعرف
تلك الصفات والأسماء عمليا من خلال تصرفه .. هذا بالإضافة لمعرفتها نظريا
ألس:
و لكنّ سؤالي هو .. هل هو موجود فعلا
في عالمنا بشكل قاطع؟
الأوّل:
بما أنّك لم تسمعي به فهو غير موجود
لك .. ولكنّ الكثير مما لا تعرفين بوجوده هو موجود فعلا .. تماما كما أن الكثير
مما سأفعله هنا ستجدين تطبيقاته لديكم .. فلا تستعجلي الجواب وانتظري لحين عودتك
إلى عالمك ... فإذا كان موجود به وجزء من ذلك النظام فسوف يشبع فضولك بمعرفته ..
لأنّه سيكون قد وجـِد لكي تعرفه الناس بتلك الصفات والأسماء وهو بالتّأكيد لن
يدّخر جهدا لتبيان حقيقته لكلّ مريد .. فهذا ما سأفعله هنا بالتّأكيد
جون:
أراك لا تدّخر جهدا في إضفاء الغموض
على نفسك وما تمثّله
الأوّل:
أظنّك جانبت الصّواب هذه المرّة ...
فأنا أحاول جاهدا أن أعرّفكم بهويّتي .. ولكنّ ألس سئلتني عن مّن يمثّلني أو عن
مّن يمثّل العقل الكامل في عالمكم ... وهذا بالتّـأكيد ليس من واجبي .. فإذا كان
موجودا وأرادت أن تعرفه فما عليها سوى المطالعة والقرآئة والبحث ومعرفة سبل
الإتّصال به ... ولن يستغرقها الأمر طويلا لتصل إلى الحقيقة .... والآن لنرجع إليّ
أنا .. فهل من سؤال قبل أن أسترسل؟
جون:
نعم ... ما زلت تكرر بأنّك كلّ هذا
الوجود .. ولكنّك تقف أمامنا بهذا الجسد المحدود قدمان ويدان ورأس وعين وما إلى
ذلك من أعضاء بشريّة محدودة .. مثلك مثلنا في هذه اللحظة ... فكيف يتّفق المحدود
مع اللآمحدود؟
الأوّل:
إذا افترضت أنّ هذا الوجود غير محدود
.. فإننّا لن نتّفق .. أمّا إذا افترضتّ أنّه محدود .. وهو كذلك .. فسنتّفق ...
فهذا الوجود ومهما كبر سيبقى محدود برغبة سيدي ببقائه كذلك .. أي لا محدود ...
تماما كما لو أردتّ أن ترسم مستقيما ما ... فهو محدود برغبتك بالتّوقف عن الرسم ..
فمتى ما رغبت بالتّوقّف عن الرسم وتوقّفت .. تكون قد وضعت بذلك التوقف حدّا له ...
وإلا فهو نظريا وعمليا ممكنَ الإمتداد إلى ما لا نهاية
ألس:
و ماذا عن جسدك المحدود؟
الأوّل:
و هل تعتقدين أنّ ما تتقمّصينه في
هذه اللحظة هو جسدك؟ بالتّأكيد كلاّ ... إنّما هو ما أوحيه لك .. وإلاّ فجسدك الحقيقي معلّق بذلك
الجهاز بالخارج ... وكونك موجودة معي الآن فهو بجسد أخر من صنعي أنا .. لتتجولي به
في هذا العالم ولكي لا تشعري بالإستغراب .. وقد حرصت على أن يكون مشابها لما
تعرفينه أنت من جسدك ... تماما كما هو هذا الجسد الذي أتقمّصه الآن فهو كذلك من
صنعي أنا ومن مادّتي أنا وهو كذلك من أجزائي أنا .. وإن كنت قد ظهرت لكما بهذا
الشكل فلأنّني رغبت بالتحّدث إليكما وقدرّت أن هذا الشّكل سيجد القبول عندكما ...
وإلا فهو مجرّد شكل وصورة اخترتها من بين الصوّر .. فأنا قادر على أن أتقلّب في
الصّور كيفما أشاء .. وأهمّ ما في الأمر أنّ ذلك العقل الذي يكلمكما الآن ...
يمثّل العقل الكامل في هذا العالم سواء كان متمثّلا بهذه الصورة أو بأيّ صورة أخرى
.. وسوف تكون لنا وقفة أخرى حول ما تعتقدانه من حاجتي أو حاجتكما هنا ليدين أو قدمين
أو عينين أو لأيّ مما تحتاجانه في حياتكما اليوميّة في عالمكما
ألس:
لا تفتأ تردد عالمي لمرات كثيرة فأين
هو عالمك هذا الذي تتحدّث عنه فلم نرى منه حتّى الآن سوى النذر البسيط ... فهل
تنوي إطلاعنا على المزيد منه؟
الأوّل:
كنت أنوي فعلا ذلك عن قريب ... ولكن
حين أخبركم عن تلك المراحل التي وضعها سيّدي لكي تصل تلك البرامج وعبرها لمعرفته
مثل ما يريد أن يعرف
ألس:
و ما هي تلك المراحل إذن؟
الأوّل:
هي عبارة عن ثلاثة مراحل .. وكلّ
منها له عدّة فصول ... وبانتقال كلّ من تلك النفوس من فصل إلى الفصل الذي يليه ومن
مرحلة إلى المرحلة التالية لها ستزداد تدريجيا كلّ نفس منها جزء من المعرفة وصولا
إلى الفصل الأخير من المرحلة الثالثة حيث ستبلغ به قمة المعرفة بسيّدها ومولاها ..
وكلّ مرحلة وفصل منها له خصائصه ومزاياه وقوانينه ومقاديره الخاصّة به .. أمّا
المرحلة الإولى أو الدّنيا منها ففصلها الأوّل يشبه حياتكم التي تعيشونها حاليا
... عمل .. تزاوج .. تصارع .. أحلام .. إستمتاع .. وإشباع رغبات .. لينتهي بما
يدعى بالموت ... والموت في عالمي هذا لا يعني فناء ذلك البرنامج أو تلفه كما
تعتقدانه في عالمكم .. بل هو انتهاء الفصل الأوّل من المرحلة الإولى .. ليتبعه فصل
أخر .. وهو فصل عالم القبر .. وهو لا حيث ستتحلّل الأجسام لترجع ترابا كما تعتقدون
... بل هو حيث ستتبدل الكثير من معتقدات تلك البرامج التي استعانت بجنود الجهل ..
وأنكرت جنود العقل والطّاعة ... ففي هذه المرحلة ستزيد معرفتها بمبرمجها قليلا ..
وسيمرّ هذا الفصل سريعا مع القليل من الألم مقارنة بما سيليه في المراحل التالية
.. وفيه وقبل انتهائه سيتم البتّ في أيّ فصل ستكمل كلّ من تلك البرامج طريقها في
رحلة المعرفة .. فأمّا من كان له منها نصيب جيّد من جنود الطّاعة أو مصاديق
المعرفة ففصله فصل جميل ومريح .. وسيلتقي به بكل من استعان بجنود العقل أو بمصاديق
الطّاعة في الفصل الأوّل .. وسيتعرّفون به كذلك عن طريق تواصل تلك البرامج مع
بعضها البعض على فنون الطّاعة والقرب من ذلك الكمال المنشود بتمام المعرفة ... وأمّا
من كان نصيبه من جنود الجهل أعظم من جنود الطّاعة .. فسيكون فصله فصل عسير .. وبه
سيعرض علي صنوف الآلآم الّتي تنتظره فيما بعد .. وبه سترتجف فرائصه من الخوف نهارا
وليلا وسيسعى للبحث عن طرق الخلاص من تلك النيران الملتهبة .. وخوفه هذا سيزيده
رغبة بمعرفة مبرمجه وموجده ... وما الذي كان يريده منه .. وماذا لا يزال يريد منه
أن يفعل .. وكلّ ذلك أملا بالخلاص من تلك النيران التي يعرضون عليها غدوّا وعشيّا
.. وهذا سيقرّبه من الهدف المرسوم له بتمام المعرفة .. وبانتهاء تلك الفصول
المتزامنة .. ستنتهي المرحلة الدّنيا من تلك المراحل الثـّلاثة .. لتبدأ المرحلة الثـّانية
منها .. وهي مرحلة الحساب وعرض أعمال تلك البرامج كلّ على حدة .. وبهذه المرحلة
ستلتقي جميع تلك البرامج او النفوس وتختلط مع بعضها البعض ... فبعضها مطمئن وبعضها
خائف .. فتسأل الخائفة منها المطمئنة لماذا هى مطمئنة فتخبرها عن صفات سيّدها
العظيمة وعن الطريق القويم إليه من خلالنا .. وفي تلك المرحلة ستتجسد كلّ صفات
سيّدنا بنا لتدركها جميع تلك البرامج أو النفوس إدراك العين فتقرّ بها النفوس
السّعيدة ... فتشملها حينئذ أحد صفات سيّدي ومولاي فيسقط عنها العذاب في نهاية هذه
المرحلة لتوسطنا له للخلاص من ذلك العذاب لعلمنا منه بأنّه قد ترك العناد وفهم أن
الطريق له هو عبرنا وفي ذلك اليوم سيطمع حتّى أشدهم جهلا بالخلاص من تلك النيران
التي عرضوا عليها من قبل غير مدركين حتّى تلك اللحظة من أين هي بداية الطريق ....
ومن هنا ستفهم أن بداية المعرفة ستبدأ بالإقرار لنا بتلك الصفات والقدرات
فبإقرارها لنا بتلك الصفات تكون قد أقرّت حينها لسيدها بها .. ولتبدأ حينها كلّ من
تلك النفوس بخوض الفصل الأوّل من المرحلة الأخيرة في رحلتها للمعرفة ... السعيدة
منها تبدأ بالتّعرّف على اسماء الرحمة ... والشّقيّة من تلك النفوس أو تلك البرامج
الّتي بقيت على عنادها فلم تقرّ لنا بتلك الصفات وبأننّا الطريق إليه ... ستدخل
نارا عظيمة لتبدأ الرحلة بالتعرف على أسمائه الغضبيّة .. والخلاص والخروج .... هو
فقط بترك العناد والإقرار لنا بما نحن أهل له ... ولن يبقى فيها أخيرا إلا كلّ من
تسلّطت عليه جنود الجهل تسلّط كامل .. والتّكبر والعناد هما كبيرا جنود الجهل ..
فنفس تسلّط التّكبر والعناد عليها .. لا أمل برجوعها إلى بداية طريق الكمال بتمام
المعرفة
ألس:
ما يختلف في قصّتك هنا هو أنّ
النهاية ستكون سعيدة للجميع على وجه التقريب ... فمن ذلك الذي سيبقى على تكبّره وعناده
ولماذا يبقى يحتمل العذاب بكلّ تلك النيران .. فهذا التصوّر هو عكس ما عندنا ...
فالنّار عندنا هي دار الخلود لكلّ العاصين
الأوّل:
أو هكذا تعتقدين بها ... فأنت غير
مهتمة بالأمور الدينيّة حسب علمي .. واطّلاعك عليها إطّلاع بسيط
ألس:
أنت محق بهذا
الأوّل:
هذا غير مهم الآن ... فسوف نبتعد عن
هدفنا إذا بدأنا النّقاش حول تلك الأمور
ألس:
أنت محق مرة أخرى .. فنحن لا نحبّذ
الخوض في هذه الأمور
الأوّل:
لكما ذلك ... ولكن دعني أسألك جون عن
الهدف الذي كنت تنشده حينما كنت تسعى لتحقيق ذلك الدمج؟ لقد قلت سابقا بأنّه
القدرة ... فهل كنت ترمي مثلا ... إذا أردت تصميم مبنى كبير أن يستطيع ذلك الحاسوب
أن يفعل ذلك بسرعة قصوى؟ هكذا مثلا ... قالها وقد أشار بيديه إلى خلفهما .. وما أن
أدارا رأسيهما حتّى وجدا مبنّى ضخم جميل لم يريا له من مثيل ... وتابع قائلا أو أن
يشقّ نهرا جاري معبّد الضفاف ليجري به الماء الصّافي بطرفة عين ... وما كاد ينتهي
من تلك الكلمات حتّى وكأنّ كلماته قد تحولت إلى نهر جميل معبّد الضفاف وعلى ضفتيه
تمتد طرق جميلة تضيئها قناديل معلقة بالهواء وتجوبه عربات جميلة وغريبة ... هل كنت
تريد لذلك الحاسوب امتلاك مثل هذه القدرة ... كأن يبرمج مدينة كاملة في لمح البصر
... وما أن انتهى من تلك الكلمات حتّى تحوّلت تلك السّاحة الكبيرة إلى مدينة مضيئة
.. مزدحمة بالناس والعربات والمحال التجارية ويقسمها نهر جميل .. تخوضه السفن
الجميلة والقوارب الشراعية في منظر خلاّب ...... هل كنت تريد مثل هذا؟
بصوت مندهش قال جون:
ما كنت لأصل لمثل تلك التّوقّعات والرّغبات
... جلّ ما كنت أحلم به هو تصميم مبنى ضخم ... أو معمل كبير أو بعض المكتشفات التي
ستساعد في حل مشاكل العالم الحاليّة .. ولكن كلّ هذا وبهذه السرعة ... اشعر بأنّ
هذا الإنجاز سيجعلني أشعر بالعُجـُبِ والخيلاء حتّى على نفسي ... فهذه القدرة تفوق
خيالي وطاقة تصوّري
الأوّل:
كنت إذن تريد أقل من هذه القدرة
للحاسوب ... ولكنّني الآن أنا هو من يحوز على ما كنت تتصوّره وتريده من تلك
القدرات لذلك الحاسوب
بنبرة غضب قال جون وقد أحسّ بمن يريد
سرقة نشوته بالانتصار والنجاح:
و لكن من أنت؟ ما أنت سوى صورة قام
حاسوبي بصنعها وتسويتها ... وتريد الآن سرقة نشوة النجاح بهذا الإنجاز منّي
لتنسبها لنفسك
الأوّل: لقد أصبت كبد الحقيقة فما
كنت أحاول شرحه وإفهامه لك منذ لقائنا الأوّل مرة حتّى الآن هو هذا ... وهو أننّي
مجرّد صورة أو برنامج أعدّه سيّدي ليظهر قوّته وصفاته من خلاله ... فإذا أراد أن
يفعل كنت أنا يده التي يفعل بها .. فلا أفعل إلا ما يريده سيّدي ... وما يريده هو
.. أفعله أنا بقوّة وعلم وحياة هي منه مستمدّة ... فأنا عبد مطيع لسيده
في تلك اللحظة بدأت أسارير جون
بالإنفراج فها هو منافسه يعلن خضوعه وعبوديته لما صنعت يداه
جون:
أظنّني بدأت أفهم وضعك الآن
الأوّل: بالتّأكيد ليس بعد ... فما
زلت بعيدا عن هذا ... ولكن دعني أشرح لك ذلك بشكل بسيط ... في تلك اللحظة قدّم له
قطعة من الخشب ... ثمّ قال: هل ترى هذه القطعة الخشبيّة ... هل ترى لها شكل مميّز؟
أم هل تعتقد أنّها مميزة؟ بالتّأكيد كلاّ ... ولكنّني سأجعل منها حيّة تسعى .. وما
أن انتهى من قوله هذا حتّى تحوّلت تلك الخشبة إلى حيّة تتحرك مبتعدة عنهم ... واستطرد
الباطن قائلا .... أستطيع في هذه اللحظة أن أغيّر شكلّ وطبيعة كلّ ما تراه هنا ...
وفجأة تحوّل النّهار إلى ليل دامس الظلام .. والأرض إلى بحر متلاطم الأمواج
يخوضونه بطوف خشبيّ صغير ... ليصاب جون بحالة من الذّعر خوفا من الغرق ... لحظات
قليلة .. هدأت بعدها أمواج البحر ليصبح سطحه كالمرآة اللامعة .. فعاد جون لهدؤه ..
فاستمرّ الأوّل قائلا: لن تغرق هنا جون .. وليس معي بالتّأكيد .. فكما ترى لا
يلزمني هنا سوى أن أرغب بالشّيئ حتّى يتحقّق لي ... فهل تستطيع أن تتوقّع كيف يتمّ
لي ذلك؟ ... أنا متأكّد من أنّك لن تستطيع تفسير ذلك؟ ولكن دعني أقدّم لك معلومة
صغيرة .. وهي بأننّي لم أحتج لتحقيق ذلك سوى استمرار تدفق القدرة والتسديد من سيدي
لي
ألس:
دعني أخمّن ذلك لو سمحت لي
الأوّل:
من دواعي سروري أن أستمع إليك فتفضلي
ألس:
شكرا ... بما أنّ كلّ شيئ هنا هو رهن
إشارتك ... فهذا يعني أنّ المادة الأوّليّة لكلّ شيئ هنا هي كذلك رهن إشارتك ... ورهن
إشارتك تشير إلى وجود إتّصال دائم ما بينك وبينها ... فهي تنتظر الأمر منك .. أي
تلك المادة الأوّليّة الّتي صنعت أو صوّرت منها البحر والبر والمباني تنتظر الأمر
منك لتتشكل كما تريد أنت منها ... وكونها تنتظر الأمر منك يعني ويشير إلى
عقلانيّتها أو إدراكها الذاتي وبالتـّالي لحياتها ... فإذا تلك المادة الأوّلية هي
مادة حيّة وخاضعة لك حسب تسلسل الأوامر وكما أوضحت لنا قبل قليل ... يرغب سيّدك
برغبة ما وبسبب اتّصالك المباشر به ستعلم أنت بتلك الرّغبة فترغب أنت بتحقيق تلك
الرغبة لسيّدك .. فتبتدأ بتوجيه الأمر منك مباشرة للمادّة الأوّلية والّتي هي جزء
منك لتتشكل كما ترغب أنت .. وهي رغبة ناشئة عن رغبة سيّدك لها ... فسيّدك يرغب وأنت
تأمر والمادة الأوّلية تتشكل ... رغبة من حيّ .. وأمر من حيّ .. وتنفيذ من حيّ ...
وقول مختصر ....... سيّدك يرغب ... الوجود والذي هو أنت يأمر .. فتفيض شجرة الحياة
بالعلم وبالقدرة .. وبالحياة ....... سيّدك يرغب .. الباطن يأمر ... والظاهر ينفّذ
الأوّل:
لا زلت تثيرين إعجابي لطريقتك
الجميلة في شرح ما تريدين قوله ... فما كنت لأعدو على طريقتك في شرح هذا الفاصل
... ولكن لي تعديل بسيط على ما قلته أنت ... فكما أنّني أعرف ما يريده سيّدي وما
يرغب به ... سيعرف الظاهر أي شجرة الحياة وفروعها حالا بما أرغب به أنا .. فالظاهر
يعرف بأنّني لا أرغب إلا بما يرغب به سيّدي فينفّذ رغبتي على الفور ... فرغبة
سيّدي هي بالنّسبة لى أمر .. ورغبتي أنا هي بالنسبة للظاهر أمر ... وعندما أقول
أمر فلا أقصد به ما تفهمونه من فعل الأمر ... فلا يوجد بيننا ما تعرفونه أنتم بفعل
الأمر ... بل رغبات ... وتنفيذ الرّغبات بيننا هي أجمل وأجلّ من أن تكونا أوامرا
جون:
دعني ألخّص ما فهمته بدوري حتّى لا
أكون بعيدا عنكما .. فكما يبدو أنّكما تلعبان بفريق واحد ... فلقد فهمت أنّ سيّدك لكي
يـُعرف ... برمج باطنا وجعل له منه ظاهر .. وجودا ظاهره حياة وحياة باطنها وجود ..
وجعله متّصل به بدون واسطة وأعطاه من القدرة والعلم والطاقة والتي هي ممثلة
بالحياة ... بحيث إذا رغب بشيئ ما لأن يكون على هيئة ما علم الوجود برغبته على
الفور ... لتقوم شجرة الحياة أو الظاهر والّذي هو متّصل بالوجود بشكل مباشر بتجسيد
تلك الرغبة إلى واقع مفهوم لتلك البرامج أو النفوس والّتي غاية كمالها هو بمعرفة
سيّدها ومبرمجها
الأوّل:
أراك قد استحققت عضويّة الفريق أيضا
... وهذا هو تماما ما أتمنّاه ... فهو يدلّ على نجاحي بإيصال ما أردّت إيصاله لكم
من الأفكار حتّى الآن ... والآن دعونا نذهب في جولة سريعة عبر تلك العوالم والمراحل
الّتي كنت قد حدّثتكم عنها قبل قليل ... فكيف تحبّون الولوج بأوّلها؟ ... أبطريق
الحركة من هنا إليها؟ أو عن طريق الإنتقال اللحظويّ؟ .. بمعنى كن فيكون ... أرى
أنّ هذه الطريقة ستكون جافة بعض الشّيئ .. خاصّة بعد هذا التوقّف الطّويل هنا ...
لذلك سأدعو صديقتنا السّحابة من جديد لتأخذنا بتلك الجولة .. أم تراك ألس تفضلين
أن نستقلّ الحصان الطّائر ... في تلك اللحظة تقدمت منهم تلك السّحابة تتبعها ثلاثة
خيول بيضاء جميلة تحيط بها هالة من النّور .. وحين حطّت بقربهم انحنت بإجلال
تدعوهم للرّكوب ... ألس لم تنتظر طويلا لتقرّر .. فتقدّمت من أحدها ليبرز الفرس
جناحه الجميل ليمتدّ حتّى قدميها وكأنّه يدعوها لتستعين به .. عقدت الدهشة لسان
ألس من ظرف تلك الخيول وجمالها .. فتقدّمت مبتسمة وحين وطئت بقدمها جناحه نطق بصوت
جميل:
أنا بأمر سيّدتي الجميلة
ألس مندهشة:
شكرا لك .. ولكن ليت الشباب يعود
يوما
الأوّل:
و أنا كذلك بأمر سيدتي الجميلة ...
في تلك اللحظة شعرت ألس ببشرتها وهي تتقلص وتنشدّ ... فنظرت ليدها لترى يديها
المليئة بالتجاعيد الجافة تتحوّل إلى نضرة وناعمة .... تنتهي بأصابع رقيقة وجميلة
منسابة كالجداول ... بها لمست خدها لتجده ناعما كالحرير ... ومن فوق عنقها نزولا
حتّى الركبتين لمحت شعر ذهبي ناعم ومن تحته بصرت قدمين هما أشبه بأقدام الملائكة
الأوّل:
نعم سيّدتي أنت في عالم الإمكان وكلّ
شيئ هو ممكن التحقّق هنا ... وأنت جون أنظر إلى نفسك أو دع ألس تخبرك بما ترى ...
جون في تلك اللحظة كان يقف مندهشا من ذلك الجمال الذي أصبحت عليه ألس فلم يلحظ ما
طرأ عليه من تغيير ... فجسده أصبح ممشوقا وتلك التجاعيد المقيتة اختفت من فوق وجهه
ويديه ...و ما كان يلبسه من ملابس قد تبدّل بحلّة جميلة تبرز كتفين عريضين فوق صدر
مفتوح وظهر لم تحنه السّنين ... لكنه لم ينتبه لكلّ ذلك منشغلا بما أصبحت عليه ألس
من جمال وفتنة تزهو بحلّة من الحرير الأخضر وتحيطها هالة من النور فيزيد جمالها
بروزا وظهورا .. عقدت المفاجئة لسانيهما وبلا شعور استقلاّ تلك الخيول الّتي ما
لبثت أن حلّقت بهما في حالة من الهيام والخيال .. في عالم الشباب والجمال
الأوّل:
أودّ أن أترككما الآن مع وجهيَ الآخر
.. مع الظاهر .. مع شجرة الحياة في هذا العالم .. لألتقيكما فيما بعد ... ولا أعني
هنا أنّي مفارقكم فأنا معكم أين ما كنتم في عالمي ... ولكن سأترككما لكي يكون
الحديث أكثر خصوصيّة بعد أن كان الحديث حتّى الآن عاما .. وجودا وحياة ... ليصبح
الحديث بما يخصّ الحياة فقط على اعتبار أنّ الوجود هو بديهيّ ومسلّم به كما قلتم
في أوّل الحديث ... فأنا تارككم ولست بمفارقكم .. فإلى اللقاء ... في تلك اللحظة
برز الظاهر من الأوّل وانطوى الأوّل في الظاهر ... برز ذاك الذي قال عن نفسه بأنّه
هو شجرة الحياة وأغصانها بأمر سيده ...
لحظات صمت مرّت قال بعدها:
أفضّل أن نبتدأ جولتنا قبل أن أجيبكم
أو أبتدأكم بإيضاح موقعي من هذا الوجود .. مرت عليهم تلك الكلمات كالنسيم فلقد
كانوا منشغلين عنها بالنظر إلى بعضيهما وإلى حركة تلك الأجنحة البيضاء الرشيقة في
ذلك الجوّ البديع بين تلك المناظر الخلاّبة من الغيوم والطيور والمياه الزرقاء من
تحتهم ... وحين إقتربت الخيول من سطح الماء بدأت الأسماك بالقفز من تحت أقدامهم في
حركة هي أشبه ما تكون بتحيّة استقبال .. تلتها الدلافين والحيتان تحيّهم وترافقهم
حتّى بلغوا شاطئ البحر لتبقى الطّيور من حولهم مرفرفة فوق غابة كثيفة من الأشجار
ما لبثت طيورها وحشراتها أن احتشدت تستقبلهم ... مغرّدة بنشيد واحد وكأنّها كانت
تستعد لهذا اليوم منذ زمن بعيد ... مظاهر الفرح والسّرور بادية في حركة تلك
الكائنات ... فحلّقت أمامهم في تشكيلات بديعة رافقتهم بها حتّى أطراف تلك الغابة وحدودها
... لحظات قليلة اقتربت الخيول بها من الأرض لتحطّ في وسط منظر مهيب لأكبر تجمع من
الحيوانات والطيور ... الأليفة منها والمتوحّشة ... تقف متداخلة بين بعضها البعض
في جو من السكون والتّرقب ... وما أن حطّت أقدامهما على الأرض حتّى انحنت جميع تلك
الحيوانات بقوائمها الأمامية لتلامس الأرض مطئطئة برؤسها للأسفل .. وكذلك فعلت
الأشجار والنباتات والطّيور والحشرات ... كلّها انحنت خضوعا وإجلالا للقادمين ...
بضع خطوات بين تلك الوحوش يتقدمهم الظّاهر كانت كافية من جعل قلب جون يخفق بعدد
تلك الوحوش ... إستمرّ الظّاهر بالتّقدم بين تلك الحيوانات وهي تعلن خضوعها بالزحف
متراجعة ومفسحة الطريق له ولألس وجون ... ومن خلف تلك الوحوش برزت خيمة صغيرة
تقدّموا منها ... بها لم يكن يوجد الشيئ الكثير .. بساط أرضي .. نار موقدة عليها
إبريق تتصاعد منه رائحة عطرة ... دعاهما للجلوس ثمّ قال: تتسائلان بالتّأكيد عن
سبب اختياري لهذا المكان دونا عن غيره ... سأقول لكما السبب .. وهو أوّلا لألفت
نظركما لوجود حياة أخرى غير تلك البرامج أو النفوس التي تحدّث عنها الأوّل والّتي
من المقرر لها أن تعرف سيّدها ومولاها وموجدها .. أو مبرمجها في هذا الوجود ... وذلك
من خلال هذا الفصل وهذه المرحلة وما سيتبعها من مراحل وفصول ... ومن الواضح أن هذه
الحيوانات والأشجار بكل أشكالها هي صورة أخرى من صور الحياة .. إلاّ أنّ الغاية من
وجودها هو ليس وصولها هي بحدّ ذاتها لتمام المعرفة كما هو مقرر لتلك النفوس أو
البرامج .. بل لمساعدة تلك البرامج أو النفوس للوصول إلى تمام المعرفة .. وذلك
بإثارة مخيّلتها وفضولها ... ولبيان عظمة مصوّرها وصانعها .... فهل تستطيعان أن
تجدوا لي فرقا ما بين علاقة تلك البرامج أو النّفوس مع هذا الوجود .. وما بين
علاقة هذه الحيوانات مع هذا الوجود؟ .... مرت لحظات من الصّمت ... ليستمرّ الظّاهر
من جديد قائلا: أنت يا جون من الأحياء وأنتي كذلك يا ألس ... وانتما موجودان حاليا
بهذا الجسد في هذا العالم .... فهل تشعران أنّكما مسيطران بشكلّ كامل على هذا
الجسد؟ ومن أنه يستجيب لأرادتكما تمام الإستجابة؟
في تلك اللحظة رفعت ألس يدها وراحت
تحركها صعودا وهبوطا ... ومحركة لأصابعها بسط وقبضا ثمّ قالت:
نعم أشعر بذلك بشكلّ كامل
الظاهر:
و لكنّك متأكّدة من أنّه ليس بجسدك
الحقيقي ... ومن أنّه جسد أخر قام الحاسوب بتوفيره لك من أجل أن تتأقلمي مع هذا
العالم ... بينما جسدك الحقيقيّ هو هناك في الخارج معلق بالهواء يتحرّك بحركات لا
معنى لها في عالمكم فتنعكس بدورها هنا على شكل حركات ذات معنى واضح ... مثل المشي
والكلام والآن شرب هذا الشراب ... فهذا الجسد الذي تتقمصينه الآن هو ليس بجسدك ولكنّك
تشعرين بأنّه يوافق رغباتك ويعبّر عنها وعن إرادتك .. فهل توافقيني على ذلك؟ ...
أشارت ألس بالإيجاب وكذلك فعل جون ..... فاستمرّ الظّاهر مستطردا: إذن أنتما لا
تملكان في عالمي هذا سوى رغبتكما او إرادتكما ... وما عدا ذلك فهو من صنع هذا
الوجود .... فإذا شئتما التّحدّث أو الحركة على نحو معيّن قام الوجود بالتّحرك
بشكل متناغم مع رغباتكما ومشيئتكما فتشعران معه بأنّكما جزء حقيقي من هذا الوجود وليس
مجرد إرادة أو رغبة ... فهل هذا هو واقع الحال هنا؟ مرّة أخرى أشارت ألس بالإيجاب
وتبعها جون في ذلك .... فاستطرد الظاهر قائلا: فهل تستطيعان إذن أن تتوقّعا
ميكانيكية ما يحدث من حين صدور الرغبة منكما في الخارج حتّى تحقّق ردّة فعل الوجود
هنا بذلك الشكل الذي لا تشعران معه بوجود فرق أو تنافر بين هذا الوجود وإرادتكما؟
جون:
سوف أحاول ذلك ... فعندما تتحرّك
أجسادنا بالخارج وفقا لرغبتنا تقوم تلك البدلة الخاصّة بتحويل تلك الحركات إلى
إشارات كهربائية يستقبلها الحاسوب الذي يترجمها لحركات وكلمات تظهر في هذا العالم
أو هذا الوجود كما تحبّ أن تدعوه على شكل صور وأحاسيس
الظاهر:
لقد قلت الحاسوب وأحبّ أن أستبدل هذه
الكلمة الجافّة فلا حياة بها ... لأقول .. إرادة تصدر منك ... يعلم بصدورها منك
سيدي ومولاي فيرغب بإظهارها تبعا لرغبتك بذلك ... فأوجد هذا الوجود لإظهار تلك
الإرادة منك لك فيه وأنا جزء من هذا الوجود ... وما يربط إرادتكما بهذا الوجود هو
سيّدي .... وهنا أقول ... كما أنّ إرادتكم ترتبط بهذا الوجود عبر سيّدي ومولاي
لتظهر ... كذلك تظهر إرادة تلك البرامج أو النفوس في هذا الوجود بسبب رغبة سيّدي
بذلك ... فهذا الوجود مسخّر بالكامل لكي تعبّر تلك النفوس به ومن خلاله عن رغباتها
وإراداتها وكذلك لتصل عبره وبمساعدته لتمام المعرفة .... هذا في ما يخصّ تلك
النفوس أو البرامج .... أما هذه الحيوانات ... سيان المتوحشة منها أو الأليفة ..
فرغبتها وإرادتها وحركتها وافعالها نابعة من هذا الوجود ووفق قوانينه ومقاديره
المحدّدة والمقدّرة بشكل دقيق ... بمعنى إذا رغبت إحدى تلك الوحوش إفتراس أخرى ...
فسبب تلك الرّغبة ليس إرادة مستقلّة كالتي عندك وعندي ... بل سببها قوانين ومقادير
هذا الوجود ... فإذا توافقت المقادير والقوانين فيه على نحو معين فليس لتلك الوحوش
سوى أن تفترس ... على العكس تماما لرغبة تلك البرامج أو النفوس بالقتل ... فتلك
الرّغبة ناتجة عن اختيار مستقلّ من ذلك البرنامج أو تلك النفس بالقتل أو عدم القتل
... وبتعبير أخر ... إرادة أشكال الحياة الأخرى في هذا الوجود ومنها هذه الحيوانات
هي شكل من أشكال إرادة هذا الوجود فلا يمكنها التّخلّف عنها ... أمّا رغبة تلك
النفوس فهي إرادة مستقلّة عن إرادة الوجود ... أي مستقلة عن إرادتنا نحن .. ولاكن
بما يتناسب مع قوانين هذا الوجود ومقاديره وبما لا يتقاطع معه ........
ألس مقاطعة:
ما فهمته من كلامك أن الإرادة هنا هي
نوعان ... إرادة الوجود ... أي إرادتكم .. فهي تسيّر كلّ ما في هذا الوجود من
أنواع الحياة ... بل هي آخذة بناصية كلّ ما يدبّ فيها حسب قوانين ومقادير دقيقة
... وإرادة أخرى هي إرادة تلك النفوس أو البرامج .... وهي إرادة مستقلّة عن
إرادتكم ... فتتعاملون معها بشكل آنيّ ... فإذا ما صدرت تلك الإرادة منها لفعل فعل
ما .. قمتم بتشكيل الصور والأفعال في هذا الوجود بشكل متناغم مع رغباتها لتظهر به
على شكل أفعال هي من فعلكم وتصويركم ولكنّها منسوبة لإرادتهم في فعلها ... والرّابط
الفاعل في ما بينكم هو سيّدكم ومولاكم؟ ... فإذا كان ما فهمته الآن صحيحا .. فهل
معنى ذلك وجود عالم آخر أو وجود آخر مستقل عن وجودكم ... فتصدر به رغبات تلك
النفوس أو البرامج .. فيقوم سيّدك بعد ذلك بالرّبط في ما بينها وبينكم فتظهروها؟ وبتعبير
آخر ... هل عالم الرغبات أو عالم الإرادة لتلك النفوس هو عالم منفصل عن عالمكم أو
وجودكم .. وما بينهما يربط رابط؟
الظاهر:
في ما يخصّ فهمك لما قلت فهو فهم
جيّد يكاد يكون مطابق لما قلته ... ولكنّني لم أشر لما يفهم منه بأنّ تلك الإرادة
صادرة من غير عالمنا أو من وجود آخر ... وإذا كان قولي بأنّ سيّدي هو الرابط بيننا
قد أوحى لك بذلك ... فأقول أنّ سبب استعمالي لكلمة الرّابط هو لإقراري بأنّ تلك
النفوس هي تماثلني بالكيان ... وليس بالقدرة أو التكوين ... فكلّ منها هو نفس
مستقلّة عن غيرها وذات مشيئة مستقلّة ... تماما كما نحن نفس واحدة ومستقلّة
بمشيئتها ... وكما أنّها نفوس أو برامج ذات أبعاد محدّدة .. نحن كذلك نفوس لها
أبعادها المحددّة ... وذلك طبعا مع الإختلاف في سبب وجود كلّ منّا وطبيعته وصلاحيّاته
وقدراته .... ولكنّنا نعتقد أن الرابط ما بين جميع تلك البرامج أو النفوس ونحن
منهم هو رابط واحد ... ألا وهو سيّدي ومولاي ... فكلنا نفوس قائمة بمشيئته وقدرته
... فنحن نربطها ببعض كوجود هي موجودة به وسيّدي يربط ما بيننا وبينه
ألس:
فإذا كان وجودهم أي تلك النفوس كما
قلت هو من وجودكم .. وأنتم نفس مستقلّة ذات إرادة مستقلّة .. فكيف يمكن لإرادتهم
أن تكون مستقلّة عن إرادتكم؟
الظاهر:
و من قال إنّها مستقلّة عن إرادتنا
... فهي مستقلّة بإرادتها ولكن بإرادتنا ... أي بإرادتنا نحن كانت إرادتهم مستقلة
... فلو كانت إرادتهم غير مستقلّة بنحو ما ... لكانت إرادتهم هي إرادتنا ... وإرادتنا
كما أوضحنا سابقا هي إرادة سيّدنا ... فلو كان الأمر كذلك لما كان لوجود الطّاعة
من معنى ... ولا من سبب لوجود العقل أو الجهل .. ولكن دعيني أصوّر لك الأمر بما
يمكنك أن تتصوّريه ... ولذلك سوف أنقلكم إلى حيث تصنع إرادة تلك النفوس في هذا
الوجود ... فكما أنّ إرادتكما لا تصدر من حدود هذا الجسد الذي تتقمّصانه في هذا
المكان ... بل من مكان آخر .... كذلك هي الإرادة لتلك الأجساد الممتحنة والّتي
تتحرك في هذا الوجود ..... في تلك اللحظة بدأت ألوان الأجواء تتغيّر ... لتختفي
تلك الحيوانات من أمامهما وبدى لهما عن بعد صورة ملك أبيض جميل له أجنحة وكأنّه طائر العنقاء يقترب منهم ... شيئا فشيئا كبر وكبر حتّى اختفت
صورته الكليّة من امامهم لتبدأ تفاصيل جسده بالبروز شيئا فشيئا في صورة لم
يستطيعوا بادئ الأمر من تحديد ملامحها ... فبدت لهم أوّلا في ما يشبه أمعاء ضخمة
ثمّ أصبحت أخاديد كبيرة تنتصب بها أبراج عالية ... وباقترابهم أكثر فأكثر من أحد
تلك الأبراج بدأت معالم الصّورة على سطحه تتضح وتأخذ أشكالا أكثر وضوحا .. نتوئات
صغيرة بدت على سطح تلك الأبراج وكأنّها رؤوس للبشر ... بعضها ساكن وملقى عليه ما
يشبه الغطاء وأخرى تتحرّك حركات غير مفهومة وتهمس بلغات مختلفة ....
حينها قال الظاهر
هل تريا هذا الشيئ هنا .... هنا تصنع
الإرادات لتلك النفوس ... ففي كلّ رأس من هذه الرؤوس النّاتئة على سطح هذا الملاك
.. يوجد عقل يفكّر بشكل ذاتي ... وكلّ عقل منها مرتبط حيث ما كان في هذا الوجود وفي
أيّة مرحلة منه بجسد له هو
من صنعنا ليعبّر
به ومن خلاله عن مكنوناته وإرادته ... تماما كما يرتبط عقلكم مع هذا الجسد الذي
تتقمصانه في هذا الوجود .... فكلّ عقل في هذا الملاك أو العقل الكلّيّ مرتبط بجسد
يرى ويسمع ويحسّ به ومن خلاله كلّ ما يحدث في تلك المرحلة أو ذلك الفصل الذي يمر
به .... فيقرّر عبره أي عبر ذلك الجسد كيفيّة ردّة فعله على ما رأى وسمع وأحسّ ...
تماما كما هو وضعكم في هذه اللحظة ... فكلّ من تلك النفوس من خلال هذا الملآك أو
هذا العقل الكلّيّ تفكّر باستقلاليّة تامّة عن تفكير غيرها لتقرّر به وعبره اختيار
ما يناسبها من الأفعال والقرارات ... وهي هنا وإن كانت مستقلة بالإختيار فهي
محدودة بمجال الإختيار ... أي محدودة بالإختيار وهي مجبورة على التحرك ضمن جنود
العقل أو الجهل فهي لا تعرف غيرها .. كما أنّها كذلك محدودة ومحكومة بتلك القوانين
والمقادير التي تحكم هذا العالم ... فهي فيه وإن رغبت بالتّحليق في الفضاء .. فلن
تستطيع ذلك إلا ضمن قوانين ومقادير هذا الوجود
جون:
لقد طُرحت هذه الفكرة في العديد من
أفلام الخيال العلمي
الظاهر:
أعلم ذلك ... ولكن لكي تستطيعا
تصوّرا كيف أنّ تلك النفوس مستقلّة بإرادتها بإرادة أخرى ... وجب أن أصوّر الأمر
لكما بما تستطيعان استيعابه وتصوّره .. فكان هذا الشرح هو أقصر الطّرق وأسهلها
لذلك الهدف ...
ألس:
هل تريد القول بأنّ سيّدكم أوجدكم وبعد
ذلك أخرج الأمر من يده بتوكيله لكم؟
الظاهر:
كلاّ وألف كلاّ... بل نقول أنّ الأمر
كلّه فعله وتحت إدارته ومراقبته وفيضه يجريه حسب مقادير دقيقة ... فهو أوجدنا وقدّرنا
تقديرا دقيقا ثمّ أفاض من قدرته وعلمه وحياته علينا ... لنقوم ضمن تلك المقادير وحدودها
بالفعل ... فنحن محدّدون بما حدّده لنا .. منتظرون لفيضه في كلّ آن ... ومتى ما
أوقف فيضه عنّا ... توقّفنا ... وهذا هو عين ما نعتقده بأنفسنا وبسيّدنا ومولانا
جون:
و كأنّك تريد أن تقول أنّكم بمقام
الواسطة أو الطّريق ما بين سيّدكم وتلك البرامج
الظاهر:
هذا هو فعلا ما نقوله ونعتقده
ألس:
لقد فهمنا أنّ كمال تلك البرامج أو
النفوس كما تحبّ أن تدعوها مرهون بتمام معرفتها لموجدها ومبرمجها ... فما هو
كمالكم كرابطة وصل وكواسطة ما بين سيّدكم وتلك النفوس؟
الظاهر:
لقد أحبّ ورغب وشاء سيّدي بأن
يُــعرف .... فتحقّقت له تلك الرغبة بمجرّد أن شاء ... فمن امره أوجدنا وجعلنا
أمره الذي يعرفه حقّ المعرفة ... ومن ما نعرفه منه عنه من علمه المخزون الذي
اطلعنا عليه .. أنّه يحبّ لصفاته وقدراته أن تظهر وأنّه لا يرغب أو يشاء عبثا أو
لعبا .. فقدّرنا أن أعظم هدف وكمال نسعى له هو تحقيق تلك الرغبة والمشيئة لسيّدنا
ومولانا بإظهار صفاته ... فكان وجودنا كوجود .. وفعلنا كفعل مسخّر وميسرّ لخدمة
ذلك الهدف في جميع تفاصيله ومراحله وفصوله ... ونعتبر كلّ ما يُــبّعدنا عن تحقيق
ذلك الهدف هو عبث ولعب ولهو .......... وكمالنا الذي تسألين عنه هو كمالان ...
كمال التصوير .. وكمال القيادة ... فما سيصدر عنّا من أفعال التّصوير أي تصوير كلّ
ما هو على شكل سماوات وأرض ونجوم وبحار وجبال وأشجار وحيوانات وبشر وملائكة سيعبر
عن علم سيدنا وقدرته وحياته وذاته ... فوجب أن يكون ذلك التّصوير من الكمال في
التصميم بما يعبّر عن تلك الذّات الكاملة ... وهذا هو كمالنا الأوّل وهو كمال
تمثيلنا لذات سيدنا ومولانا بإظهارنا لعظمته وقدرته وعلمه وصفاته تماما كما يتّصف
هو بها ... وتماما كما أحب أن يتجلّى لبرامجه بها .... أمّا كمالنا الآخر فهو كمال
هداية وقيادة تلك النفوس أو البرامج لنصل بها لكمالها المنشود بتمام المعرفة ... وكمالنا
يبدأ وينتهى بنفس النقطة .. ولك أن تقول أنّه يتحرّك على محيط قوسي دائرة .... وتمام
الكمال الأوّل أي كمال التمثيل هو تمام القوس الأوّل منها أي بتمام تصوير الأشياء
.... وكمال القوس الآخر هو برجوع كلّ ما صوّرناه بإرادته لبداية القوس الأوّل وبتحقيقنا
الهدفين أو باستكمالنا القوسين نكون نحن وتلك النفوس نتّجه إلى مركز واحد ونقترب
منه بشكل متساوي .. فما دامت تلك النفوس بعيدة عن معرفة مبرمجها كنّا كذلك بعيدين
عن بيان جميع تلك الصفات ... وباقتراب تلك النفوس من فهم جميع تلك الصفات نكون قد
اقتربنا من هدفنا تماما بقدر اقترابهم من هدفهم ... لنكون في حركتنا متوجّهين إلى
نقطة تلاق بيننا وهي الكمال ... فنصل لكمالنا فقط حين وصولهم جميعهم لكمالهم ... وبتعبير
آخر كمالنا الثاني هو بوصول جميع تلك النفوس لكمالها
ألس متململة:
هل نستطيع الآن أن نبتدأ بجولتنا؟
الظاهر:
بلى نستطيع ذلك وعلى الفور ... في
تلك اللحظة عاد ذلك المنظر في تلك الخيمة ليحيط بهم ... فاستطرد الظاهر عندها
قائلا ... أريد أن أعرف منكم قبل أن ننطلق في جولتنا .. هل تودّون رؤية تلك
العوالم رؤية عين فقط أي من دون معرفة كيف تم صنعها وبماذا ومن ماذا ولماذا ... أم
تفضّلونها رؤية عين مع معرفة؟
لحظات صمت مرّت .. حزمت بها ألس
رأيها لتقول:
أفضّل أن تكون مع المعرفة ... وأرجو
المعذرة لو بدا منّي بعض التّسرّع ... فالفضول له نتائج غير محمودة في بعض الأحيان
الظاهر:
أصبت بقولك في بعض الأحيان ... فلولا
الفضول لما كان الكثير ليحدث أو لأن يكون قد حدث ....
تقدّم الظّاهر أمامهم بضعة خطوات ثمّ
استدار ليواجههما ... وصفق بيديه واحدة ... ليعمّ الظلام من حولهم
لحظات أخرى ظلّ بها واقف ينظر إليهم
وينظرون إليه ... ليستطرد بعدها قائلا:
لعلكم لم تتسائلوا كيف لكم وسط هذا
الظلام الدامس رؤيتي .. بمعنى كيف يمكنكم ذلك بدون وجود مصدر للضوء؟ ... في تلك
اللحظة أضاء مصباح في يده ثمّ قال وقد رفع بيده الأخرى قطعة من الخشب ... هل
تعتقدون فعلا أنّ هذا هو ضوء بالفعل؟ أو أنّ هذه قطعة من الخشب؟ أو أنّ ما تلبسونه
الآن هو قماش حقيقي؟ أو أنّ أجسادكم هذه هي من لحم ودم من ما تعرفانه من مسمّيات
عالمكم؟ بالتّأكيد كلا ... فلا هذا هو ضوء .. ولا هذه من الخشب من شيئ .. ولا ما
تلبسانه من القماش ... ولا ما يصدر هنا من أصوات هو صوت ... ولا أيّ شيئ هنا هو
مشابه لواقع ما تعتقدونه من عالمكم ... وإن كان طبعا يشابهه بالنتيجة ... فهذا
الضّوء عندما أوجّهه لهذه الجهة ستكون النتيجة أنّكم ستستطيعون رؤية تلك الحيوانات
وكلّ ما يدور في مجال حزمة ذلك الضوء ... وهنا دوّى زئير أسد في المكان ... فتابع
قائلا ... ونتيجة زئير الأسد هو سماعنا له ... فالواقع إذن مختلف عمّا تعتقدونه
... ولكنّ النتائج متشابهة .. فما الذي يجري هنا؟ وكيف تتمّ الأمور على ما هي عليه
لتنتهي بتلك النتائج؟ ... لقد قلنا فيما سبق أنّ تلك النفوس أو تلك البرامج لا
تملك في هذا الوجود سوى أن ترغب بإرادتها أن تفعل فيشاء سيّدي تحقيق تلك الرغبة
لها ... فيصور لها جميع ما أرادت فعله في هذا الوجود ضمن تلك المقادير المحددّة به
... كيف؟ ..... على سبيل المثال ... في حوار دائر بين اثنين في عالمي قال أحدهم
كلمة .. لا .. ويريد بها النّفي ... فحين لفظه لتلك الكلمة ... سيفهمها المقابل
بعد سلسلة طويلة من الأفعال ليفهم منه مفهوم وآحد وهو النفي .. ومن تلك الأفعال
تحرك الفكّين واللسان ثمّ خروج الهواء من الصّدر وتأثيره على الحبال الصّوتيّة ..
ثمّ تحرّك الحبال الصّوتية بقدر معلوم .. لتولّد موجات صوتية .. ثمّ حركة تلك
الموجات الصّوتية حتّى تصل لطبلة أذن المقابل فتحرّكها بقدر معلوم .. لتتحول عندها
تلك الموجات إلى إشارات كهربائيّة بقدر معلوم عبر سلسلة أفعال طويلة الفاعل
الحقيقي لها هو سيّدي ومولاي وإن كانت منسوبة لذلك الذي يتكلم .. لتنتقل عبر سلسلة
أخرى إلى المخ ... والذي سيترجمها إلى مفاهيم ومعاني والمترجم لها كذلك هو سيدي ومولاي
... وأخيرا سيُـفهم سيّدي تلك المفاهيم والمعاني لتلك النفس ولا أقصد هنا ذلك
العقل في ذلك الجسد الذي تتقمصه تلك النفس ... بل ذلك العقل في ذلك الملاك ..
فجميع تلك الأفعال أو مقدّماتها وما سبقها وما سيتلوها من الأفعال هي فعل سيّدي
حقيقة .. ولكن من خلالنا ومنسوبة لنا لأننا من أراد صدورها ..... فهو فاعل
التّعبير .. وهو الناقل له .. وهو كذلك المُـفهم له تماما كما أنّه الفاهم له ...
وما ينطبق على حاسة السّمع ينطبق كذلك على البصر والحواس الأخرى ... فمن خلال فعله
لكلّ شيئ هنا هو يعلم بكلّ شيئ ... فإذا فكّرت إحدى تلك النّفوس خفية سوآء عبر هذا
الجسد أو عبر ذلك العقل في ذلك الملاك .. كان هو المفكّر بفعله تنفيذا لإرادتها
بالتّفكير ... فهو إذن موجودا مع كلّ شيئ بفعله .... ومن كلّ ما سبق أردتّ الوصول
لهذه النتيجة تحديدا .. وهي أنّه موجود مع كلّ شيئ وعالم به لأنّه الفاعل الحقيقي
له .. ولأنّه موجود مع كلّ نفس بفعله فهو يعلمَ كلّ شيئ عنها.. هذا إضافة لكلّ
النتائج المترتبة على ذلك ... مثل إدراك أنّ لا وجود لما لا يعلمه سيّدي في هذا
الوجود فما لا يفعله سيدي لا ولم ولن يكون له نصيب من وفي هذا الوجود
و لنعد الآن للتسائل الأوّل وهو ..
هل هذا هو ضوء؟ أو أنّ تلك هي خشبة؟ أو أنّ ما تسمعونه هنا هو صوت؟ ..... وهل هو
مشابه لما تعرفونه من عالمكم عبر حواسكم؟ ... بالتّأكيد كلاّ ... فليس أي مما هو
هنا مشابه لأيّ ممّا تعرفونه ... فما هي إذن طبيعة الأشياء هنا؟ لقد أوضحت قبل
قليل أنّ غاية كلّ فعل هو إفهام للنفس أو للغير ... أي أفعل أنا لتفهم أنت .. أو
تفعل أنت لأفهم أنا ... فتفعل لتعبّر لي عن ما في ذاتك ولكي أفهم ما تريد أنت أن
تطلعني عليه من مكنوناتك عبر ذلك الفعل .. وهكذا بالعكس .. أي منّي إليك ... ولكي
تستطيع تلك النفوس أو البرامج أن تعبّر عن مكنوناتها لبعضها البعض جعل لها خمسة
أسباب أو طرق ... أولها المرئيّات وثانيها المسموعات وثالثها المحسوسات ورابعها
المشمومات وخامسها المذاقات ... فتلك البرامج أو النفوس هي محدودة بالطرق أو
الأسباب التي ستعبّر بها عن مكنوناتها ... أي محدودة بتلك الأسباب أو الطرق الخمسة
... من هنا أقول لكم أنّ كلّ ما ستسمعه تلك النفوس هنا هو مجرّد سبب لتفهم .. وكلّ
ما ستراه هنا هو كذلك مجرّد سبب لتفهم ... وكلّ ما ستحسّه هنا وتشمّه وتتذوّقه هو
كذلك مجرّد سبب أو أسباب أوجدها سيّدي لتفهم بها وعبرها ما تريد كلّ من تلك
البرامج أو النفوس أن تفصح من مكنوناتها لبعضها البعض ... فتتفاهم عبر تلك الأسباب
... وإن كنت تقول إنّك تسمع بأذنك فتفهم من خلالها ... فأنا لا أذن لي كأذنك التي
لك في عالمك .. بل ما تراه هنا فقط .. ولكنّني أسمع بها تماما كلّ ما تريد أنت أن
تعبّر لي به عن ذاتك .. تماما كما تسمعني وأنا أعبّر لك عن مكنوناتي ... فسمعي لا
يختلف عن سمعكم بالنتائج .. ألا وهي الفهم والإدراك لمكنونات الغير .... ولكنّه
مختلف بالمقدّمات ... إذن بعد كلّ ذلك أستطيع أن أقول لكم أنّ أسباب عالمي هذا هي
أسباب غير ماديّة ... وليس كما تتصورون أنّ عالمكم قائم عليه .. أي على الأسباب
الماديّة ... وكما ترى أنّ نتائج الأسباب غير الماديّة في عالمي مشابهة لنتائج
الأسباب المادّيّة في عالمكم من فهم وإدراك مكنونات وذات المقابل ... فأنت تفهم
مكنوناتي عبر عالم المادة وأنا أفهمك عبر اللاّمادة
جون:
و هل توجد ميّزة في كون هذا العالم
عالم أسباب غير ماديّة؟
الظاهر:
طبعا ... ففي حين أنّ عالمكم يوجد به
سبب وأثر للسبب أو مادة وأثر للمادة .. أي أنّ قانون المادة عندكم يقول إذا توفّرت
الأسباب الماديّة وارتفعت الموانع المادية لها سيكون أثر تلك الأسباب هو تحصيل
حاصل .. أمّا في عالمي فكما أنّ المسبب له أثر .. فإنّ لأثره كذلك مسبب .. فقد
تتوفّر جميع الشروط وترتفع جميع الموانع للإحتراق أو السمع أو الرؤية فيتحقق ذلك
الأثر لتلك الشروط أي الإحتراق أو السمع أو الرؤية ... وقد لا يتحقق ... هذا في ما
يتعلق بالأثر الأوّل .... أمّ الأثر الثاني أو أثر الأثر وهو الفهم لذلك الأثر ..
فهو قد لا يتحقق لجميع من هم متواجودين في ذلك المكان والزمان أي عند حدوث ذلك
الإحتراق أو السمع أو الرؤية أو جميعها معا .. لماذا؟
لأن مسبب الأثر لم يرغب في موقف وزمان
ما من تحقّق الفهم والإحساس بذلك الأثر لجميع تلك النفوس أو لجميع تلك البرامج
التي كانت متواجدة في ذلك المكان والزمان ... وما لا يرغبه لا يشائه وبالتّالي لا
يفعله ... وهذه الميّزة في عالمي تعطيني القدرة على التّحرر من الحاجة للمكان أو
الزمان
ألس:
ماذا تقصد بالتحرر من الحاجة للمكان
أو الزمان؟
جون:
هل تريد هنا أن تقول أنّ باستطاعة
عدّة أشخاص أن يشغلوا حيزا واحد في نفس المكان والزمان وبدون أن يشعر أحدهم بالأخر
الظاهر:
هذا مثل بسيط لما يمكن أن يكون ..
طبعا لو وجدت حكمة ومصلحة من ذلك
و سأضرب لكما مثلا عمليا وبسيطا لما
ادّعيته قبل قليل ثمّ أشرحه لكما ... في تلك اللحظة بدا أمام ألس باب كبير وجميل
... طلب منها الظاهر أن تتقدّم منه لتفتحه ... فتقدّمت منه بهدوء ففتحته ثمّ رجعت
مكانها .... بعد ذلك طلب من جون إغلاقه ... فتقدّم ليغلقه ... ولكن كلّ ما حاول
الإمساك بمقبض الباب اخترقت يده الهواء .. فراح يحاول أن يمسك الباب نفسه .. ليفشل
بذلك أيضا ... فعاد أدراجه منتظرا تفسير ما جرى ... فبدأ الظاهر بالكلام قائلا:
- الإبصار عندكم هو نتيجة لانعكاس
الضوء عن الأشياء ... فالضّوء عندكم هو أصل كلّ رؤية وبدونه لا إبصار ... وفي هذه
الحالة كان هنا ما ينعكس الضّوء عنه تارة يُرى ويُحسّ ... وأخرى يُرى ولا يُحسّ
... صمت بريهة ثمّ طلب من ألس التّقدم من الباب مرة أخرى وفتحه ... فقالت بأنّها
لا تراه ... فطلب منها رغم ذلك التّقدم .. بضع خطوات تقدّمتها لتصطدم بشيئ بدا وكأنّه
باب ... تحسسته حتّى وجدت المقبض ففتحته
فقال الظاهر:
- وهذه حالة ثالثة أشياء لا ترى ولكنّها
موجودة ومحسوسة
و هنا طلب من جون التّقدم هو الآخر
لإمساكه ... فتقدّم محاولا إمساك الباب فبائت محاولاته بالفشل من جديد
فقال الباطن:
و هذه حالة رابعة .. أشياء موجودة ولكن
كما وأنّها غير مرئية هي كذلك غير محسوسة
و منها أيضا حالة خامسة ... وهي وجود
أشياء لا ترى من الجميع ولكنّها قد تكون محسوسة للجميع أو للبعض فقط ويمكنكم تصور
الحالة السّادسة وهي إمكان وجود أشياء مرئية للبعض وغير مرئية للبعض الأخر ... فما
الذي جعل ذلك الباب مرّة مرأيّا ... وأخرى ليس بمرئي؟ ... ولماذا كان محسوسا أو
غير محسوس في كلّ من تلك الحالات؟ الجواب هو بسيط للغاية ... وهو أنّ السبب في ذلك
كله هو رغبة سيّدي ومشيئته لذلك .. أي ما رغب لكم بأن تتحسّسوه وتشعروا به تمكّنتم
من ذلك .. وما لم يرغبه عجزتم عنه ... لماذا؟ وكيف؟ ... فما رغب لألس بأن تراه وتلمسه
شائه وإذا شائه عمل على حصوله بالفعل منه ومنّا .. فننقله إلى عقلها على شكل
أحاسيس مفصّلة أي صور مرئيّة ولمس باليد أو ما إلى ذلك من الحواس الأخرى .... فما
سيرغب بإظهاره من صور أو أحاسيس لنفس ما ... نقوم نحن بالعمل على نقله وإفهمه لها
صورة وإحساس ... وما لا يرغب به نمتنع عن تصويره وإفهمه لها
أمّا الآن وقد أوضحت لكم بعض ما يجري
هنا وكيفيته سأبتداء بتطبيقات تلك المشيئة وأثرها في عدم الحاجة للمكان في هذا
العالم
أوضحنا لكم سابقا أنّ تلك النفوس أو
البرامج ستمر في رحلتها للمعرفة عبر ثلاثة مراحل تتلو عالم العقل أو عالم العهد
... وكيف أنّ كلّ من تلك المراحل متكوّنة من عدّة فصول .. وأنّ من تلك الفصول ما
هو متزامن .. بمعنى أنّ أحداثها تجري بشكلّ متوازي وبنفس الحين ... وسأبتدأ بتوضيح
المرحلة الإولى منها لكم ... وهي مرحلة تتكوّن من سبعة فصول ... في كلّ فصل منها
تدور أحداث معيّنة تجري بشكلّ متوازي مع ما يجري في باقي الفصول ... أي أن الأحداث
في تلك الفصول تجري بنفس الآن واللحظة ... وأوّل تلك الفصول هو بمثابة مسرح
الأحداث أو ذلك العالم حيث ستسعى تلك البرامج أو تلك النفوس لتحقق به ذاتها وتصوراتها
للكمال .. وبه ستتوالد وتتمتع وتتنافس وتسعى به لتحقيق كلّ ما أمنت به من جنود
العقل أو الجهل في عالم العقل ... فتلك النفوس أو البرامج ستحمل ما اعتقدت به من
معتقدات ومفاهيم في عالم العقل إلى هذا العالم أو الفصل ... وبه سيحرص الوجود على
وضع كلّ برنامج أو نفس في المكان والأجواء المناسبة التي ستمكنها من تحقيق تلك
المعتقدات أو الرغبات والمفاهيم المحمولة معها من عالم العقل والتي بموجب اعتقادها
بها أعطت العهد ... فإذا كانت معتقدة بجنود البخل والطمع والجشع مثلا ... سيحرص
الوجود على وضع تلك النفس في أجواء ستستطيع بها ومن خلالها تحقيق الطمع والجشع والبخل
.. ولن يضعها في مكان تتوفّر به مقدّمات توصله للكرم والفضيلة مثلا ... وإذا كانت
ترغب بالعبادة والبحث عن مبرمجها .. سيوّفر لها الأجواء المناسبة لذلك ويضعها بها
... أو أنه سيوفّر وييسّر لها لاحقا الأسباب الموصولة إليه ..... واختصارا سيسعى
الوجود لأن يوصل كلّ مريد من تلك البرامج أو النفوس لما أرادت أن تصل إليه من
معتقدات وخيالات كانت قد إعتقدتها وتخيّلتها في عالم العقل ... وسيكون ذلك ممكن
فقط في عالم يمكنها من خلاله الإستعانة بجميع أو بعض جنود العقل أو بجميع أو بعض
جنود الجهل ... وكما أوضحنا سابقا أن تلك النفوس ستحصل في هذا الفصل من هذه
المرحلة الدنيا على جزء صغير من المعرفة لأسماء وصفات صانعها ومبرمجها ... ولكن
هذا الجزء على صغره سيكون أهمها على الإطلاق في هذه الرحلة .. رحلة التّكامل
بالمعرفة .. لما سيترتب عليه من نتائج تحدد مسار تلك الرحلة ولأي فصل منها سينتقل
ولأيّ من صفات وأسماء سيّدي ومولاي سيتعرف أوّلا ... أ لأسماء النّعيم أم لأسماء
الجحيم؟ .... أ لأسماء الرحمة أم لأسماء الغضب؟ ... أ لأسماء القرب أم لأسماء
البعد؟ ... فلأسماء النعيم والرحمة والقرب فصل غير فصل أسماء الجحيم والغضب والبعد
... فالفصل الأوّل منهما هو أشبه بروضة من رياض الجنة ... والثّاني هو أشبه ما
يكون بحفرة من حفر النار والجحيم .... وإن كانت البوابة لهذين الفصلين هي بوابة
واحدة سندعوها بوابة عالم القبر والذي به ستتعرف جميع تلك النفوس بمرحلة عالم
القبر لبعض أسماء سيّدي ومولاي ..... تلك ثلاثة فصول من فصول المرحلة الدّنيا من
مراحل رحلة المعرفة .... أمّا الفصل الرابع منها فهو مشابه للفصل الأوّل منها ولاكن
تلك البرامج الممتحنة به هي من صنف آخر لندعوه بعالم الجنّ ... ولها به جميع ما
للبرامج الأخرى في عالم الإنس ... والفصل الخامس منها هو للعاملين على إدارة هذه
الفصول الأربعة ... وسندعوه عالم الملآئكة .... والفصل السادس هو فصل الصورة
السالبة لتلك النّفوس .... بمعنى أنّ لكلّ نفس وفي نفس الآن صورتان ... صورتها
الخارجيّة التي تعيش بها بين باقي النفوس ... وصورتها النفسيّة أو صورتها السالبة
في تلك اللحظة الناتجة من أفعالها وملكاتها النفسية .... أي بما تؤمن به من الجنود
وبما عملته به من الأعمال ... أمّا الفصل السابع منها فهو جميعها متّحدة وهو فصل
المراقبة والإحاطة بجميع ما يجري بتلك الفصول في المرحلة الإولى
جون:
لم أفهم قصدك بما يخصّ الفصل السابع
... فهل لك بالإيضاح؟
الظاهر:
نعم بالتأكيد .. ولذلك سأطرح عليك
تسائل بسيط أريد منك له إجابة
جون:
تفضّل
الظاهر:
لنفترض من أنّك أردت بناء سبعة قصور
كبيرة ... الأوّل والثاني منهما للعمل والإجتهاد والكسب .... والثالث للراحة والإستجمام
والتّمتّع .... والقصر الرابع للسجون والتعذيب والتّخويف ... والقصر الخامس خاص
لإقامة العاملين على إدارة شئون تلك القصور الأربعة فينطلقون منه لعملهم وإليه
يعودون بالمعلومات عمّا جرى في نوبة عملهم في كلّ قصر منها ... والقصر السادس مصمم
للكشف عن مكنونات العاملين في القصرين الأوّل والثاني في كلّ لحظة من لحظات
تواجدهم بهما ..... والقصر السابع مصمم ومخصص لمراقبة وإدارة جميع تلك القصور ...
أي إدارة ومراقبة العاملين في القصر الأوّل والثاني والمتمتّعين في القصر الثالث والمعذّبين
في الرابع والعاملين على إدارة شئون تلك القصور في الخامس والإطّلاع المستمر
لمكنونات كلّ نفس منها بالسادس ... وتقدّمت بمناقصة لبناء تلك القصور على تلك
الهيئة .... فجائتك عروض مختلفة لبناء تلك القصور على قطع من الأرض متجاورات أو
متباعدات ... وكلّها عروض جميلة وبديعة لا ينقصها الكمال أو الإبداع في التصميم
.... وأخيرا جائك مهندس مبدع يعرض عليك بناء جميع تلك القصور على قطعة أرض واحدة
... وبحيث لا يرى قاطني أيّ من تلك القصور قاطني القصور الأخرى كما وأنّه لا يشعر
بهم ولا يسمعهم أو حتّى يلحض وجودهم على الإطلاق ... وسيكون مصدر إضائة تلك القصور
السبعة من إضائة وآحدة .... وقدّم لك التّصاميم الآزمة لذلك كما قدّم لك صفة مادة
البناء التي سيبني بها ومنها كلّ ذلك .... فأيّ من تلك التّصاميم سيكون برأيك هو
الأبدع من بينها ليظهر قوة وعظمة وقدرة ذلك المهندس؟
أظنّكم الآن قد عرفتم مقصدي بعدم
حاجتي للمكان في عالمي هذا .... فهنا لا يوجد ما تدعونه بالمادّة .. بل فقط مشيئة
سيّدي ومولاي .... فتلك الفصول السبعة متطابقة تطابق كامل وبذلك الشكل الذي
افترضته لتطابق تلك القصور ... ولو قدّر لك جمع تلك الفصول بنظرة واحدة وبنفس
اللحظة لما استطعت أن تفهم أو أن تميّز شيئ منها وسيبدوا لك المنظر بسبب تداخل
صوّر جميع تلك الفصول مع بعضها البعض .. أي صور حدائقها وغاباتها وغيومها والرياح
والنّيران والدخان والبحار والأسماك والطّيور والوحوش والإنس والجنّ وما عدا ذلك
من ما هو موجود في تلك العوالم السبعة وفي حركتها الدائمة والمستمرّة ... وستبدوا
لك حين تنظر إليها بتلك النظرة الجامعة وكأنّها الدّخان في غليانه ... ومن المهم
هنا أن تعرفوا كيف بدأت تلك الرحلة لتدركوا من خلال ذلك الفهم كيف ستصل تلك النفوس
لمرادها بتلك الرحلة وبجميع مراحلها .. أمّا المرحلة الإولى منها .. فبعد أن برمج
أو أوجد سيدي ومولاي الوجود وشجرة الوجود بأغصانها ... شاء أن يوجد منه ذلك العالم
الذي ستصل به جميع تلك البرامج أو النفوس لتمام المعرفة ... ولرغبته بأن يكون كلّ شيئ
حيّ ... جعل لكلّ شيئ حياته المستقلة وكماله الخاص به ثمّ أمدّه بالقدرة والعلم
لبلوغ ذلك الكمال ... فكان أن برمج برنامج أو أوجد نفس لها نفس قدراته وصفاته التي
يريد أن يتجلّى بها لبرامجه الأخرى فكانت هي مُـظهرة لها وهو الباطن أو الأوّل ...
نفس واحدة على أربعة حروف ... القدرة والعلم والحياة والذات التي تجمعهم ... لتكون
تلك النفس باطنة تلك الحروف الأربعة وتكون هي ظاهره ... فسيّدي ومولاي أوجد الوجود
الأوّل منه بدون توسّط ... وما عداه سينوجد بتوسّط الأوّل والذي حينما قرر تنفيذ
رغبة سيّدي ومولاي بإيجاد برامج تعرفه ... أوجد له ظاهر وثلاثة برامج حيّة أخرى
تمثّل ذاته الجامعة للقدرة والعلم والحياة ولتكون هي نواة عالم الإمكان حيث لا
وجود لما تعرفونه بالطّول والعرض والإرتفاع .. فقرّر أن تكون مظاهر أسمائه أو
صفاته العظمى هي أبعاد هذ الوجود ..... وبمعنى آخر ستكون مظاهر الأسماء العظمى هي
الأبعاد الثلاثة لعالم الإمكان ... ثمّ جعل لكلّ منها أربعة برامج أو نفوس تعمل
بإمرتها لتكون امتدادا لها ... أربعة نفوس لتكون امتداد الحياة فتفيض بالحياة على
كلّ مظاهر الوجود .. وأربعة نفوس لتكون امتداد القدرة فتفيض بالقدرة على مظاهر
الوجود ... وأربعة نفوس أخرى كانت هي أمتداد العلم لتفيض بالعلم على كلّ مظاهر
الوجود ... وبهذا سيصبح لمظاهر صفاته العظمى حضور بكلّ أرجاء هذا الوجود وجنباته
أظهر ثلاثة منها وأبقى الرابع مخفيا والمخفي منها هو ذاته .. فكما تجد أنّ في أي
إحداثيّة من إحداثيات عالمكم يوجد بها طول وعرض وارتفاع ... سيوجد هنا حياة ظاهرة
وعلم ظاهر وقدرة ظاهرة في حين بقيت ذاته مخفية مع وجودها بكل أرجاء هذا الوجود
............. ثمّ بعد ذلك جعل لكلّ امتداد من الإمتدادات اللإثنتي عشرة ما شاء من
المعاونين وهي كذلك من مظاهر أسمائه أو أفعاله ... ليفعلوا بدورهم ما تأمرهم به
تلك الإمتدادات الأثنتي عشرة والتي هي من حيث المقام أرفع درجة منها ... فكلّ منها
يفعل في مجاله ومقامه المحدود به... تلك النفوس مجتمعة هي صادرة من الوجود الأوّل
... من علم وقدرة وحياة سيّدى ومولاي .... فإذا شاء سيدنا ومولانا شاء حينها
الأوّل ((الباطن)) تحقيق ما شائه سيدنا ومولانا فيباشر الأول ((الظاهر)) تصوير تلك
المشيئة ... وبتلك المشكاة ستجري أحداث المرحلة الإولى ... ولما كنّا قد أوضحنا
أنّ جميع تلك المراحل هي في سبيل زيادة علم ومعرفة تلك النفوس الحيّة بمبرمجها ...
سندعوا تلك المرحلة إلتزاما بذلك الإعتقاد بمرحلة الحياة الدنيا ... أي أدنى مراحل
العلم والمعرفة لتلك النفوس الحية بموجدها أو بمبرمجها ...... وقد قلنا سابقا أن
المرحلة الإولى متكونة من عدّة فصول متزامنة مع بعضها البعض ... فهذه المرحلة
بكلمات أخرى هي عبارة عن عوالم محويّة في أخرى أو عوالم متطابقة بعضها فوق البعض
لتشكل بتطابقها عالم واحد هو عالم الحياة الدنيا أو عالم أدنى مراحل المعرفة ...
جون:
أتمنى منك قبل أن تسترسل في شرح تلك
الفصول أن توضح لي بشكل أدق معنى ما عبرت عنه تارة بصفات الأسماء ... وتارة أخرى
بمظاهر الأسماء فما هو مقصدك من تلك التعبيرات؟
الظاهر:
سؤال جيد ويدّل على رغبتك بفهم ما
يدور في هذا العالم ... ولكي أشرح لك قصدي من مظهر الأسم يجب أن تعرف ما هو الإسم
أولا ... فما هو الإسم؟ .... وقبل أن نحدد ما هو الإسم دعني أذكّرك بأحداث وقعت
كنت قد مررت عليها في ما سبق بشكل سريع ... وأقصد تلك الأحداث في عالم العقل أو
عالم البرامج حيث قام سيّدي بالربط ما بين تلك البرامج أو النفوس بعد أن زوّد كلّ منها
بجنود العقل وبجنود الجهل وبتعبير آخر ألهمها مصاديق الطاعة ومصاديق العصيان وبتعبير
أدقّ هداها لمصاديق المعرفة ولمصاديق الجهل
لتتصل تلك النفوس في عالم العقل مع
بعضها البعض وهي لا تعرف أو تدرك في وجودها غير تلك الجنود ... فتتصل ببعضها البعض
في عالم لا مال به ولا بنين ولا نساء وحيث لا يوجد لها به أي من تلك الشهوات أو
الأحاسيس أو الرغبات ... فقط تلك الجنود ... فلو افترضنا جدلا أن أحد تلك الجنود
اسمه المرارة .. فهل ستستطيع تلك النفوس أن تفهم اسم المرارة عن طريق الشّرح
النظري وبدون أن تتذوّقه ولو لمرة وآحدة؟ بالتّأكيد كلاّ ... ولكن لو جعلنا لتلك
النفس حاسة تتذوّق بها حقيقة المرارة ... ثمّ جعلنا للمرارة مثالا أو مظهرا لحقيقة
المرارة كالحنظل على سبيل المثال ثمّ مكّنت تلك النفوس من تذوّق ذلك الحنظل بتلك
الحاسّة فستعرف حينها بالتّأكيد معنى حقيقة اسم المرارة بدون شرح يذكر وبمجرد
استحضار اسم المرارة عندها ... فالحنظل هنا هو إسم سيظهر معنى حقيقة إسم آخر وهو
المرارة ... لأنّه متحيث بحقيقة المرارة ... من هنا نفهم أن عالم العقل هو عالم
الأسماء فقط ولا مظاهر لتلك الأسماء فيه ... وتلك العقول التي أحبت سيّدي ومولاي
في هذا العالم كانت قد أحبّته فقط من خلال أسمائه ومصاديق طاعته .. بدون أن تتذوّق
طعم حلاوة أو مرارة تلك الأسماء أو تلك المصاديق ... ومن لم يحب منها تلك الصفات
تبعا لم يؤمن بصاحبها .... ومن هنا جاء طلبها أي تلك النفوس أو البرامج التي لم
تحب تلك الصفات من سيّدي ومولاي بأن يجعل لتلك الأسماء والجنود مظاهر حقيقيّة
قابلة للفهم والتذوّق ليستطيعوا تذوقها بشكل عملي فيحبّوها ويؤمنوا بما هو جميل
منها وينكروا ما عداها وكان العهد منهم على ذلك .... فجائت الإستجابة من سيدي ومولاي
لطلبهم على شكل هذا العالم بمراحله وفصوله المختلفة ... فإذا كانت واحدة من صفاته
وأسمائه هي الكريم الأكرم .. جعل في هذا العالم من تلك النفوس من يعرف بهذه الصفة
فيحبونه لكونه مَظهر لصفة من صفات سيدي ومولاي وهي الكرم المطلق ... فيكون أكرم من
في هذا الوجود هو أعظم مُـظهر لإسم الكرم أو أعظم مُـظهر لكرم سيّدي ومولاي ...
فمُـظهر الإسم إذن هو من سيجسد في رحلة المعرفة ذلك الإسم أو تلك الصفة لسيّدي ومولاي
حقّ التجسيد
ألس:
و ما هو مقامكم من تلك الأسماء وأيّها
ستُـظهرون؟
الظاهر:
لقد قلنا سابقا بأنّنا نحن الواسطة
التي ستفهم بها وعبرها تلك البرامج صفات موجدها ومبرمجها في رحلة المعرفة ... أي
عن طريقنا ستتم لهم المعرفة بسيّدهم .... وكما تقولون بالأمثال أنّ فاقد الشيئ لا
يعطيه .... فلكي نستطيع إفهام صفات سيدنا ومولانا لتلك النفوس يجب أن نكون معتقدين
بها تماما الإعتقاد ... ونحن كذلك ... وإذا كنّا كذلك أصبحنا مالكين لها ومتجسّدين
بها وبالتّالي مجسدين لها جميعا ... ونحن أيضا كذلك ... فما من صفة أو إسم لسيدي ومولاي
إلا كنا نحن أعظم مظهر لذلك الإسم وكنّا نحن المُـظهرين له أعظم إظهار ... كما وكنّا
نحن كذلك المجسّدين له أعظم تجسيد ... فنحن هم من جمع سيّدي ومولاي جميع صفاته بهم
وجعلهم المُـظهرين لها جميعها لجميع البرامج والنفوس
ألس:
تريد أن تقول من ذلك أنّكم هو وهو
أنتم ولكنّكم من صنعه؟
الظاهر:
تعبير جميل وموجز تمام الإيجاز
لصفتنا وصلتنا بسيدنا ومولانا .... فصلته بنا هي صلة ذات أصيلة بذات مجعولة منه
بدون توسط ذات أخرى ... وما عدانا من ذوات هي منّا وتتوسّطنا للإتصال به .... فنحن
هم الوسيلة إليه .... ونحن فقراء لسيدنا ومولانا فقط ... وغيرنا من الذوات فقراء
لنا أبتدآء ولسيدنا ومولانا بالأصالة لأننا فقراء له إبتدآء .... فكلّنا فقراء
لسيّدنا ومولانا .. ولكن على درجات ... فمنّا بدون توسط ... ومنّا بتوسط .... والفقير
بدون توسط .. أي عبر الإتصال المباشر مع سيّدي ومولاي هو واحد فقط .... وهو الأوّل
أو الباطن والظاهر .... وهو من حدّثكم في أوّل رحلتكم هذه ... وكما نوّهنا سابقا
بأنّه هو الباطن والظاهر ... وجعلني مـُظهر ظاهره .... إسم على ثلاثة أسماء وهو أسم على أربعة أسماء وأنّ روحنا هي جزء منّا
وكذلك هي قدرتنا وعلمنا .... فنحن وإن كنّا أجزاء أو مقامات متعددة ... فإنّنا
نشكل مقاما واحد لا يتجزّء ولا يتفرّق .... فحيث ما وجد أحدنا لزم وجود البقيّة
منّا معه .... فنحن مثلا أعظم لسيدنا ومولانا ... مع فروق ..... فهو واحد لا يتجزء
ونحن أجزآء لا تتجزء .... هو الغني المطلق ونحن الفقراء إليه ... هو صاحب الصفات
العظمى ونحن الأسماء العظمى المُظهرة لتلك الصفات العظمى ..... هو ليس مثله شيئ ونحن
مثلُه الذي صنعه وبرمجه وليس كمثلِنا في هذا الوجود من شيئ .... جعل لنا ذات
فعرفناه بها .... وكنّا ذات مـِنهُ .... يِِِِـُعرَفُ بها وبواسطتها ... والفروق
كثيرة بعدد أسمائه ... فهي جميعها له بالأصالة والغنى ولنا بالإعطاء والإفاضة والفقر
... فهو الأوّل قبل إنشاء هذا الوجود ... ونحن أوّل إنشاء ... هو يعلم بكلّ ما
يجري بهذا الوجود فهو فعله .... ونحن نعلم كذلك به لأنّنا أداته التي تعمل بأمره ومشيئته
فتفعل ما يشاء ويأمر .... وهلمّ جرّه ... فكلّ ما هو له في هذا العالم بالأصالة أي
بمقام الغنى .... هو لنا بالإعطاء والإفاضة منه علينا أي بالفقر .... فهي له
بالغني ولنا بالفقر
جون:
إذن نحن نتكلّم معه في هذه اللحظة؟
الظاهر:
بل مع عبده
جون متململا:
و ما الفرق في ذلك ما دمت تعبّر عن
ذاته قولا وفعلا؟
الظاهر:
هو الفرق بين الفعل والفاعل ...
فالفاعل موجود بذاته والفعل موجود بفاعله .... وإن سألته عني قال لك هو مثَـلي ..
فهو يسمّيني ويصفني كيفما شاء ... وأمّا قولي أنا .. فأنا علىّ على كلّ ما دوني ..
وله عبد مطيع ... ولأنّني له عبد مطيع ... إذا شئت تنفيذا رغبته ... سيجري لي
سيّدي ومولاي كلّ ما أحتاجه لتحقيق ذلك الشيئ من القدرة والعلم والحياة لأحققه
بقدرته بلمح بالبصر فيكون كما شئت له أن يكون ... وهذا الأمر جاري لكلّ البرامج
الأخرى فإذا بلغت إحداها مرتبة من الطاعة جرى لها هذا الوجود طائعا حسب مرتبتها من
الطّاعة والعلم ... وهو القانون العام في هذا الوجود ... برنامجي أو عبدي أطعني
تكن مثلي تقول للشيئ كن فيكون وهذا القانون ليس جائزة تعطى للمطيع من تلك النفوس ولكنّه
بمثابة العلامة التي تدل السالكين إليه بأنّهم على الطّريق المؤدي للمعرفة وأنّهم
متوجّهين بطاعاتهم إلى المبرمج الحقيقي والموجد الحقيقي لهم والذي وضع هذا القانون
... فكلّما وجد أنّ أسباب الوجود مسخرة له وبأمره علم أنّه لا يزال على الطريق
المستقيم له ...و إذا فقد إحدى تلك الكرامات علم بإنّه بدأ بالإبتعاد فيتدارك
ليعود الى الصراط المستقيم ... وجميع البرامج أو النفوس هي في طريقها أخيرا للوصول
لهذه المرتبة من الطاعة وحينها سيكون الوجود بالمثل مطيعا لها ... فهو أوجدها
لتبلغ غاية معرفتها بموجدها وهي لن تصل لتلك المرتبة من المعرفة بالعلم النظري فقط
... بل ... بالعمل والتطبيق لما فهمته من ذلك العلم النظري ... وعندما تصل أخيرا
لتلك المرتبة الوجوديّة المتقدّمة فتقول للشيئ كن فيكون .... ستكون حينها قد وصلت
لدرجة متقدمة من العلم والمعرفة بموجدها ... فيكون حالها هو تماما مثل حالنا الذي
عبّرت عنه ألس قبل قليل ... هو نحن ونحن هو ولكنّنا عباد له ... فيصبحوا حينها ...
هم هو ... وهو هم ... ولكنّهم عباد له من صنعه ... وتلك هي قمّة المعرفة والعلم
بالشيئ بأن تصبح مثله .. فبعد أن تذوّقت تلك النّفوس وخبرت صفاته وأسمائه كلّها
عبر توسيط الجسد والحواس لتذوّق الصفات ... ستصل في هذه المرحلة إلى تذوّقها لقدرة
موجدها بمجرّد المشيئة أي بمجرد مشيئتها هي ... وحينها ستصبح مشيئتها هي مشيئته
... وقدرتها هي قدرته ... لتصبح بقدرته ومشيئته مثلـُه .. فتفهم حينها وتدرك معنى
تلك الكنوز المخفيّة أو تلك الذّات العظيمة ... والتي ما كانت لتظهر وتُعرف لولا أنّها
... أي تلك الذّات ... أوجدت منها لذلك الهدف نفوس أو برامج ذات مشيئة مستقلة ...
لها من العلم والقدرة والحياة في نفس مستقلة وجامعة لتلك الصفات ولكلّ من تلك
الأسماء التي ستمكّنها من أن تصل بها وعبرها لهذا المقام {{ مقام المثليّة }} في
وجود قدّرته تقديرا دقيقا .. لتقودها عبره حتّى تصل بها لهذا المقام الرفيع ... وذلك
عبر تمكينها أوّلا من التّلبّس بعلمه وحياته وقدرته لتتذوّق بها صفاته وأسمائه ولتصل
أخيرا لتذوّق قدرته المطلقة بالمشيئة ... فتسعد أخيرا عبر مقام المثليّة بمعرفة
تلك الذات العظيمة على ذلك النحو .... وهذ المقام هو كذلك درجات ... فمن مقام ستحي
به الموتى أو من مقام ستجري به الرياح والغمام رخاء حيث شائت أو من مقام ستشفي به
المرضى أو من مقام ستستجاب به دعواتها ... وهلمّ جرّه صعودا لمقام له قدر اثنان من
تلك المقامات ... ومن ثمّ لمقام له قدر ثلاث أو أربع أو خمسة مقامات أو أكثر من
ذلك ... حتّى تصل لمقام المثليّة الكاملة إلا مقام واحد .. وهو مقام الغنى بالذّات
.. فتبقى عنده طامحة عطشانة للغنىّ بالذات وراغبة له فلا تجد له سبيل إلا
بالتّوحّد معه والرجوع إليه فتطلب حينها الرجوع إليه لتصبح جزء منه غنيّة بغناه ...
ومقام طلب الرجوع هذا هو الآن مقام الظاهر وباطنه ... وهو مقامنا حيث لا يعرف
سيدنا ومولانا حقّ معرفته إلا أنا والباطن .... ولا يعرف مقام الباطن حقّ معرفته
إلا سيدنا ومولانا وأنا .... ولا يعرف مقامي حقّ المعرفة ... إلا سيدنا ومولانا والباطن
.......
ألس:
عذرا للمقاطعة ولكنّني أشعر بالتعب
الشديد ... فبعد ما مررنا به وسمعناه اليوم منك أودّ أن نتوقّف هنا ... فلم أعد
قادرة على التركيز أكثر من ذلك
الظاهر:
لك هذا بالطّبع
جون:
و أنا كذلك ... فما تقوله يحتاج إلى
جهد كبير للإستيعاب والتّصوّر
الظاهر:
أستطيع فهم وإدراك ما تعانون منه في
هذه اللحظة ... فكلّ ما تعتقدونه من عالمكم هو المادة وعلاقتها مع بعضها البعض ...
وهنا أطلب أنا منكم الّتجرّد من تلك المعتقدات لتفهموا عالم أخر هو ضمن عالم
تتعلّق حواسكم به ... ففكركم الآن مقتنع بتجرّد عالمي هذا عن كلّ ما هو من أسباب
المادّة ... بينما حواسكم مقتنعة بمادّيّته ..... وحتّى يتغلّب أحدهما على الآخر
ستبقون في حالة من الإجهاد والحيرة .... وما لم يتغلب الفكر على الحواس فيقنعها من
أنّ ما تحسّه وتراه هنا هو ليس بضوء ... تماما كما أنّ ما تسمعه هنا ليس بصوت والحرارة
ليست بحرارة والنار ليست بنار وأنّ كلّ ما تحسّه هنا هو شيئ غير كلّ ذلك ... فما
لم يتحقّق ذلك التّجرّد لن تستطيعوا أن تفهموا حقيقة ما يجري هنا ... وبهذه
الكلمات سنتوقّف اليوم كما رغبتم على أن نلتقي في ما بعد ... بالطّبع سنبقى على
اتصال متى وكلّ ما رغبتم بذلك .... وحتّى لقائنا التّالي أرجوا أن تجدوا أسلوبا
للتّجرد قدر المستطاع عن بعض تلك الأحاسيس ... ومرّة أخرى ... ستجدونني عند الحاجة
رهن إشارتكم ... وحتّى ذلك الحين أستودعكم بألف خير ...
لحظات قصيرة بدؤا بعدها يشعرون بثقل
أوزانهم حين انقطعت صلتهم بعالم الحاسوب فبدؤا من فورهم بنزع ما كان عليهم من
الأجهزة ... لحظات معدودة كانوا بها منشغلين بخلع تلك الملابس عن بعضهم البعض ...
وقفا بعدها ينظران لبعضهما البعض ..... لحظات قصيرة مرت بطيئة ... تقدّمت بها ألس
من جون لتضع يدها المرتجفة على وجنتيه لتتحسس تلك الأخاديد التي حفرت عميقا ... هو
بدوره ينظر لأكتافها الهزيلة .. ويتلمّس شعرها الخشن المملوء شّيبا ... لحظات
قصيرة حدّقت بها ألس في عينيه لتتدحرج منها الدموع غزيرة ...
إلى صدره ضمّها جون قائلا:
سوآء كنت شابة يافعة أو سيدّة ناضجة
أو جدّة حكيمة ستبقين أبد الدّهر في عيني وقلبي وروحي جميلة الجميلات
ألس باكية:
و لكنّه كان حلم جميل ... بل كان واقع
جميل نسيت به كم كانت ثقيلة تلك السنين التي أحنت ظهري وظهرك وتركت علينا آثارها
... ليت ما فعله يتحقّق تارة أخرى ... ليت الشباب والجمال يزورنا مرة ثانية .. ليت
بريق عينيك لرؤيتي يشرق من جديد ... ليت السّعادة تغمرنا بضحكاتها ... ليتني ..
جون ممسكا بكتفيها:
أرجوك توقّفي عن هذا ... فنحن حتّى
الآن نبلي بلآء حسنا ... فلا تجعلي من تلك اللحظات الجميلة سبب لشقائنا ... فرؤيتي
لك تنهارين لن يجلب لي ولك سوى الإحباط والفشل .... تجلّدي فالطريق أمامنا طويل
... ومن يدري ... لعلّنا أخيرا نصل لتلك السعادة ثانية
ألس:
ماذا تقصد؟
جون:
أقصد أن نستحمّ الآن ومن ثمّ نخلد
للراحة ... وغدا سنفكّر بكلّ ذلك
ألس:
ليس الآن ... فلا أظنني قادرة على
ذلك
جون:
بلى أنت قادرة على ذلك .. بل ويجب
علينا ذلك .. فمع هذا التعب والإرهاق لن نتمكّن أبدا من ترتيب تلك الأفكار .... ولن
أخفيك سرأ بأنّني أشعر وكأنّني لم أفهم شيئا ممّا قيل أو إلى أيّ نتيجة كنّا قد
وصلنا ... ولن أفكّر بأيّ من ذلك قبل أن أنال قسطا من الراحة ... فهيا لنستحمّ ثمّ
نخلد للنوم .. وغدا سيكون أمر آخر ....
لقد كان جون مصمما على الراحة ..
فاستحمّ سريعا وأندسّ بفراشه ليغطّ بالأحلام ... ألس بدورها وهي تحت الماء المنهمر
كانت تحاول أن تبعد أفكارها عمّا جرى طوال اليوم ... ولكنها تذكّرت إثر ذلك الماء
الذي يغمرها لحظة سقوطها في الماء من على ظهر البساط الطائر في أوّل تلك الرحلة
... وكم كانت تلك الوحوش أليفة عند أقدامهم .. كما وتذكّرت عودة جمالها وشبابها
بطرفة عين .... وذاك الذي رغم كلّ ما له من القدرات والعلوم لا ينفكّ يحقّر من
شأنه مقابل من كان يدعوه بسيدي ومولاي ... تذكّرت تلك الفتاة النورانيّة حين قالت
أنا الروح ... فماذا تقصد بأنّها هي الرّوح؟ ولماذا كانت هي الرّوح وليس أحد
الرجلين الآخرين؟ ... وما معنى تلك الرموز؟ وكيف هو التّجرّد؟ ولماذا لن نستطيع
فهم كلّ ذلك ما لم نتجرّد؟ ... الماء من الخارج يغمرها ... والحيرة من الداخل
تعتمرها ... صور وأفكار وذكريات تتسارع بمخيلتها ... تريد أن تتوقّف فلا تستطيع
... لتتذكّر حينها نصيحة جون بالخلود للراحة من أجل يوم جديد .. فأقفلت الماء
سريعا وكالطفل يهرب خائفا لحضن إمّه ... هربت للفراش محتمية به ... فاحتضنها بدوره
لتغطّ بين دفئه وحنانه في سبات عميق ....
يتبع بالجزء الثاني